أبناء العصر
جلست أستمع إلى محاضر يتحدث عن أساليب التربية. كان متحمّسا لما تعلّمه أكاديميا من طرائق وتعليمات في تنشئة الأجيال. كان يقترح أساليب “ذكيّة” للتعامل مع جيل يتحرك بإيقاع حياتي وتكنولوجي مختلف عن جيل الآباء. الأساليب الذكية المقترحة تدور حول إعادة تعليب الأساليب القديمة وكتابة عبارة “طرق جديدة” على العلبة من الخارج. المطلوب إذن أن نربّي أولادنا على ما تربّينا عليه من قيم وممارسات وأن نجعلهم نسخا مماثلة من شخصياتنا.
لحظة رجاء. آباؤنا وأمهاتنا لم يكفّوا، ونحن أطفال وصبيان وصبيات، عن توبيخنا لأننا نتعلم يوميا عادات سيئة من عصر مختلف عن عصرهم. ولا شك بأن أجدادنا وجداتنا وبّخوا آباءنا وأمهاتنا على سلوكيات لا تنتمي إلى العرف السائد في ذلك الزمان. في كثير من الأحيان كان التوبيخ غير محدّد المعالم. هو انتقادات عائمة بأننا، مثلا، نشاهد التلفزيون أكثر من اللازم، أو نطالع قصصا ومجلات في أوقات يجب أن تخصص لقراءة الكتب المدرسية. يقولون لك إن العقل السليم في الجسم السليم، ثم تسمع تقريعا إذا خرجت تلعب كرة القدم مع أصدقاء الحي. ربما هو الارتباك الذي يصاحب كل عملية تغيير بين الأجيال، أكثر منه أخطاء يرتكبها الجيل اليافع بالمقارنة مع جيل الآباء.
ثمة افتراض أن الجيل الأقدم هو جيل أفضل. هل هذا صحيح؟ لا أعرف، ولكن هل هناك وجه للمفاضلة بالأصل؟
خذ مثلا آباءنا وأمهاتنا من جيل الخمسينات. ذهبوا وتعلّموا ووصل بعضهم، البعض القليل نسبيا، إلى المرحلة الجامعية. كانوا يستمعون إلى الراديو وفرحوا بوصول التلفزيون. لا أعرف كم كتابا بالمعدل قرأ كل منهم، ولكن كانوا مولعين بالروايات أكثر من المعارف. أخبار النجوم استقطبتهم وكان ذاك عصر رواج مجلات الصّور والممثلين والممثلات. البعض اجتذبتهم السياسة وأصبحوا عقائديين متفانين. هم أبناء عصرهم.
جيلنا ممن عاش طفولته وصباه في السبعينات والثمانينات. التلفزيون كان تحصيل حاصل، والراديو لا تستمع إليه إلا في السيارة. أغاني البوب كانت أهمّ من الممثلين. قرأنا أكثر وبتنويع أفضل. صرنا أكثر اهتماما بالمعارف وأقلّ ولعا بالروايات. السياسة بالنسبة إلينا كانت من اهتمام الجيل السابق الذي احتكرها لنفسه لأنه “يفهم أكثر منا” وبنتائج كارثية معروفة. تعلّمنا أكثر منهم. كنا أبناء عصرنا.
جيل التسعينات والألفية الثالثة كان أكثر مرونة من جيلنا. صار يقلب بالقنوات الفضائية. بدلا من تضييع أيام على كتاب، صار يشاهد فيلما مقتبسا عن رواية أو برنامجا وثائقيا عن شيء معرفي. هل الكتاب أفضل؟ أيضا من الصعب الحكم. إذا كان العالم يتوسع وعليك أن تتعلم أسرع وأكثر، فيجب تطويع طريقة الإيصال للمعلومة غير المتخصصة لكي تنقل بزمن أقل وبطريقة أكثر مرونة. علّمونا في الجامعة أن المنحنيات الدلالية توصل الفكرة في كثير من الأحيان أكثر من النصوص، وأن الرسوم التوضيحية تفك طلاسم الشروحات المكتوبة. ثم إذا كان أبي وجدي متسمرين أمام الفضائيات، الإخبارية والدينية والترفيهية، لماذا يمنعون فضائيات أخرى عني، ولماذا هجر الكِتاب بيوتنا. خير جليس في الزمان مسلسل مدبلج.
يا ويل جيل الأطفال والصبيان الحالي. هذا جيل متمرد حتى على الفضائيات والبلاي ستيشن. تحدثه فلا يرد لأن السماعات الصغيرة في أذنيه. لا يريد إلا أن يترك بحاله لكي يتراسل مع أصدقائه وصديقاته عبر التطبيقات الكثيرة على الهواتف الذكية. تعال يا ولد وتعالي يا بنت لمشاهدة التلفزيون معنا واتركا الهاتف. ما هذا؟ صار التلفزيون المفسد من مكارم الأخلاق؟
لا يوجد شيء اسمه “تربية ذكية” قائمة على الفرض والتوجيه الصارم والقواعد المطلقة. لا يمكن وضع صيغة تربوية تتناسب مع كل عصر وزمان. لا توجد سلوكيات عائلية عابرة للقرون، إلا بقدر منظومة القيم الإنسانية الأساسية. لو فرضت ساعات محددة لاستخدام الهاتف الذكي على الطفل أو مشاهدة التلفزيون (التلفزيون الآن لا يعني البث الفضائي أو الأرضي بل البث المتدفق عند الطلب من نتفليكس أو أمازون أو يوتيوب) سيتحوّل البيت إلى ما يشبه المعتقل وستخرّب العلاقة بين الآباء وأبنائهم. فالدور التربوي ليس دورا لرجل شرطة يراقب ويعاقب. والقصص النمطية عن الولد الرضي والآخر العاق لا علاقة لها بإجراءات القمع التي يمارسها الآباء والأمهات والمربون. لا تستطيع أن تمنع الآيباد/الكمبيوتر اللوحي عن الطفل أو الصبي في البيت لكي يقرأ كتبه، وفي نفس الوقت تسعى الدول لإلغاء الكتب المدرسية بشكلها الحالي وتحويلها إلى أداة متفاعلة من خلال نفس الآيباد الممنوع.
أولادنا اليوم ليسوا بضاعة خربانة، بل هم أبناء عصرهم. رفقا بهم.