أجنحة المخيلة
لطالما كان السفر حاضرا بقوة في صلب توجهات الثقافة العربية، فقد بدا للشعراء والناثرين والعلماء أرضا للتجارب التي يحتاجها الأدب، وفضاء للبحث عن الجديد، للتعرف على الآخر وعالمه المختلف، واختبار الذات في علاقتها بالآخر، والهدف الأخير إعادة اكتشاف الذات، وتفجير مكنوناتها الإبداعية. فالسفر أفق للمخيلة الأدبية ونزوعها نحو المغامر، وجموحها المعرفي الخلاق.
منذ أن هتف امرئ القيس: “بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصر”، وحتى اللحظة الحاضرة والشعر العربي سفرٌ، والشاعر مسافر في العالم.
قال أبو تمام:
وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقُ
لديباجتيهِ فاغتربَ تتجددِ
وقال الشافعي:
إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ
إِنْ سَال طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
ورمى ابن عربي بكرة المعنى أبعدا لتطال الشرق والغرب معاً، فهو الصوفي الشاعر، والفيلسوف صاحب الرؤيا الكلية للوجود في وحدته المطلقة، وخلاصته المؤنثة ، بسفر المخيلة، بعد السفر في الأرض يفرد الرؤيوي جناحيه وسع الأرض ويوسع بهذين الجناحين أرض الفكرة وسمائها:
رَأى البَرقَ شَرقِيّاً فَحَنَّ إِلى الشَرقِ
وَلَو لاحَ غَربِيّاً لَحَنَّ إِلى الغَربِ
فَإِنَّ غَرامي بالبروق وَلَمحِهِا
وَلَيسَ غَرامي بِالأَماكِنِ وَالتُربِ.
ما من شاعر أو كاتب أو فيلسوف إلا وكان السفر منجم فكره وإبداعه وسبيله لبلوغ المجهول. ولكن ماذا عن الرحالة الأدباء، الرحالة الذين عنوا بالسفر وكتبوا يوميات أسفارهم، فلم يكتفوا بأن ينالوا المتعة أو يتصلوا بأمر عبر السفر، ولكن حرصوا على أن تكون لهم يوميات مدونة لتلك الأسفار، كما هو الحال بالنسبة إلى شمس الدين الطنجي، المكنى بابن بطوطة، وابن جبير الأندلسي، وأميل اليوم لأن أتوقف عند الأخير لاعتبارات تتعلق بزمن رحلته، وبفرادة ما جاء فيها، من شهادة على السنوات الاخيرة للوجود الصليبي في بلاد الشام. شيء مدهش حقاً أن يصف لنا شاهد عيان وقائع مرت عليها قرون، وها هو الرحالة يروي لنا ما رآه كما لو أنه وقع قبل أيام. هو ذا ما تتركه فينا مشاهدات ابن جبير.
***
كان كاتباً وعالماً وشاعراً، واشتهر كرحالة. والده أبوجعفر بن جبير وقد كان كاتباً لدى أحد الأمراء الأندلسيين في شاطبة في فترة عرفت اضطراباً سياسيا واجتماعيا كبيرين، وشهدت نهاية عهد المرابطين وقيام دولة الموحدين. في تلك الحقبة المضطربة ولد رحالتنا الذي سيقيض له بعد ثلاثة عقود أن يكون شاهد عيان فريد من نوعه على أحداث ووقائع كبرى جرت بين الصليبيين والعرب، وقد شهد ذلك التاريخ بموجب تلك الأحداث ظهور شخصية قوية على المسرح الدولي لعبت دورا حاسماً في إحداث فرق تاريخي في مجريات الصراع تمثلت في السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي سيبدي ابن جبير إعجاباً كبيراً به معبَّراً عنه في شعره ويومياته، وهو- أي تحرير بيت المقدس – ما كان سببا في قيام ابن جبير برحلة ثانية إلى المشرق، ليزور القدس سنة 583 هـ ولن يكون فيها صليبيون هذه المرة.
***
انتقل ابن جبير من بعد نشأته في شاطبة وإقامته في مدن أندلسية ومغربية كجيان وبلنسية وسبتة وفاس، ليقيم في غرناطة التي عشق أجواءها ومناخاتها العلمية والأدبية كما حدث لأبيه من قبله. ومن أخبار علاقته بأمراء غرناطة حادثة وقعت له وكانت دافعاً لانصرافه عن الكتابة للأمراء وقيامه برحلته إلى المشرق، فقد استدعاه أبوسعيد بن عبدالمؤمن صاحب غرناطة ليكتب عنه كتاباً، وكان عبدالمؤمن عُرف بإفراطه في حبه للشراب. في ذلك اللقاء ناوله الأمير كأسا فأعرض عنها قائلا “والله ما شربتها قط” فأصرّ الأمير وأقسم “والله لتشربن منها سبعاً” ففعل مكرها. و”شرب سبع أكؤس، فملأ له السيد الكأس من دنانير سبع مرات وصب ذلك في حجره، فحمله إلى منزله وأضمر أن يجعل كفَّارة شربه الحجَّ بتلك الدنانير”.
أياً يكن الدافع، فقد قام ابن جبير الأندلسي بثلاث رحلات إلى المشرق العربي، الأولى، وهي الأطول والأهم، استمرت عامين وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوما، ما بين شباط 1182 ونيسان 1185، وهي الرحلة التي قيد على إثرها الكاتب ما وصلنا منه تحت عنوان “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار”، أو “رحلة ابن جبير”.
وقام بالرحلة الثانية في التاسع من ربيع الأول سنة 585هـ، أي بعد أقل من سنتين على تحرير القدس من الصليبيين، وهدفه الوصول إلى بيت المقدس. هناك أخبار مختلفة في تواريخ مغربية ومشرقية تشير إلى ظهور ابن جبير في دمشق والقدس في تلك السنة، واتصاله ببعض علمائها وأدبائها.
أما رحلته الثالثة والأخيرة سنة 601 هـ فقد كانت رحلة اللاعودة إلى الأندلس، ليقيم أولا في دمياط ثم في الإسكندرية إلى أن وافاه الأجل فيها في شهر شعبان من سنة 614 هـ 1217م. ولعل فاجعة فقده لأعز الناس عليه ولده وزوجه أكبر الأثر في مبارحة وطنه الأندلسي وفي عزمه ألاّ يعود إليه أبداً، وهو الذي أنشد مرة:
لاَ تَغْتَرِبْ عَنْ وَطَنٍ واذْكُرْ تَصَارِيفَ النَّوَى
أما تَرى الغُصنَ إذا ما فارقَ الأَصلَ ذَوى
سوف نعثر في ديوان ابن جبير على أبيات شعرية تبلّغ عما أصاب وجدانه من أذى ذلك الفقد، فبات يؤثر الشرق على الغرب أثرةَ متطرفٍ:
لا يستوي شرقُ البلاد وغربها الشرق حازَ الفضل باسترقاق
انظر لحالِ الشَّمس عند طلوعها زهراءَ تَصحَب بهجةَ الإشراقِ
وانظر لها عندَ الغُروب كئيبة صفراء تَعقب ظلمةَ الآفاقِ
وكفى بيومِ طُلوعها من غربها أن تؤذن الدنيا بوشكِ فراقِ
تجدر الإشارة إلى أن طبعات عدة ظهرت لهذه الرحلة منذ أن أخرجها أول مرة عن مطبعة لَيْدَن المستشرق الإنكليزي وليم رايت (William Wright) سنة 1852، وزوّدها بمقدمة ضافية عَرّفت بابن جبير، استناداً إلى من ترجم له وما ورد عن رحلته في “نفح الطيب..”، للمقّري، و”الإحاطة..” لابن الخطيب، و”تاريخ..” المقريزي وقد علّق على هوامش النص وزوده بالفهارس. وكانت قد ظهرت في باريس سنة 1846 طبعة مجتزأة من الرحلة اقتصرت على الجزء المختص بصقلية. أما الطبعات التي ظهرت للرحلة في العواصم العربية فقد استندت كلها إلى طبعة ليدن ونادراً ما أغنت مقدمتها، بل إن بعضها اختصر فيها، فلم تبلغ، في نظرنا، درجة التحقيق الرصين الذي يدرس الرحلة درساً معمقاً يستجلي ما جاء فيها من فرائد الوصف والأخبار، ويدرجها في سياقات تاريخية ونقدية كاشفة. وهي مهمة ينتظر من باحث ضليع أن يتصدى لها وفق منهج حديث في التحقيق، يأخذ في الاعتبار جملة من المسائل، أولها ضرورة التفريق بين رحلتين لابن جبير الأولى هي “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار” والتي تختصر عادة من قبل جل الناشرين بـ”رحلة ابن جبير”، وبين نص آخر للكاتب دوّنه على إثر رحلة ثانية قام بها إلى الحج، وقد حُقق هذا النص ونشر مؤخراً تحت عنوان “رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك”. عثر على هذا النص في متن “محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار” لمحيي الدين بن عربي مغفلا من اسم صاحبه، وذلك من قبل الباحث المغربي رشيد العفاقي، وبعد البحث والتدقيق تأكدت نسبته إلى ابن جبير وقد حققه ودرسه ونشره في الرباط سنة 2014 في إطار سلسلة مغربية تحمل اسم “”لطائف التراث”. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض من أخرج الرحلة خلط بين نص رحلة ابن جبير الأولى المسماة “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار” وبين نص الرحلة الثانية، فأطلق على الأولى اسم الثانية، وكان أول من وقع بهذا الخطأ هو رايت نفسه، ولكونه حار بين العنوانين، ولم يكن قد اكتشف متن الرحلة الثانية، لجأ إلى نشر النص تحت عنوان ثالث مختصر هو “رحلة ابن جبير”. وهو النص نفسه الذي نشر في العواصم العربية.
أما المسألة الأخرى التي يجدر أن تؤخذ في اعتبار الدارسين العرب في حقل أدب الرحلة فهي ضرورة درس جزء من شعر ابن جبير لكونه يبدو لي مرتبطاً برحلته ارتباطاً لا بد من الكشف عنه، وهو ما يوسع من المعرفة بأدبه وفكره.
***
بدأ ابن جبير رحلته التي نحن بصددها خارجا من غرناطة في أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال 578 هـ صحبة رفيق له هو جعفر بن حسان ووصل الإسكندرية في الـ29 من ذي القعدة، فأقام في البحر على ظهر المركب 30 يوماً سهد خلالها ورفيق رحلته الأهوال، وتحتفظ يوميات رحلته بصور مدهشة وغير مسبوقة في الأدب العربي، بعضها يلهب المخيلة ويحبس الأنفاس. خصوصا تلك التي يصور فيها أهوال البحر.
وخلال هذه الرحلة التي استمرت عامين وثلاثة أشهر و15 يوميا، حج ابن جبير إلى مكة وقصد المدينة وبيت المقدس وزار مصر والعراق والشام. على أن أهم ما في رحلته هذه في نظرنا، وهو ما حملنا على اختيار ما اخترناه منها، هو ما دوّنه عن زيارته لبلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين الأردن، اليوم) وما سطّره مما شاهده أو عرض له في الحل والترحال، عبر المدن والبلدات والموانئ، لاسيما في دمشق وعكا وصور. وتحتل ملاحظات الرحالة المتعلقة بالعلاقات والتعاملات بين الصليبيين وأهل البلاد، كما في صور وعكا أهمية استثنائية، وهي تشغل حيزا بارزا في يومياته، وكان الصليبيون مازالوا يسيطرون على حواضر بارزة في سواحل الشام وموانئها.
وتستكمل هذه الرحلة قيمتها الكبرى في ما دوّنه الرحالة من مشاهدات وانطباعات وأخبار فريدة من نوعها عن أحوال بقايا العرب والمسلمين في صقلية التي حل فيها خلال رحلة العودة وطاف في مدنها وبلداتها وموانئها واتصل ببعض أهلها ممن مازالوا مقيمين فيها، ليشهد الآثار التي تركها انهيار الحكم العربي وتصفية الوجود السياسي والثقافي والإداري والعسكري الذي كان لهم فيها. وهي في الجملة تقييدات تتضاعف قيمتها إذا ما تذكرنا أن رحالتنا دأب على تدوينها ساعة بساعة منذ أن استقل المركب البحري مقابل جبل شلير في مستهل رحلته يوم الجمعة الـ30 من شوال 578 هـ الـ4 من آذار 1183م، وحتى رجوعه إلى غرناطة يوم الخميس الثاني والعشرين من محرم، والخامس والعشرين من أبريل 1185، عائداً من دمشق الشرق إلى دمشق الغرب، كما يطلق الأندلسيون على غرناطة، مردداً مع الشاعر بن حمار البارقي من شعراء ما قبل الإسلام:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
لا تقدر بثمن القيمة الأدبية والتأريخية لرحلة ابن جبير، من حيث هي سرد وإخبار يبعثان على المتعة مصحوبة بالدهشة، وعلى المعرفة مقرونة بالأمانة. فالرحالة في تقييده اليومي لما كان يعرض له ويراه أو يسمعه فيتقصى خبره ويسبر حقيقته ومن ثم يقيده في مدونته، إنما كان يتحرى أقصى الدقة، ويلتزم الموضوعية مهما خالفت ما يعتقده. من هنا فإن يومياته ستبقى تعتبر مرجعاً فريداً من نوعه لشاهد عيان على مرحلة من الحقبة الصليبية لا غنى عنه للباحث في تلك الحقبة الفارقة في التاريخ العربي، أكان مؤرخاً وجغرافياً وعالم اجتماع، أو ناقداً أدبياً، وهي بالتأكيد أثر أدبي رائع لكل قارئ مولع بأدب الرحلة، خصوصاً عندما نستعيد تلك الصور التي دوّنها قلم الرحالة واصفاً فيها أهوال البحر كما لم يسبق لوصّاف أو أديب.
في ما يتعلق بأدبية الرحلة لا بد أن نشير إلى تلك السلاسة التي ميزت لغة العرض والوصف والإخبار، فلا تقعّر في لغة الكاتب، ولا إطناب أو إملال في الوصف أو الإخبار. ولا غرو في ذلك، فصاحبها أديب وشاعر، لذلك نعثر على أبيات من الشعر تفتحت أزهاراً في جنبات الوصف، وعبّرت عن أعمق ما خالج الرحالة، وما تدفق في وجدانه من مشاعر خلال تجواله منبهراً في رقيّ مدن المشرق، أو متألماً لأحوال بعض حواضره الواقعة تحت الاحتلال الصليبي، أو ناقداً ساخراً إزاء مفارقات واجهته وتمثلت في المساوئ الوقتية في مدن الشرق. وهي أبيات شعر عبّرت عن نفس أندلسية نبيلة في تطلعها، مهذبة في ميولها الجمالية والروحية وتطلعاتها الفكرية.
• 1 تشرين الأول/أكتوبر 2021