أدوار مُغيّبة في العصر الرقمي

الصحافة على ثغور الفكر الناقد ومقاومة الهيمنة
الأحد 2023/01/01
لوحة: أحمد الوعري

“الصحافة هي أن تنشر ما لا يريد أحدهم أن يراه منشورا، وفي ما عدا ذلك، فهي مجرد علاقات عامة”، هكذا نظر الصحفي والروائي والناقد البريطاني المعروف جورج أورويل إلى الصحافة، فهي ليست جهازا ملحقا بجهة أو مؤسسة لتضطلع بمهمة تحسين الصورة أو الدعاية أو الإعلان أو غيرها من أنشطة العلاقات العامة، بل هي تستمد ماهيتها من كونها مستقلة وحرة “تنبش” في ما وراء الأحداث والوقائع والمواقف التي لا تتكشف عادة ولا يراد لها أن تظهر أو يطلع عليها الرأي العام، وهي مهمة منوطة بوجه خاص، بالصحفيين الاستقصائيين الذين لا يكتفون بإعادة صياغة البيانات والأخبار والتصريحات ووضعها في قوالب صحفية معينة، بل تراهم يتريثون ويدققون ويبحثون ويجمعون ويفرزون المعلومات من مصادر مختلفة ومتضادة إن لزم الأمر، و ينفذون إلى العلب السوداء الصانعة للأحداث والأسباب الحقيقية التي أوجدتها، و”يقبضون” على السرديات المقيدة والمكممة والمقموعة.

صحيح أن الصحافة عالميا تعاني وجوديا، لاسيما الورقية منها، لأسباب عديدة ومعقدة، أهمها مزاحمة وسائل التواصل وطغيانها خبريا، وشح مصادر التمويل والإعلان، والتكاليف الباهظة لعمليات الطباعة وارتفاع سعر الورق والمضايقة والتكميم الذي تمارسه النظم السياسية على الصحافيين والمؤسسات الصحفية عبر العالم، وغيرها من الأسباب الأخرى، إلا أن هناك عاملا لا يتم الحديث عنه عادة، وهو نوعية المحتوى؛ فالصحافة الجيدة التي تشد القراء وتخلق ولاءهم وتقوى على المنافسة في بيئة صعبة ومهددة، هي الصحافة التي تأتي بمحتوى لا يمكن أن يوجد في صحيفة أو وسيلة إعلامية أو منصة اجتماعية، وتنقل تفاصيل وجزئيات لا تظهر على السطح ولا يفكر فيها، وصانع هذا المحتوى لا يكون إلا صحفيا مكونا بشكل جيد، يملك ثقافة موسوعية وعقلا ناقدا وقدرة على تطويع أدوات البحث والكتابة والتحليل.

على سبيل الاستشهاد، يمكن الحديث عن تجربة فريدة من هذا الطراز، يمثله النموذج الصحفي والاقتصادي لجريدة “لوكانار أونشيني” (Le Canard enchaîné) التي أطفأت في  سبتمبر الفارط شمعتها الـ107، فهذه الجريدة الفرنسية الساخرة ظاهريا والجادة في مراميها وإن كانت فضائحية، لا تمتلك موقعا إلكترونيا خبريا بأتم معنى الكلمة، ولا تعتمد إطلاقا على نشر الإعلانات المدفوعة، بل تعتاش على مداخيل المبيعات الكبيرة التي تحققها جراء ما تنشره من حصريات وتحقيقات وأسرار وحقائق متعلقة بقضايا الشأن العام وبالمجتمع المخملي والطبقة السياسية من الرؤساء والوزراء والمسؤولين، وتلك الحياة القابعة خلف الأبواب الموصدة التي لا يجري الحديث عنها أو تداولها في المجال العام بشقيه التقليدي والإلكتروني، ويراد لها أن تحجب وتظل بعيدة عن الأنظار والعدسات لأسباب متعددة.

والحق أن الأفق المعياري للحريات في الديمقراطيات العريقة مرتفع جدا، إلى الحد الذي تأنف الصحافة أن تكون بوقا دعائيا في لغتها وأسلوبها وطرحها، فلا تحيد عن الحقيقة الموضوعية ولا تتجرد من المعايير المهنية التي تضبط الممارسة الصحفية، مهما كانت الظروف والتحديات والرهانات، فهي صحافة متزنة متحررة من الضغط، ترى السلطة السياسية وتستمع إليها، لكنها لا تفكر عبرها؛ لذلك تظل الصحافة في جوهرها، نوعا من أنواع المقاومة لكل أشكال الهيمنات والأسيِجَة التي تعوق بروز الحقائق وتدفق الوعي، وهي وسيلة حِمائية ودرع واق للصدمات والهجمات والمؤامرات التي تستهدف عقل ووجدان الجمهور، في السياقات الداخلية والخارجية، خصوصا في ظل عصر ما بعد الحقيقة (Post-truth) المرادف للزيف والكذب، والذي وجد في البيئة الافتراضية والتطور التقني، الواقع المثالي والأرضية الخصبة لتشويه الحقائق الموضوعية وتزييفها وحجبها، وضخ حقائق بديلة وأخبار كاذبة ومغلوطة يسهل تصديقها وتبنيها، ويصعب التفرقة بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، وبين ما هو حقيقي وما هو زائف، وهي سمة “الإنسان الرقمي” الذي أضحى رهينا للحياة الدائمة الاتصال ((onlife في البيئة المعلوماتية، مما جعله هشا نفسيا وغير عقلاني في تفكيره، يميل إلى البلادة والسفاهة، بفعل السيل المعلوماتي الغزير و نوعية المحتوى الغارق في الإسفاف والتفاهة والابتذال، لا سيما على شبكات التواصل الاجتماعي.

ويمكن القول بأن الصحافة هي بارومتر الحريات الذي يقيس جودة المناخ الديمقراطي في أي بلد، و استشعار مدى انفتاح نظامه السياسي أو انغلاقه، ودرجة الضغط الممارس من قبله على الحريات الفردية والعامة، فهي المؤشر الدقيق على وجود تعدد في الأصوات والسرديات والأفكار، لا من أجل استقطاب الرأي العام والسيطرة عليه وتوجيهه، وإنما من أجل تنويره وإحاطته بمعلومات وتحاليل كافية تجعله قادرا على رؤية الحقائق و اتخاذ مواقف من القضايا والأحداث والشخصيات بكل عقلانية ووعي،  بعكس ما تريد فرضه الدوغما من أفكار صنمية ورؤى لا تقبل النقاش أو المحاججة، فالمتلقي ذات واعية له القدرة على الفهم و الفرز، و ليس مجرد إسفنجة يشابهها من حيث القدرة على الامتصاص، وفي هذه الحالة الأخيرة، تفقد الصحافة جوهرها، وينتهي دورها ووظيفتها باعتبارها روح الجماهير والشعوب، وتتحول إلى مجرد ترس في الآلة السردية للسلطة السياسية، وأداة من أدواتها الدعائية، لينسدل ستار فضفاض إسمه عصر “ما بعد الحقيقة”، حيث تفقد الحقائق الموضوعية والعلمية تأثيرها على الرأي العام، وتنزاح كرها، تاركة المجال للحقائق البديلة و العواطف والقناعات الشخصية التي تشكلها وتصوغها الصحافة الدعائية وشبكات التواصل الاجتماعي، لتقود الجماهير و تتحكم فيها حسب ما تمليه سردية السلطة المهيمنة على التدفقات المعلوماتية، في غياب تام للوعي الجمعي وضمور ملكة التفكير النقدي لدى جزء كبير من هذه الجماهير، فتسلبهم حواسهم وتقنعهم بأن ما يقرؤونه وما يشاهدونه هو الحقيقة الخالصة والواقع المثالي، حيث تسعى لتشكيل هذا الواقع وفقا لتصوراتها ورؤاها وأيديولوجيتها، ضمن الأطر التي تخدم إستيراتيجياتها وأهدافها، وعن طريق إنتاج صور تشتغل على الانفعالي المفبرك مسبقا، والتي تتكرر باستمرار لخلق هذا الشعور الانفعالي وصناعة ذاكرة الجمهور وخرائطه الذهنية، على اعتبار أن الذاكرة، كما يقول جون بوبيرو تقوم على مبدأ انتقائي، “فهي تحتفظ في المقام الأول بما يصدم وبما يبدو مصورا، وتميل إلى ما لا يستدعي العقلانية والتفكير”، وهذا هو قطب الرحى في عمليات الدعاية و التضليل والتوجيه، فهي تروم تشكيل قطيع يصدق كلامياتها وخطاباتها دون تحليل أو تفكيك، مستغلة عدم قدرتهم على بذل أي جهد عقلي في غياب الوعي والتحليل النقدي.

وهذا الكلام يجرنا إلى التأكيد على أن أهم التحصينات اليوم، هي تلك التي تتم على مستوى عقل الفرد، بتعليمه وتدريبه على التفكير النقدي و النظر إلى المعلومات والصور والأخبار نظرة فاحصة غير واثقة بصدقية مضمونها، حتى لا يسقط هذا الفرد في فخ الانقياد والاستسلام السريع للأطراف والفواعل التي تسيطر على التدفقات الإعلامية لغايات متعددة، تشترك جميعا في كونها تتغيى إخضاع وتوجيه الأفراد والشعوب على حد سواء.

لوحة: أحمد الوعري
لوحة: أحمد الوعري

والصحافة ليست بالضرورة مكبر صوت لخطاب السلطة وسياساتها التي لا يجب أن تنتقد أو تناقش لاستنباط عيوبها وتشوهاتها وتصحيحها، حتى ولو كان هذا النقد أو الكشف محايثا للعقلانية ونتاجا للتقصي والتحلي بالقواعد والأخلاقيات المهنية وخاليا من أي حمولة قدحية أو تآمرية، فالصحافة الجادة، كانت على الدوام تنبري لمناقشة وتحليل كل ما يصدر عن السلط والنظم السياسية، وكشف أخطائها ومقاومة مدها، من خلال ما يسميه إدوارد سعيد “القراءة الطباقية” المهتمة وظيفيا باستنطاق النصوص وسبر أغوار خلفياتها وخفاياها بقصد إدراك واستعادة ما تعمل على تسريبه وتقنيعه في آليات السيطرة والتحكم.

إن الصحافة والحرية متعالقان ومتلاحمان، لاسيما إذا كانت نقطة اللحام نابعة من مسؤولية واعية وخيِّرة، ومهنية صارمة قوامها الموضوعية والمصداقية، وأي فصل بينهما يعتبر بمثابة حياد عن جادة الفهم الصائب لدور وأهمية الصحافة الحرة في أي دولة، وتكريسا لصراع خاسر ومكلف، طرفاه الصحافة والسلطة وضحيته الأولى الحقيقة والوعي الجمعي.

لعل أول رئيس أدرك هذه الأهمية التي تنماز بها الصحافة الحرة غير المرتهنة إلى السلطة السياسية، على سبيل الاستشهاد، كان أحد الآباء المؤسسين والرئيس الثالث للولايات المتحدة في أواخر القرن 18، توماس جيفرسون، حيث تنسب إليه مقولة خالدة تُلاك وتكرر على مسامع طلبة الصحافة وتحفل بها الأدبيات الإعلامية، وفحواها “لو أنني خُيّرت بين أن تكون لدينا حكومة دون صحف، أو صحف دون حكومة، لما ترددت لحظة في تفضيل الخيار الأخير”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.