أربع قصائد
الصاخبون
لم يعد صوتهم مسموعاً
أولئك الصاخبون
الذين أرعبونا بالوحوش التي تطلّ مزمجرة
من غابات أفواههم.
**
كانوا لا ينامون
فقد استبدلوا أحداقهم بالحناجر
وأهدابهم بالألسنة
وحتى إذا ما ناموا
فألسنتهم تتسلل إلى بيوتنا
تتلوّى
وتفحّ
وتُغادر محملة بالغنائم.
**
أولئك الصاخبون صمتوا فجأة
صاروا يُقيمون تحت المناضد
حفلاتٍ للنبسِ في آذان المزهريات
لقد يتمتهم مُكبّرات الصوت المعطوبة
فصاروا يبحثون عن مُتبنين
يُصغون لقرقرة بطونهم.
**
هم أنفسهم ما عادوا يسمعون أصواتهم
فقد تخاصمت أسنانهم داخل أفواههم
وافترقت عن بعضها إلى الأبد
صمتوا فجأة
والأعاصير التي ضفروها بألسنتهم
التفّت على أعناقهم
وخنقتهم.
فرصٌ ضائعة
ربما لم أكنْ اُحسِنُ التصويب
فضيّعتُ الكثيرَ من الفرص
كنت أحسبُ الفرائس زملائي في المهنة
فتركت الكراكي تتخذ من شعري عشّاً
والغزلان تدخل خيمتي
لترضع من أصابع قدمي.
**
أنا صيّادٌ فاشل
رصاصاتي تصدأ في جيبي
فأنثرها سماداً بأواني الزهور
لم أشعر يوماً بفداحة خسراني
ما دامت قدمي لم تعلق في شباكي
تغافلتُ عن إخفاقات بندقيتي
متذرعاً أنها تعاني من الحَوَل.
**
أنا صيّادٌ غافل
تمرّ بي الطرائد مستعرضة كراديسها
فأقف مؤدياً التحية العسكرية
الهداهدُ تنزع أعرافها من رؤوسها
وتتوّجني بها ملكاً
والأفيال المتعبة من ثقل خراطيمها
تؤجّرها كتلسكوباتٍ للسوّاح
كم من مرّة لبستُ ذئباً
متوهماً أنه معطفي؟
ولم أتبيّن حقيقته حتى عوى على كتفي
وقفز يُطارد الجموعَ المرعوبة
كم من الفرص انتهزتها لإنقاذ فريسة ؟
السماء مغطاة بأسراب طيور
أنظر عبرَ سبطانة بندقيتي إلى الأعلى
فلا أرى سوى قوس قزح.
**
أنا صيّادٌ طيّب
بندقيتي معبّأة بالرصاص
لكن الطرائد تعلم
أن رصاصاتي ليست للقتل
بل للتحذير.
طفولة ماكرة
أطفال بسراويل مثقّبة من لدغات النحل
يُمسكون بزعانف الأرصفة
ويوسعونها ضرباً
يكسرون مصابيح الشوارع
رجماً بأسنانهم المقلوعة
ثمّ يضحكون على بكاء الزجاج المهشّم
وشتائم الضوء المسكوب.
**
أطفالٌ من دخان
يُحلّقون في السماء
فيعيدهم صراخ الأمهات إلى المهود
مُتّصلين بحبل من مِزق السراويل
بعضهم يتسلّح برضّاعات مليئة بالدبابيس
وبعضهم يطوي حفّاظته تحت إبطه
بانتظار ساعة الهجوم
ينسلون كالأجنّة من بطون الأزقة
ساحبين وراءهم جيشاً من الصراصير
يتخفّونَ
مُتّخذين من قبعات الأشجار سواترَ وربايا
يموعون كالدُهن بمقلاة القمر المحروقة
يطيرون كالخفافيش
مُستعينين بأجنحة من جوارب آبائهم
يتعقّبونَ عمّال الصيانة قفزاً فوق بطون النائمين
فيتعرّفون على أنساب المصابيح المُستبدلة
ليسهل عليهم التكسير.
**
عصابات من الأطفال
يتكاثرون كالقمّل على جلود الجدران
وفي شعر الأزقة المقصوص بأفواه القمل
رؤوسهم مطارق لمسامير العِناد
أنوفهم مداخن لحرائق القمامة
أفواههم سبطانات للضحك المُرّ
صدورهم مستودعاتٌ للسموم
وفنادقُ للجراثيم
يُهشّمون أضلاع الشوارع
بنفخ الشتائم في رئات مواسير المياه القذرة
يُذلّونَ الأعمدة بسكب الضياء في البلاليع
أملهم أنهم بعد ألف عام
سيندمون على التفريط بأسنانهم في لُعبة خاسرة
فيعتذرون لسراويلهم المثقّبة
ويلمّون في طشوت ما أهرقوا من الضياء
ويعتذرون لعمّال الصيانة
بتكسير المزيد من المصابيح.
تحايا المُدُن
المدن التي مررتُ بها
ظلت تتعقبني
أتلفتُ أينما تنقّلتُ
فأراها ورائي
وبيدها عدسة مكبّرة
أينما نُمتُ
تتسلل تحت لحافي
وهي من خجل تحجب وجهها بصخب المتسوّقين.
**
كم من المدن مررتُ بها ؟
كم من المدن طبعتُ قدميّ العاريتين
على صمتها الساخن ؟
كم من المدن لَصَقتْ شموسها على جلدي ؟
وحين نزعتها تدفق الدم.
**
مثل طفل يسحب وراءه لعبته
أسحب المدن التي أخرجها من خزانة الفرح
أسحبُ جسورها التي تثغو
وهي تعلفُ الأمواج
أسحبُ غيوم الذكريات التي تُمطرُ في جيوبي
ألبسُ الأرصفة كالسراويل
والمروجَ كالقِمصان
وأصعدُ التلال على دراجة
عجلتاها عدستا نظارتي الطبيّة.
**
المدن التي مررتُ بها
ظلّتْ تُرسل لي قبلاتهِا ببريد النسيم
أما التي عشتُ فيها
فما زالت حدائقها تتنفّسُ من رئتي.