أسئلة أفغانستان وكوابيسها
ترصد الرواية اختلاجات وكوابيس وأحلام الشاب “فرهاد”، وهو طالب يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما، يعيش في كابول في فترة أواخر السبعينات، وعلى وشك أن تتغير حياته إلى الأبد، عندما يقرر السهر لدى أحد أصدقائه الذي يخطط للهرب إلى باكستان.
فيتعرض للضرب بطريقة وحشية على أيدي مجموعة من جنود حفيظ الله أمين الذي سيطر على البلاد في انقلاب عسكري بدعم من الاتحاد السوفييتي آنذاك، ويظل فاقدا للوعي ومرميا في أحد المجاري فترة طويلة، وعندما يستعيد وعيه يكتشف أن ثمّة امرأة جميلة قد جرّته إلى منزلها خلسة لتنقذه من الموت، وبمرور الأيّام ونتيجة لرعايتها والرحمة التي تبديها في التعامل معه يقع في حبّها، لكن هاجس الخوف من الجنود والموت المتربص به يظل يلازمه، فيخطط للهرب إلى باكستان بأيّ طريقة.
الحكاية تبدأ بكابوس
يستخدم رحيمي نثره السلس والعميق في آن واحد لإدخال القارئ إلى أعماق العقل والعواطف المتكسرة والانفعالات النفسية المضطرمة لبطله، راصدا بواسطة ذلك كلّه خلفية الأحداث المتداخلة التي أوقعت بلده بين براثن الدين والمكائد السياسية للقوى العظمى في العالم.
يقول رحيمي في معرض توصيفه لعمله الروائي: عندما كنت في سن المراهقة كان يلازمني كابوس متكرر أجد نفسي فيه محاصرا داخل جسدي. وأشعر بأن على شخص ما إنقاذي، لكن لا أحد يسمع صراخي، وفي نهاية المطاف أستيقظ وأنا أرتجف وأتخبط بعرقي، ومن ثم الوقوع في براثن الأسئلة المحيّرة عن حقيقتي وأين أنا؟ وما الذي يحدث لي؟ وبعد بضع سنوات، قرأت شرحا فسيولوجيا مقنعا عن مثل هذه الاعتمالات على الصعيد الشخصي، لكن لم أجد حتى الآن تفسيرا واحدا لانزلاق بلدان بأكملها في الأهوال المتكررة. كما يحدث لبلدي أفغانستان بتدحرجها المتواصل نحو قاع الظلام والإرهاب مرارا وتكرارا.
لقد تمكن رحيمي من الفرار في النهاية، ليجد في منفاه فرنسا لاحقا تحليلا مرضيا للهلوسات الفردية والجماعية التي عانى منها هو ومواطنوه، ليجسد ذلك بطريقة أخرى في “ألف منزل للحلم والرعب” في محاولة لفهم أهوال تجربته.
تدور أحداث الرواية أواخر العام 1970 عندما كانت العاصمة كابول تشهد المزيد من الانتكاسات والاضطرابات، بعد أن استولى حفيظ الله أمين الماركسي القويّ على السلطة، وأثار موجة من الاستياء وردود الأفعال نتيجة لموقفه المناهض للإسلام في بلد تقليدي مازال يرزح تحت أستار التخلف والأمية ونفوذ رجال الدين المتشددين. يقول رحيمي مكررا توصيف بعض قدامى الصوفيين “إنّه في مثل هذه الأوقات يعرّش الجنون برأسك وتجثم الكوابيس على صدرك ويصبح أملك الوحيد هو الصلاة”.
يكتشف الراوي فجأة نفسه مطلوبا للسلطة لكنّه لا يعرف لماذا، وليس لديه أي أمل في النجاة، بعد أن يُدان تعسفا. يلتقط رحيمي بخبرة الروائي الحريف تلك اللحظة من عدم الفهم وتبلبل الإدراك، عندما يضرب جندي ما بعقب بندقيته البطل “فرهاد” ضربا مبرحا ولا أحد يمنعه، ليتغير مصيره كليّا، بعد أن يدرك بأنّه لا يمكنه العودة إلى دياره أو رؤية أمّه وأخواته، وأنّه أصبح جزءا من النفوس الضائعة، كما يرد في النص.
وعلى الرغم من أن الزمن الافتراضي لأحداث الرواية لا يتجاوز بضعة أيّام، إلا أن رحيمي تمكن بواسطتها من تجسيد حجم الخراب والمأساة في بلاده، كما يستعرض التاريخ الحديث لأفغانستان التي مزقتها الحروب والصراعات الداخلية، من خلال السرد العميق لتلك الاضطرابات والتهديد الوجودي للإنسان.
إن عذابات “فرهاد” واختلاط الرؤية في عقله إلى درجة تقترب من الجنون، ومحاولة تفسيره لما يحدث للروح أثناء الحلم والهلوسات الصوفية في المساجد والضرب المبرح الذي تلقاه ورغبته الدفينة في “مهناز″ الأرملة الجميلة التي أنقذته، كلّها تفصيلات مربكة ومحيرة في الحقيقة، لكن “ألف منزل للحلم والرعب” تبقى أعمق من هذا كلّه، لأنها تتصدى لعدم قدرتنا على تمييز الواقع عن الحلم والحدّ الفاصل بينهما.
الرواية تقع بحدود مئة وستين صفحة ويمكن أن تُقرأ بجلسة وحادة، لما يتميز به نثر رحيمي من سلاسة وقوة، على الرغم من خلوها تقريبا من الوصف الفضفاض، وهي بمثابة رحلة غامضة في عقل البطل “فرهاد” وتحولاته المتواصلة بين الحلم والواقع، بطريقة لا تترك مجالا للقارئ للشعور بالملل، لا سيما عندما يبدو الحلم أكثر واقعية من الحياة والنضال الوجودي بطريقة مغايرة تماما لطرح السؤال، فيما إذا كان العيش في كابوس متواصل أفضل من عدم العيش على الإطلاق. إن هذا الخيار القاتم يؤكد معركة الإنسان الوجودية في بلد مثل أفغانستان.
“ألف منزل للحلم والرعب” تترك صدى عميقا في النفس وتجعلنا نتساءل حول ما إذا كان عتيق رحيمي قد كتب رواية أم قص لنا حلما أم جسد لنا كابوسا؟