أستاذة الرنجة
كثيرا ما كنت أسمع في أثناء عملي في رسالة الدكتوراه عن اسم الدكتورة “أم الخير”. كان الاسم في حد ذاته يضحكني بشكل كبير، ويصيبني بالاندهاش في الوقت نفسه. أم الخير في عصرنا وأيامنا هذه. وأي خير هذا الذي ننتظره ممن يعلموننا. وهل هذا اسمها هى، أم لقبها المرتبط بابن لها يدعى خير. أسئلة كثير تسطو على عقلي لحظة ذكر اسمها أمامي في أي مناسبة أو أي نميمة.
فما يتردد بين أوساط الطلبة لا يشي بأي خير. بدا لي أن الأوقع هنا أن يكون اسمها “أم الشر” مثلا، أو “أم الدواهي” أو كما يحب الطلبة كثيرا أن يطلقوا عليها “أم سحلول”. كان حظي رائعا بحيث لم تواتني الظروف بالتعامل معها. فأحوالنا كانت دائما متعارضة. فحينما التحقت بالجامعة، كانت هي مازالت في سنواتها العلمية الأولى. وحينما تخرجت سافرت هي إلى الخارج. وحينما حصلت على درجة الماجستير كانت تخطو خطواتها الأولى للهيمنة العلمية، والاستئساد على الآخرين.
كل مصادر معلوماتي عنها كانت من خلال الطلبة، وبشكل خاص الإناث منهن. أقربهن إلى قلبي كانت بهيرة. خبيثة الدفعة، بجسمها الضئيل، وتضاريسه غير المعلنة. تنطلق في الكلام والنميمة بشكل متدفق وساحر. متعتها الحقيقية تكمن في فضح الآخرين الذين لا تستطيع مواجهتهم أو النيل منهم. تذكرني بالشيخ حسني في فيلم “الكيتكات” الشهير. لا تترك واردة أو شاردة تعصف بكرامتهم إلا وتحصيها عليهم.
ست مقرفة.
هكذا كانت تبدأ حديثها. تتحسس شغف المستمع واهتمامه بمتعة وتلذذ. وعندما تطمئن إلى وقوعه في شرك لسانها، تنطلق بحدة وسرعة عجيبة في الكلام.
ست عجيبة، سعادتها الوحيدة تكمن في انتهاك كرامتنا والنيل منا على الفاضي والمليان. تعليقاتها السخيفة لا تنقطع طوال فترة المحاضرة. تتدخل فيما يعنيها ولا يعنيها.
أحاول أن أقاطعها. أسألها عمّن تعني. بالطبع أنا أعلم أنها تقصد أم الخير، لكن السؤال الذي يحمل نوعا من التواطؤ بيني وبينها، يلهب الحديث أكثر. يضيف عليه نوعا من الإثارة التي تنمو بمضي الوقت. وقبل أن أفتح فمي تبادرني:
تتهكم على أي شيء. تتهكم على ملابس الطالبات. لون شعرهن. أظافرهن. وخصوصا إذا كانت إحداهن جميلة. الجميلات دائما ما يذكّرنها بوضعها الراهن، بعد أن أحيلت على التقاعد، وترهلت ملامح جسدها، وأعلنت تضاريسها عن نفسها بإلحاح غير مسبوق!
حتى الطلبة الذكور لا تحترمهم، تريقة على أسمائهم. طول شعرهم. إجاباتهم.
تقصدين من؟
لا يوجد غيرها “أم الخير”، والله إللي سماها كان أعمى.
لا أستطيع ساعتها مواصلة جديتي معها. تنفلت شفتاي، ويندفع لساني بضحكة ذكورية مجلجلة لا تقيم وزنا للطلبة المحيطين بنا.
عملتلك إيه بس؟
أبدا! الحمد لله لم تقترب مني حتى الآن. لكن طريقتها المستفزة مع باقي الطلبة فاقت كل الحدود. تصوري لم تشرح شيئا حتى الآن! كل كلامها حول الملابس والموضة والطعام وأنواعه. تخيلي فصل دراسي كامل ضاع في كيفية طريقة عمل الرنجة وتنظيفها، أو كما اعتادت القول “تخلية الرنجة”. وحتى إذا توقفت عن ذلك، فإنها تسترسل في الحديث عن ثرواتها وثروات زوجها.
أحاول أن أهدئها، وأخفف من حدة كلماتها، وثورات غضبها دون فائدة، وأنا يسيطر على عقلي فعلا حدوتة الرنجة هذه. لا أتخيل قدرتي على كتم الضحك وأنا أسمع محاضرا يترك موضوع المقرر، ويتكلم عن الرنجة أو ملابس الطلبة أو شعرهم. شيء مثير للعبث.
طبعا أنت لا تصدقين كلامي، عموما أبشرك بأنها سوف تدرس لكي مادة التيرم القادم.
أصابني الوجوم للحظات. ووجدت نفسي أسرح بعيدا عنها. فشخصيتي لا تحب الصدام مع أحد، كما لا تحب الخنوع والصمت أمام من يستخف بي، أو يعتقد أنه يمتلك الحق في النيل مني أو إهانتي. لكن سؤال حاد بادرني في خضم موجة الصمت التي ألمت بالفضاء القائم بيني وبين بهيرة:
ماذا سوف أفعل مع هذه السيدة إذا حدثت مواجهة بيني وبينها؟
هي صاحبة الموقف كله، تمتلك حرية النيل من درجاتي، وترسيبي سنة وراء سنة، والدفع بي لترك المكان. وجدتني فعلا في حيرة وشرود عميق بعيدا عن بهيرة وأنفاسها المتلاحقة.
ربنا يستر! هكذا كان ردي على بهيرة بخوف واستسلام.
مع بداية الدراسة، اكتشفت أن كلمات بهيرة صادقة إلى حد كبير. فأم الخير فعلا تركيبة غريبة تحكمها نفسية معقدة جدا، ونرجسية مقيدة بإحساس حاد بالزمن، ووطأة تجاعيده. ملابسها المبهرجة الطفولية لا تنم عن إدراك واقعي بالعمر. وما يزيد الأمر سوءا ضعفها العلمي الشديد، وترديدها لنفس الكلام مرار وتكرار. جعلتني أشعر أني طالبة في مدرسة وليست جامعة. أحاديثها كانت فعلا فارغة، كلمة من الشرق وأخرى من الغرب لا يوجد بينها رابط ولا تمتّ للمقرر بصلة.
كلما أعربت عن ضيقي مع زملائي كان الرد منهم الهدوء لا تردي ولا تسألي ولا تشتبكي. كان هدف الجميع أن يمر الفصل الدراسي بهدوء ودون مشاكل من أجل ضمان النجاح، والانتقال إلى مرحلة أخرى دون أم الخير.
طوال عمري أكره جدا الممالأة والخنوع، أشعر أنني أفقد الكثير من ذاتي حينما أوافق على كلام غير مقتنعة به. لكن الحياة كثيرا ما تضعنا في سياقات تجعلنا نكره ما نحب، ونحب ما نكره. ذلك ما فعلته. بدأت في التعاطي مع محاضرات أم الخير، ووجدتني متابعة جيدة لها. حتى زملائي باتوا يستغربون جديتي معها، وتوافقي مع ما تقوله في محاضراتها، أو بالأحرى مع ما لا تقوله لنا. كانت المحاضرات خليطا غريبا ومشوها من الاستخفاف بنا وبملابسنا وبأفكارنا. وإذا هدأت مشاعر النكد هذه، فإنها تنتقل إلى مرحلة التهديد والوعيد. وإذا تعبت من ذلك، فإنها تنتقل إلى الحديث عن ذاتها وأخلاقها وتربيتها قياسا للمحيطين بها منعدمي الأخلاق والضمير.
كان الموضوع الفارق بالنسبة إليّ وسط الهبات الساخنة التي تلفح جسد أم الخير بسبب مضاعفات النقص الهرموني هو حديثها المفاجئ لنا عن تنظيف الرنجة. لا أعلم بالضبط الأسباب التي دفعتها للحديث عن الرنجة وطرق تنظيفها وكيفية تجهيزها. كنت قد نسيت هذا الموضوع منذ تحدثت فيه مع بهيرة. واعتبرته إحدى مبالغاتها المعتادة. استرسلت أم الخير بحديث لين عن كيفية تنظيف الرنجة، طريقة وضعها لفترة قليلة على النار. مسكها من الرأس. تقسيمها إلى قسمين. سحب الهيكل الشوكي. طريقة التقطيع. تجهيز الليمون والطحينة والخبز. شعرت ساعتها بجدية المرأة فعلا وتركيزها مع ما تقول. تماهيت معها، وتوحدت مع عالمها المحبب. ووجدتني في لحظات أندفع قائلة أو كما فكرت فيما بعد أتواطأ قائلة:
فعلا تنظيف الرنجة مسألة على درجة كبيرة من الأهمية، تعكس جوانب اجتماعية كثيرة يصعب تجاهلها.
نظرت إليّ بنظرتها المعهودة التي ترتبط بتحريك الشفتين على طريقة إحسان الشريف في فيلم أم العروسة، مع ادعاء تمثيلي بالانتباه والفهم. وقالت ببرودتها، ولزوجتها التي لا تطاق:
حسنا، أكملي.
استجمعت شجاعتي، ومسحت عيون زميلاتي الممتلئة بالخوف والدهشة والرغبة في الضحك في الوقت نفسه وقلت:
نعم، ملايين المصريين يأكلون الرنجة، وخصوصا في شم النسيم، فهي تمثل اقتصاد موازيا للفول، صحيح أننا نستهلك الفول كل يوم، لكننا نستهلك الرنجة أيضا بكميات كبيرة، وبأسعار تفوق ما نستهلكه سنويا من الفول. فلماذا إذن نحرص على طبق الفول ونمسحه مسحا، بينما نتعامل الرنجة بعفوية وباحتفالية تؤدي إلى إهدار كميات كبيرة منها. وما تعرض له الدكتورة أم الخير هو موضوع في صميم التنمية الاجتماعية وموضوعاتها المستحدثة.
أنهيت كلامي وأنا ألهث متوجهة بعيوني صوب عيون أم الخير منتظرة رد فعلها.
برافو برافو، شفتم زميلتكم فهمت الهدف من موضوع الرنجة إزاي.
وجدتني ساعتها في حالة من الانتشاء المطلق، وعيوني تتجه نحو بهيرة في حالة من الكيد لها، وإمعانا في تلك الحالة التي انتابتني نحوها، وجدتني أطلب من الدكتورة أم الخير أن أدعو الجميع على أطباق الرنجة المحاضرة القادمة، لنمزج ما تعلمناه نظريا من علمها الغزير مع واقع الرنجة الفعلي وحضورها النفاذ!