أصابعي التي لم تعد أصابع
«1»
لا أعرف مصدر الحساسية المفرطة التي تكمن في ظاهر أصابعي وباطنها وحولها وأمامها وخلفها..
كل ما أعرفه أن هذه الأصابع، التي تنتمي إليّ، أصابع مثيرة للجدل والاهتمام والبلاء في حياتي.. هذه الحياة التي تبدأ نهارها بأصابعي وتنتهي آخر الليل عند هواجسها ومرارتها ودفقها.
إنها تبكر في اليقظة، وتأرق حتى الذبالة الأخيرة من الليل..
الفجر ساكن، والليل ساكن كذلك، إلا أن أصابعي وحدها تضج بها كل أوقاتي، هذه الاوقات التي بلا وقت، يحكيها زمن يشيخ ويذوب بين أصابعي، ولا أملك القدرة على تجاوز هذه المحن التي تحمل أصابعي كل أسبابها، فيما أحتمل أنا نتائج ما تفعله بي من مرارات وأوجاع وهواجس.
أخبئ أصابعي في جيوب ملابسي، فأحسها تختنق وتبحث لنفسها عن متنفس، فأطلقها خشية لا شفقة، ولا تعبيراً، ولا تجسيداً للفكر الحر الذي أنادي به، ويشكل موقفي وهويتي من الحياة.
أخبئها في فراشي ليلاً، فتظل يقظةً تقتلني وتصيبني بالأرق.
أدخلها في قفازات قطنية وصوفية ومطاطية، تارةً سوداء وتارةً أخرى ملونة، فتخترق كل ما عليها، متجاوزةً كل ما يحاصرها.
أدهنها بدهون معطرة، فتشرب ما عليها، وتباهي نفسها عاريةً.
لا أعرف كيف أتخلص منها، أو تبادر هي للتخلص مني.
مرةً فكرت بقطعها، وأًصبت بالذهول متسائلاً “كيف يمكن للمرء أن يحيا من دون أصابع؟ كيف للأصابع أن تحيا من دون جذور؟ كيف يمكن لجذور أصابعي أن تخرج على وجه العالم، من دون أن يكون لها أصل وفصل وجذر لا أعرف امتداده الأفقي أو العمودي؟”.
كل ما أعرفه أن لأصابعي تأثيراً واضحاً، بل أساسياُ على مسيرة حياتي كلها.
من هنا بدأت أتوجس منها، وأحذرها، وأتقرب إليها نفاقاً، بعد أن فشلت في احتوائها ودياً وإخلاصاً وانتماءً إلى شخصي الذي يسعى جاهداً أن يظل في مأمن من الشرور والأخطار والمنغصات.. غير أن أصابعي كانت تعاندني وتتمرد عليّ، وتسعى لإذلالي والانتقام مني، وأنا لم أقترف بحقها ضراً.. فلماذا هذا العداء؟ ولماذا هذا المخطط الذي ترسمه لإهانتي، وبعث الرعب في نفسي، والانتقام مني؟
أصابعي تشغلني عن كل العالم المحيط بي، تتحداني كما لو أنني أتآمر عليها، وأعزلها عني، أو أدخل معها في معركة لها بداية وليس لها نهاية.
كانت البداية حال دخولي ذلك المكان العفن، الذي لم يجر على أنفي ما يشبهه، أو يوازيه، أو يحتمله لحظةً لا تتجاوز الثواني.
لم يكن المكان مقبرةً.. المقابر تحترم ساكنيها وضيوفهم.
كما لم يكن المكان ردهة عمليات جراحية، ولا مجزرة لحوم، ولا مكاناً لحيوانات نافقة، ولا مكباً للنفايات، ولا خزيناُ لجلود تعفنت، أو فاكهةً فسدت من عفن ألوانها.
المكان يقبض على الأنفاس والأرواح، ويكوّن أسباباً رئيسيةً لصداع يقبض على المرء ويضيق عليه، ولا يمكن الإفلات من ضغوطه إلا بضرب الرأس حتى الحطام.
المكان لم يعد ليوصف.
إنه المكان الوحيد في هذا الكون الذي لا يمكن تصنيفه على أنه مغسل للموتى، أو صحراء للمفقودين في الحروب، وقد تقطعت بهم السبل، ونفدت ذخيرة أسلحتهم، وماتوا من جوع أو عطش أو جراح.. أو كل هذه الأسباب مجتمعةً.
المكان لم يعد ليتأمله المرء، بل ليعجل الخلاص منه بأسرع ما يمكن. وهو لا يمكن في المألوف أن يكون مكاناً لأي شيء أبداً، ذلك أن فقدان عزيز في هذا المكان يعز عليه المغادرة من دون أن يجده، فلم يبق من عزته في القلب والذاكرة سوى أن تجده، أن تجد شيئاً منه، علامةً، وشماً، شامةً.. ولا عليك من قميص أو حذاء. لا عليك من بشرة وجه، أو لون عيون، أو تسوس أسنان، أو جدع أنف، أو أذن، أو شفة.
كل شيء في هذا المكان مشوّه، فاقد لطبعه وطبيعته، كأنه قدّ من صناعة عجيبة لم يألف المرء لها من وجود امام ناظريه أبداً.
إذن، كيف يتوسل المرء حضوره، وتعليق بصيص أمل في العثور على ذلك العزيز بين أكداس من الجثث التي لم تعد سوى أشلاءً فاقدةً لأبسط ملامحها الإنسانية؟
أقلب هذه اليد، ثمة أصابع مقطوعة.
أقلب هذا الرأس، ثمة إطلاقات في الجمجمة.
أقلب هذه القدم، ثمة كسور هنا وهناك.
أستعدل انحناء الظهر فيهوى من تفسخ عظيم لحق به.
أمسك هذا الساعد فيجيء بيدي!
أفتح هذه العين باحثاً عن زرقة بحر كانت فيها، فأنصرف من رعب يشل حركتي،
أبعثر شعراً أصفر، فإذا بالديدان تشوه كل الألوان!
ماذا أفعل بأصابع لم تعد أصابعي التي أعرفها؟
أصابع تتحرك على وفق ما تهوى، تتحرك وتعبث بالجثث على غير ما أريده وأتوجه وأرتجي.
كيف أجد العزيز، الذي لم تعد له عزة، ولم يعد له من طبع البشر طبع، ومن طبعي بوصفي كائنا حياً.. طبع أو حياة؟
دماء تخثرت، جفت وتعفنت وما زالت تنزف، دماء تبرت، دماء حارة، دماء باردة، دماء سوداء، دماء بلون الزنبق، دماء موحلة، دماء، دماء، دماء.
كنت أخشى منظر الدماء.
ولم يكن بوسعي ذبح دجاجة، أو إسعاف جرح بسيط، أو نزف أنف.. فكيف يصبح بمقدوري ان أتلمس تلك الأنواع من الدماء بأصابعي هذه؟
خفت أصابعي، أصابعي قاتلة، ودليل التجني واضح، وأنا لست مسؤولاً عن أصابع اقترفت جرائم القتل والذبح وقطع الأصابع بحثاً عن محابس وخواتم ذهبية.
أنا لا أمتلك أصابع، أصابعي ليست لي، أصابعي لم تعد أصابع، إنها كماشات مشوهة، مقرفة، نتنة، لا تلمس شيئاً إلا وبُعث فيه العفن، صار للعفن قوة انتشار غريبة، عصية على فهمي، على وجودي بوصفي كائناً يتنفس.
أنا لا أتنفس سوى العفن، وكل شيء فيّ صار مصدر عفن، وقوة هذا العفن باتت تقوى على كل شيء، حتى اللاشيء صار شيئاً عفناً، وأنا لا أقوى على صد عالم العفن الذي يحاصرني ويزهق أنفاسي، يخنقها كما لو كانت نبضة الموت الأخيرة.
احتملت ثقل العفن، ذلك أنه لا خيار لي سوى الاحتمال، فالعزيز أعز مني عليّ، ولا بد أن ألقاه، لا بد من العثور على جثته بين هذه الأكداس من الجثث، وإلا كيف أقابل نفسي من دونه، وكيف أنظر في عيني ابنه الوحيد، وأتلمس لهفته للقاء أبيه، كيف أحتمل نظرات أمه التي خسرت بفقدانه غريزة تتعلق بأهداب الموت حتى تجده، وبرماد الأشياء حتى تمسك به، وبنسمة هواء مغبر حتى تتنفس اختناقه، تتنفس فاجعة المجهول الذي كان في يوم ما يتغنى على صدرها من فرح وطمأنينة وشبع؟
خسرت ما أمتلك من أصابع، صرت أمتلك فراغاً أحس بوجوده من دون أن تسعفني كل الأسئلة التي تدق في رأسي بحثاً عن إجابات مفقودة!
اتسع يأسي وإحباطي، صرت حزمةً من قش بات يحترق ويتلاشى، وأنا أبحث عن أصابعي.
آكل من دون أصابع، أشرب من دون ارتواء، أحرك كائنات لم تعد كائنات تتحرك، بل تمضي على وفق ما تريد، وما تريده لا يخرج إلا دماً عفناً ولمسات مفجوعةً بالموت.
أصابعي تلاحقني كما لو كانت غابةً من الوحوش، وأنا الكائن الوحيد الذي لا يقوى على احتمال وجودها لأنها ملك سواي، وإرادة سواي، وانا لا امتلك سوى الذي لم يعد يستوي على شيء، أبداً، أبداً.
«2»
لذيذ طعام أمي، لذيذ ونحن– أنا وإخوتي– نناكدها على لذة ما تعده لنا من الطعام.
أمي اعتادت هذه المناكدة، وعرفت أننا كلما بحثنا عن إخفاقاتها في وجبات الطعام نعني العكس، نعني أن الطعام قد أُعد إعداداً جيداً.
نكهة شهية، ورائحة تسيل اللعاب، وامتياز في الجهود، ورغبة في تناول المزيد.
أمي لم تعد تبتسم عند سفرة الطعام، كان فيها حزن يثقل علينا كل وجبة طعام، ذلك أننا لا نحس بمذاق ما تعده من غير مناكدة لأننا جميعا فقدنا هذه المناكدة لأسباب تتعلق بأصابعي تحديداً.
أصابعي لم تعد تلك الأصابع التي يفتك بها الجوع، فتثأر للجوع بفتك الطعام وتناوله بشراهة مألوفة.
أمي ترقبني بشكل خفي، وفيما أسعى لتجاوز نظراتها ألحظها وهي تعمل على أن ألحظها، وهي تغمرني بنظرات شفقة وعطف وأسى.
كانت أمي وإخوتي الثلاثة يراقبون حركات أصابعي التي تخذلني في العادة عند تناول طعامي بسلام. وكان أبي قد كف عن الانضمام إلى مائدة الطعام، مع أنه يعشق هذا التجمع العائلي الحميمي، إلا أنه تخلى عن هذا العشق منذ أن سقطت دموعه على رغيف الخبز، فيما كان يسعى للحيلولة دون الإعلان عن نحيب قلبه وهو يرى الطعام يتناثر من بين أصابعي التي لم يعد بمقدوري السيطرة على حركاتها لأول مرة. ذات مساء أسود، كنت قد عدت قبله بساعات من عالم الجثث التي كنت أقابلها، بحثاً عن جثة أخي التي فقدناها ذات صباح.
لم يكن ذلك الصباح إلا صرخةً مدويةً مزقت كياناتنا جميعاً، ونحن نبحث عن خبر يتعلق بالفقيد. وما كان مني إلا المبادرة، إلا البحث عنه في مؤسسة صحية أُطلق عليها “الطب العدلي” التي لا يعرف من خلالها المرء لا طباً، ولا أي شيء يتعلق بالعدل.
كل ما يجده جمعاً هائلاً من الجثث التي تنزف، والأخرى التي تشوهت، والثالثة التي تحنطت واسودت وصارت تملأ الأجواء بروائح لا يمكن تحملها.
كانت هناك أجزاء وأعضاء ورؤوس. كان المكان أشبه بمكان لأدوات السيارات المبعثرة التي يراد العثور على قسم منها لإكمال نقص أو لإصلاح، أو لترميم سيارة، عفواً لتكوين إنسان ميت بأعضاء متكاملة غير منقوصة.
كانت أصابعي تتنقل من جثة إلى أخرى، وكانت رائحة الجثث ممزوجةً بمادة حافظة يُطلق عليها اسم “الفورمالين”.
في ذلك المساء الدامي، الذي عدت فيه من عالم الجثث، فقدت الهيمنة على أصابعي، مثلما فقدت احتمال رائحة ملابسي وجسدي. لماذا أكرر المشهد، لماذا؟
كان كل شيء فيّ قد امتص رائحة الجثث، كما لو أنه إسفنجة قابلة على امتصاص الماء والسوائل. وقد اكتشفت أن أصابعي لا تقوى على إيصال طعامي إلى فمي، وليس بوسعي لمس ما أحتاجه، أو الإمساك به.
أصابعي كانت موجودةً، لا شائبة فيها وصورتها طبيعية ومألوفة، لكن إحساساً غريباً كان قد دب في تلافيفها، وجعلها عصيةً على إسعاف طلباتي.
أصابع سوية، وجزء مني بحيث يمكنني حثها على تنفيذ إرادتي.
كانت رائحتي ورائحتها قد تمردتا على طاعتي، والاستجابة لرغباتي التقليدية.
كنت لا أطيق نفسي، وكانت أنفاسي تثقل عليّ حد الاختناق.
لم أحدّث أحداً بما كنت أشعر، لم أقل إن أصابعي قد تمردت عليّ. كنت أقرف من رائحتي ورائحة ملابسي وأنا أستبدلها. حاولت أن أكون ممثلاً موفقاً في أدائه، وأنا أعبر عن طبع هادئ، فيما كل شيء فيّ يدمرني، ويحرق أعصابي، ويقطّعني إلى أشلاء.
كنت أسأل نفسي “هل يمكن أن تتحول العطور، التي كان يستخدمها أخي بسعادة، إلى روائح بكل هذا العفن القاتل؟”.
رصدني أبي، وأنا أتناول عشائي، وتنبهت أمي إلى حالي، وأدرك إخوتي إنني في محنة مع أصابعي.
سألوني عن السبب، لم يكن بي إلا البوح بما كان، وأن جثة أخي ضائعة بين مئات الجثث، أو أنها ما زالت مفقودةً، ولم ترسو في هذا المكان.
كانت الدموع عشاءنا في ذلك المساء.
كان أبي أول من قاطع الجمع، وكان يدعي فقدان الشهية، أو أنه شبع، أو أن الصداع يحول دون تناول الطعام. أكرر المشهد لأنه لا يغيب عني لحظةً.
كنت أعرف ما حصل، ولم يكن بمقدوري إيقاف نزيف أوجاعي.
وفيما كانت أمي تكتم نشيجاً أفصح عن وجودها، كان أخوتي يدارون أنفسهم بصمت ثقيل يعلن عن مآسيه بشكل واضح.
لم تعد أصابعي، أصابعي التي أعرفها وأستعين بها على امتلاك طعامي وشرابي وحاجاتي.
كانت أصابعي عصيةً عليّ وعلى كل من حولي. وكانت رائحتي تنازعني وجودي، وكان وجودي يخذلني ويكرهني ويعاندني ويصارعني.
كنت كائناً لا يحتمل كينونته، في جين يبحث هو عن سبل لاحتمال ما هو فيه، حتى لا ينقل هذا الإحساس بالرهبة والحذر واليأس القاتل إلى أمه وأبيه وأخوته.
لم يفلح عالمي التستري هذا في إخفاء صورتي المفجوعة.
كان أمري مفضوحاً ومكشوفاً بين عائلتي وأصدقائي.
كنت قد تحوّلت إلى كائن يخشى عقد صلح مع نفسه، ومع عائلته وأصدقائه، وكل العالم المحيط بي.
كان الزمن يثقل عليّ، وكان فيّ اعتقاد بأن الزمن سيتكفل بالنسيان، ومن ثم العودة إلى طبيعتي، وأن أصابعي ما زالت كسابق عهدها تعمل على نحو مشلولـ وعلى طريقة لا شأن لها بالحياة.
كان هذا الزمن الثقيل يعاندني، يقلقني، ويحاصرني، ويخنقني، ويجعل من ملابسي تضيق عليّ حد الاختناق .
كنت محاصراً بي وبأصابعي. كنت.. كنت، كما لو لم أكن أبداً، كما لو أنني غير موجود في هذا العالم المليء بالحركة والشدو والانشراح. كنت في يوم ما إنساناً كاملاً، وفي يوم ما بت أعتقد، بعدما حدث، بأنني سأُشفى، وفي يوم آخر بت أدرك أنني لم أعد ذلك الإنسان الذي أعرفه، وإنما كائن غائب عني، غريب عني، وبعيد، بعيد عني.