أصـابع الله
تناهى إليّ صوته الهادئ يجيب عن سؤال لم أسمعه:
– القلوب، يا ابنتي، بين إصبعين من أصابع الله يقلّبها كيف يشاء فلا تنزعجي. ربّما لا خير لك في محبّته. سلّمي أمرك لله واطلبي أن يعوّضك خيرا عميما.
كنت أنظر إلى وجه “أمّي” وهي تتابع بحرص شديد هذا البرنامج الدّينيّ ككثير من برامج أخرى غيره. تحفظ توقيت بثّها كَاسـمِها وتفرض عليّ صمتا رهيبا حالَما تبدأ. أُطلق خيالي حرّا فأعدو حيث أشاء وأتشارك قطعة الشيكولا مع وجه آخر أناديه أمّي منتظرا انتهاء البرنامج بصبر لا طفولة فيه.
عينا أمّي أكثر صفاء، فيهما أرى ابتسامتي وحروف اسمي ما إن يبدأ برنامج “أمّي” المفضّل. يبسمل صاحب ربطة العنق ثمّ يذكّر بكلام لا أفهمه لكنّني أحفظه لكثرة ما يكرّره وتستغفر “أمّي” مرارا. حين يحدث كلّ هذا أهرب إلى غرفتي وأتمدّد على سريري. بضع دقائق تكفيني لأرى وجهي في عينيها، هذه التي تزورني كلّما فُرض عليّ أن أصمت.
اليوم، لم أستطع أن أهرب إليها أو لعلّها هي التي لم تأتِ. تلاشت حروف اسمي ولم أعد أسمع غير ما قال وهو يفسّر معنى أن تكون القلوب بين إصبعين من أصابع الله.
لم أفهم شيئا مـمّا قال ولا عرفت كيف يمكن أن تكون القلوب بين إصبعين ولا تسقط ولم أسأل يوما “أمّي” عن يد الله. الحقيقة أنّني لم أكن أسأل عن شيء لأنّني كلّما استأذنتها في الكلام استغفرت فأصمت والغريب أنّها لم تطلب منّي يوما ما أريد.
ما أريد؟ أريد أن أرى قلبها، أريد أن أراني.
حين نادتني لتناول الطّعام لاحقا ظللت أنظر إليها. اقتربتْ، وضعتْ الصّحن أمامي فرفعتُ بصري أرقب عينيها. لم يكن اسمي هناك ولا كانت ابتسامتي بفراغ سنّي الرّاحلة إلى الشّمس منذ أيّام. كانت عيناها خاويتين. فتحت عينيّ وأغمضتهما مرارا متتالية لأتأكّد علّي أطفو فجأة فأراني وأطمئنّ.
لست هناك.
ارتدّت عيناي إلى الصّحن. بدت لي قطعة اللّحم قلبا صغيرا. صرت أقلّبها وأسأل ربّي:
– لِـم جعلتها لا تحبّني؟ أتراك أنت أيضا لا تحبّني؟ أنا لم أفعل لها شيئا مذ دخلتْ هذا البيت فلِـم لا تجعلها تحبّني؟
اضطربت يدي فتناثرت حبّات الأرز وسقطت قطعة اللّحم على الأرض. لم يعجبها تقليبي ما في الصّحن. صرخت قائلة إنّها طلبت منّي أن أكفّ وإنّني عصيت. أنا لم أسمعها. أقسم بذاك الذي يقلّب القلوب كيف يشاء أنّني لم أسمعها. هي أيضا لم تسمعني حين بدأتُ الكلام. اكتفتْ بجعلي أغادر المطبخ إلى غرفتي. لاحقني صوتها مستغفرا وأنا أتمدّد على فراشي باحثا عنّي في عيني تلك التي تسكن سقف غرفتي.
حين أرفع بصري ـــ وقد استلقيت ــ يأسرني نورها القادم من السّقف. لا أعرف كيف جاء ولا كيف ثبت هناك ولم يسقط. كم كنت أخاف ألّا أجده حين تعلن “أمّي” حملة النّظافة. كنت أودّ أن أقول لها:
– حاذري فلي في السّقف وجه تسكن عيونَه حروفُ اسمي.
لكنّني لم أستطع. أعلم أنّها ستتعمّد تنظيفه مرّات وربّما ستعيد طلاءه وقد تطلب من أبي هدم الغرفة إن أنا أخبرتها أنّ لي أمّا كلّما تقلّب قلبها أحبّني أكثر.
لا أعرف كم من الزّمن مرّ وأنا أنظر إلى السّقف قبل أن يهزّني رنين الهاتف ثمّ يأتي صوت “أمّي” ناصحة إحدى صديقاتها:
– القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلّبها كيف يشاء.
كان صوتها باردا لا شيء فيه يـُـحِبّ. أضافت:
– لا عليكِ، لستِ مسؤولة عمّا تشعرين به تجاهه ولا عمّا يشعر به. قلبك ليس بين إصبعيك. الحبّ ليس شرطا لاستمرار العلاقات. كلّ ما عليك هو ألّا تظلميه.
“كلّ ما عليك هو ألّا تظلميه” ظلّت الجملة تتردّد بقيّة اليوم في أذنيّ. وحين شاهدت الرّسوم المتحرّكة في الفترة المسائيّة رأيت كلّ أشكال الظّلم فتألّمت. رأيت أرنبا وعصفورا يحاولان الهرب من الموت. دعوت ربّي أن ينقذهما لكنّ “أمّي” غيّرت القناة قبل نهاية الحلقة ولم يكن لي أن أحتجّ.
في المساء لـمّا عاد أبي إلى البيت، أسرعت نحوه. رفعني عاليا فصرت إلى السّقف أقرب وصار وجه أمّي أقرب. أخبرته أنّني أحبّه. نقّل بصره بيني وبين “أمّي” ثمّ قال:
– هل أخبرت أمّك بأنّك تحبّها؟
نظرتُ إليها ثمّ ردّد لساني دون قصد:
– القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلّبها كيف يشاء.
تجهّم وجه أبي واكفهرّ وجهها. نظرت إليّ فاهتزّ السّقف. قالت متلعثمة:
– أطفال هذا الزّمن، يحفظون كلّ شيء بسرعة غريبة. كنت أتابع برنامجا دينيّا.
لم تخبره بأنّني حفظتها لأنّها أمضت يومها تكرّرها كأنّها حلّ سحريّ. خفت أن أنظر إليها فأرى حروف اسمي مجزّأة. اكتفى أبي بضمّي أكثر. همس في أذني أنّ قلبه لا يتقلّب إلّا ليحبّني أكثر. ابتسمتُ، رفعت يديّ الصّغيرتين عاليا ورأيت في عينيه حروف اسمي ووجه أمّي/ساكنة السّقف. وحين أنزلني اخترقتني نظراتها وأدركتُ أنّ لي يوما، هو الغد، لن يتقلّب فيه أحد غيري. سرقت قبلة قريبا من ثغر أبي المبتسم. كانت حرارتها كافية لتخلّصني من برد سكن عظامي وهربت إلى غرفتي.
نمت نوما هادئا بعد أن أهدتني أمّي من السّقف القبل والأمنيات.
في الصّباح، اهتزّ السّقف حين امتدّت يدها توقظني. أدركت أنّ أبي قد غادر. بكلّ قوّة أغمضت عينيّ متمنّيا أن تغيب أو أن أفقد بصري إلى أن يعود أبي ثمّ غادرت سريري متحاشيا النّظر إليها.
لم يكن على طاولة الفطور شيء ممّا أحبّ فعرفت أنّ يومي هذا سيكون أطول من سنوات عمري الماضية وأنّ أبي لن يعود قبل أن تودّع حروف اسمي بعضها البعض. لم أستطع أن أتناول ما حضّرته. شيء مّا احتلّ حلقي وزرع فيه شوكا. صارت دقّات قلبي تتسارع وشعرت أنّ ملامحي تتلبّس وجه الأرنب الهارب بلا هدف. كم خفت أن تغيّر “أمّي” القناة كيوم أمس فلا أعلم ما سيحدث له/لي.
بصوت يسكنه الصّقيع سألتني:
– لِــمَ لَم تأكل؟
لم تكن لي إجابة ولم تكن الأشواك لتترك لي فرصة الكلام. خفت أن أفتح فمي فــتـتــناثر وتخزها وتمزّق هي حلقي فلا أخبر أبي مرّة أخرى بأنّني أحبّه ولا أرسل إلى السّقف قبلات المساء.
بسرعة غادرتُ المطبخ واحتميت بجدران غرفتي. ما أثقل خطاها وهي تتنقّل بين الغرف. كم أخاف أن تطأ قلبي فيسقط كما سقطت قطعة اللّحم من الصّحن وأتناثر كحبّات الأرز.
دخلتْ الغرفة المقابلة. فتحت التّلفاز. نظرتْ إليّ جالسا على سريري مكتوف اليدين. أفزعتني عيناها الثّابتتان وانتظرت أن ترميني بالشّرر كما في الرّسوم المتحرّكة. لم تكن لي الشّجاعة الكافية لأغمض عينيّ. خفت أن تظنّ أنّني لا أريد النّظر إليها. الحقيقة أنّني كنت خائفا. كلّ ما في الأمر أنّني كنت خائفا. أنا خائف، يا أمّي، فأنزلي السّقف ودكّي الغرفة أو ارفعيني إليك فلا تراني. خبّئيني إلى أن يعود أبي وكلّما غاب خذيني إليك. أنا خائف. كلّ ما في الأمر أنّني خائف.
رفعتْ صوت التّلفاز فعرفتُ المتكلّم وتخيّلت وجهه وربطة العنق وكدت أهرع إلى الشّاشة ألتصق بها وأهمس في أذنه “اجعلها تحبّني”. بدا لي أنّها تسلّلت إلى رأسي وقرأت أفكاري. رأيتها تترك مكانها وتتّجه صوب غرفتي. تجمّد كلّ جسدي ورأيت حروف اسمي تصعد إلى السّقف متناثرة. نظرت إليّ بعينين زجاجيّتين ثمّ أغلقت الباب بالمفتاح. تمنّيت أن تضربـني، على الأقلّ حينها كنت سأشعر بأنّها كالبشر تضرب وتصرخ وربّما قد تبتسم لي. فجأة أُدير المفتاح واهتزّ المقبض. دخلت حاملة المذياع. فتحتْـه ورفعت الصّوت عاليا ثمّ حذّرتني من خفضه.
لم أستطع أن أقول شيئا. كنت ثلجيّ الجسد مهزوما. لم تترك فيّ نظراتها شيئا ينبض. ربّما هذا ما عاشه الأرنب في نهاية الحلقة. الأكيد أنّ قلبه قد توقّف فلا طاقة له على اللّهث أكثر ولا طاقة لي على تحمّل الصّوت أكثر. بكيت حتّى جفّ حلقي. رأيت وجه أمّي في السّقف يبكيني لكنّ دموعه لا تتساقط فتُـغرق المكان وتبتلعني.
ازداد الصّوت ارتفاعا فشعرت بأنّهم متواطئون معها. وضعت رأسي بين يديّ لكنّهما عجزتا عن حمايتي من الألم. رفعت بصري فرأيت العصفور والأرنب يلهثان هاربين. إلهي، ألم تنته بعد رحلتهما؟
نهضتُ، اتّجهت صوب الباب، حرّكت المقبض مرارا، صرخت حتّى بحّ صوتي، تهاوى جسدي، أغمضت عينيّ حين تداخلت الوجوه ورأيت أمّي تتلبّس وجه الأرنب ورأيتني بوجه عصفور مقطوع الجناحين. ضربت الباب بكفيّ لكنّ صوت المذياع كان أقوى. ناديت “أمّي”، رجوتها أن تفتح، أقسمت لها أنّني سأنسى كلّ ما سمعتُ وأنّني من هنا فصاعدا سأُصمّ لأجلها وإن شاءت سأخرس أيضا لكنّها لم تأت.
اقتربت من المذياع ومددت يدي لأخفّض صوته. تذكّرت عينيها حين نظرت إليّ وهي تحذّرني فــتـيــبّست كفّي وارتدّت أصابعي. تمنّيت أن ينقطع الكهرباء فأصرخ عاليا ويسمع الكلّ وجعي. حينها قد تخجل أو تخاف فتفتح الباب ولتفعل بي ما تشاء. لم أعد أتحمّل أن تسجنني في الغرفة مع المذياع. كم أتمنّى أن تكون للمذياع عينٌ كما في الرّسوم المتحرّكة فيراني ويخفض صوته. أنا متأكّد أنّه سيشفق عليّ وربّما سيتظاهر بفقدان توازنه فيسقط وأرتاح. هل تراه يرضى أن يموت من أجلي؟ لا أعرف، مازال صوته عاليا، سأرجوه أن يصمت، أرجوك اُصمت، أرجوك..
أعلنت ساعة المذياع منتصف النّهار. كان رأسي يؤلمني بشكل غريب. حضنته بيديّ، حوّلت مكانهما لكن دون جدوى، كأنّ حشرات كثيرة سكنته. صرت أضربه على الحائط علّني أتخلّص من طنينها فأقتلها أو تحلّق بعيدا عنّي. ازداد الوجع وشعرت أنّه سينفجر. صارت الضّربات أسرع، بدا لي أنّ رأسي يرقص على إيقاع الأغنية ثمّ تراخى جفناي وسقطتُ أرضا.
حين فتحت عينيّ، كان وجه أمّي في السّقف يبتسم لي وكان أبي يضع رأسي بين كفّيه. أخبرني أنّه حطّم المذياع وأنّ زوجته “أمّي” غادرت ولن تعود وأنّ قلبه لا يتقلّب إلّا ليحبّني أكثر.