أضعنا الفرص الكبرى.. فلنفكر بإنقاذ الذات
لا يمكن تضييع الفرصة. هذه من أوائل الحكم التي تتعلمها في الحياة. المتسرعون يلامون على تسرعهم كثيرا. لكن الازدراء الأكبر مخصص للمترددين أو لأولئك الذين أضاعوا فرصا في الحياة قد لا تتكرر أبدا. المتعثرون لا آمال لهم بحظ أو فرصة. هذا على المستوى الشخصي. أما على مستوى الدول والأمم فالعملية أكثر تعقيدا ونتائجها ذات آثار مصيرية.
خذ مثلا مرحلة الخمسينات والستينات. استطاع العالم العربي أن يسجل قفزات ثقافية واجتماعية كبيرة. كانت قوى الاستعمار التقليدية لاهية بلعق جراح الحرب العالمية الثانية وإعادة إعمار ما خربته الحرب. ما عادت للعالم معدة يمكن أن تهضم أفكار الهيمنة والاستعمار القديمة بعد أن ذاقت أوروبا نفسها مرارة السيطرة والاستعمار النازي والفاشي. كانت تلك الفرصة للعالم العربي تمزج بين ليبرالية غربية تركها الاستعمار ورغبة في التحرر والانطلاق، أنتجت واحدا من أفضل الأجيال الثقافية عربيا، ورسمت صورة لمجتمعات متغيرة تسعى للانفتاح والتعليم ومشاركة العالم الكبير حراكه نحو التقدم.
***
نافذة الثروة النفطية كانت فرصة ثانية. فالسبعينات أغرقت المنطقة بالبترودولار. تدفقت الأموال على معظم الدول العربية، بطرق مباشرة وغير مباشرة. الدول النفطية تمتعت بالريع المباشر، والكثير من الدول العربية استفادت من تحويلات يجريها أبناؤها العاملون في الدول النفطية. بعض الدول بدأت بمشاريع جبارة للتنمية شملت كل شيء، من البنى التحتية إلى التعليم وصولا إلى ملامح أولية لصناعات ظلت بعيدة عن منطقتنا.
في ما عدا المدن التاريخية الكبرى، معظم ما نراه اليوم من أبنية وبنى تحتية، مدهشة عند البعض أو متهالكة عند البعض الآخر، هو نتاج الإنفاق المبني على الريع النفطي في مرحلة ما بعد السبعينات.
ثورة الاتصالات والإنترنت كانت فرصة ثالثة. الحديث عن القرية الكونية كليشيه ولكنه حقيقة. كان الكتاب يفتح عالما خياليا للقارئ، وكان الراديو ثم التلفزيون أدوات توعية صوتية وبصرية مهمة ولكنها تبقى أسيرة الجغرافيا والاعتبارات الوطنية. الفضائيات والإنترنت كانتا شيئا آخر. أنت ترى ما يراه الجميع وتستطيع أن تتواصل لحظيا مع الآخرين. الموبايل سهل الأمر أكثر وجعل الكتاب والراديو التلفزيون والبريد في جيبك في كل مكان.
ما يحبط في العالم العربي أن هذه الفرص الكبيرة لم تغتنم أو تمّ تضييعها لاحقا. من جمود الثقافة والتعليم، إلى انتهاء الفكر الحرّ والوقوع في أسر التشدد الديني، وصولا إلى تضييع منهجي للثروات في حروب وصراعات وفساد. وبدلا من استغلال الثورات العالمية في الزراعة والتكنولوجيا والتقنيات الحياتية، تضيع أجيال في جدل يشبه جدل جنس الملائكة أو جدل القيامة الدينية والطائفية.
لا يحتاج العالم العربي إلى أن يقارن نفسه مع الغرب مثلا، أو حتى مع مشروعات عالمية أخرى في الشرق الأقصى، أو أميركا اللاتينية باعتبار أنها كانت تعاني من مشاكل الاستعمار أو الهيمنة الشبيهة بما كانت عليه حال منطقتنا.
لكن منطقتنا، المستغرقة في النظر إلى تاريخها الماضي، تحتاج أن تنظر إلى ما تحقق ثقافيا واجتماعيا وماليا وتنمويا قبل عقود قليلة. ليس من المطلوب تحقيق المعجزات، بل فقط البناء على ما سبق. قد يبدو البناء على ما سبق وكأنه عودة إلى الماضي، ولكنه، بكل الاعتبارات، أفضل من القبول بالأمر الواقع، أو الركون إلى عالم تتحكم فيه العمامة والبدع الدينية. طالما تراجع مشروع الدولة الوطنية في عالمنا العربي، فلماذا لا نستثمر في مشروع الإنسان، وعلى مستوى شخصي؟
ثمة أدوات كثيرة تساعدنا اليوم. لا يمكن الاستهانة بما توفره التقنيات الحديثة. كان المثقف يعاني للحصول على كتاب يقرأه. اليوم يستطيع تنزيله خلال ثوان. كان الناقد المهتم بالفنون عاجزا عن شراء كتب اللوحات الملونة، اليوم تجد على المواقع كل ما اختطته يد البشر. الأوراق العلمية متاحة والبحوث النظرية في متناول اليد. لماذا تزخر الشبكات الاجتماعية بـ”جلسات” النميمة والتذمر بدلا من أن تكون صالونات أدبية وثقافية أو ورشاً علمية لتبادل المعرفة؟
لا حاجة لانتظار الكثير من الدول. الدولة الوطنية في عصر ما بعد الربيع العربي “فيها ما مكفيها”. ولكن من المخيف أن تضيع الأجيال الفرصة الذاتية، لمجرّد أن دولها عجزت عن الإمساك بالفرص الوطنية. طالما يتعثر المشروع الجمعي الواسع، فلماذا لا نعود إلى ما يشبه القرى الثقافية والفكرية والعلمية، تجمعنا الرغبة في إنقاذ الذات أولا لعل ثمة تراكما في الأفق للفرصة الأكبر والأكبر؟ لعل تلك الجماعات الصغيرة تصل يوما إلى الكتلة الحرجة التي تقود التغيير نحو الالتحاق بعالم مسرع لا ينتظر أحدا.