أطلال الأندرين
أول ما يقابل زائر هذه المدينة الخراب – كالعادة – هي الثعالب، التي تعيش في سورها الذي ظل سالما في كثير من أجزائه والأقنية المائية التي مدت بمحاذاته.
تفتن هذه الأطلال كل من يمرّ بها لأسباب كثيرة، لعل أهمها تلك الطريقة التي تبزغ فيها بقايا المدينة البيزنطية وسط بريّة منبسطة مترامية الأطراف، مفتوحة غرباً على سبخات تستقبل طيور الكراكي المهاجرة. وشرقاً تنداح البادية القفراء حتى مدينة دير الزور. تحلّق في سمائها أسراب القطا المتجهة جنوبا صوب منطقة “السعن الأسود” حيث المياه العذبة.
ينفر قلبي من مكانه حالما ألمح تلك الأبراج المتداعية المشيّدة من حجارة سوداء. اندثر كثير من قصور الأندرين وثكناتها وكنائسها بسبب يد الجهل الغاشمة التي طالتها لعقود طويلة، فيما ينقضّ الأهلون على آثارها، ويسرقون حجارتها لعمارة دورهم في الضويعات المتناثرة حول المدينة الأسطورية. ندرك مدى عظمتها عندما نعلم أنها تضم سبع كنائس وعدداً رهيباً من معاصر العنب الذي تغنى بخمره شاعر الجاهلية الأشهر عمرو بن كلثوم في مطلع معلقته البديعة:
ألا هبّي بصحنك فاصْبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
عبرت سيارة الشفروليه التي قادها شاب صغير هو حفيد لأحد أبناء عمّي، بينما فضّلت الجلوس في الحوض الخلفي مع ثلاث من النساء وطفلين صغيرين وشابة صغيرة، واثنين من أبناء عمي وقد برزت أسلحتهم واضحة. ساعدت زخة المطر الصباحية الخفيفة على تنويم الغبار الذي ينطلق عادة في أثر عجلات السيارة.
لا يحتاج الأمر إلى تدقيق كبير لنتأكد أنّ الأندرين هي الشقيقة “المعمارية” لقصر ابن وردان. يوحّدهما الطراز المعماري، فقد بنيت كلّها بذات الطراز الأبلق الذي يشتهر به قصر ابن وردان.
ببطء شديد عبرنا إلى جوار بقايا أبراج مربعة وأبراج أخرى مزواة سداسية الأضلع. سبقتنا في الوصول عدة سيارات أخرى تناثرت في أنحاء المدينة المشكلة من تلال صنعية صغيرة ومتتابعة بحيث تخفي ما خلفها، ومن الصعب رؤية من قد يكون قريباً منك. لا خوف هنا من العصابات إلا في الليل، أما في النهار فهنالك دوريات من الجيش النظامي تجوب الطريق الذاهب إلى مدينة حلب، لأنه غدا الطريق الرسمي والوحيد لحافلات السفر وشاحنات النقل بين دمشق وحلب، بعد انقطاع الطريق الرئيسية بين حماة وحلب، بسبب سيطرة جماعة مسلحة أخرى حملت اسم “تحرير الشام”. كلها تحويرات ومسمّيات لتطرف واحد. ولم تشكل قط المعارضة الحقيقية التي بدأت نظيفة من أوساخ التعصب، وسرعان ما طمرت بأوحال التشويه وتمّ جرّها نحو التطرف الديني، آخذاً الصيغة الجهادية السلفية والتي تشبه تنظيم القاعدة إلى حد بغيض.
تخشخش بمفاتيحها هند مربية الحيّات. تحرس مدينتها دون ضوضاء: لا تقتل ولا تسفك الدماء، يكفيها أن تبثّ الرعب في نفوس المتطفلين. تبدو بقامتها الأفعوانية شيئا جميلاً مشعّاً نراه عن بعد ولا يمكن الاقتراب منه قط. شيء فيه سحر وغموض درب التبانة، سحر لا نعرف مصدره الحقيقي. اختارت هند هذا المسكن المعزول، أرادت أن تنفرد بمملكتها، فخربتها حتى لا تغري أحداً.
سمعت الكثير من الحكايات الحزينة عن تعذيب الأبرياء وقتلهم ورميهم في الآبار الرومانية الأثرية. استمعت بقهر شديد لتفاصيل تلك المآسي، بينما تترنح السيارة بسبب وعورة الدروب الترابية المتلاشية، التي تشكل شبكة عنكبوتية على بدن المدينة الخرب. حكت لي قريباتي عن حالات من الجنون أصابت بعض الذين حاولوا نبش المدافن في المدينة. كل شيء هنا لعنة. عفاريت غامضة تنتقم وتحرس في الوقت نفسه. بدا الشاب الصغير الذي قاد السيارة مرتبكاً في وجهته، التبست عليه الاتجاهات بينما كنا نقصد فعليا جنوبي الأندرين، نريد زيارة بركة الماء التي تختفي فيها البنات الجميلات. رويت للتو قصة شابة جميلة اسمها “نورا” من بنات عشيرة مجاورة كانت تدرس في جامعة حلب، خطفت على طريق حلب، وبذريعة مخالفة الشرع وأنها عاصية، اقتادها الملتحون إلى جهة مجهولة ولم يعرف مصيرها حتى اليوم!
علا صوت ابن عمي الذي يجلس معنا في الحوض وهو يخاطب ابنه عبر النافذة ويدفعه لتغيير اتجاه سيره، حتى لا نضيع بين متاهة تلك المنحنيات التي تخبئ حمامات وكاتدرائيات ودوراً وثكنات تدفع الزائر للتساؤل عن مدى خصب هذه البطاح في الأمكنة الغابرة إلى حد سمح ببناء مدينة بهذا الثراء المعماري في هذه البراري النائية، وأيّ كروم كانت تزرع هنا حتى اشتهر خمر الأندرين؟
شدت الأبصار إلى أعلى بينما عبرت على ارتفاع منخفض أسراب من الإوز تسافر جنوباً. لا يجرؤ أحد على إطلاق النار، والسلاح الذي معنا للحماية وليس للصيد. لا أحد يريد أن يلفت الانتباه بإطلاق نار!
سعدت بذلك الوضع وإلّا لكنت شهدت مجزرة أوز.
مفاتيح بنت الملك الأحمر وأسماكها السحرية!
كما كل شيء تشاهده فجأة أمامك في هذه المدينة، وجدنا أننا قريبون جدا من الكورنيش الرخامي المزخرف للخزان المائي الضخم، الذي سبق وأن قرأت عنه في دراسة لبعثة ألمانية نقبت في المكان قبيل الأحداث أن ماء هذه البركة الضخمة يتغذى من قنوات تأتي من عدة اتجاهات وتتجاوز بعض هذه الأقنية العشرة كيلومترات.
تمنح الحكايات للأمكنة حضورها، تشبهنا الأمكنة. نحن كأفراد لا تكون لنا حكايتنا دون تاريخ أو تجربة، يجب أن تكون لنا حكايتنا، أجمل ما يحدث لنا هو امتلاك حكاية. ولهذا الخزان المائي مربع الشكل الذي يبلغ طول كل ضلع فيه ستين متراً هو جزء من حكاية هند بنت الملك الأحمر، عرّافة الجن وقارئة الغيب والعالمة بمكنونات النفس البشرية. ذاع صيت هذه البركة التي تتحرك فيها أسماك أسطوانية الشكل تشبه الأفاعي، إلى حدّ أنّ كثيرا من الرجال يتهيبون النزول فيها خوفاً من تلك الأسماك التي لا تظهر إلّا كلّ سبع سنوات! أكدّ الناس هذه القصة دائما، ويبدو أنه بالفعل لا تظهر هذه الأسماك إلّا بين فترات متباعدة تصل إلى سبع سنوات. لكن في تلك السنة التي تظهر فيها أسماك بنت الأحمر، تتوافد الشابات للاغتسال بماء البركة لأن ذلك يجلب الحظ، وغالباً ما يحدث ذلك في أواخر شهر أيّار حيث تكون مياه البركة قد انخفضت لمستوى يسمح بالنزول إليها دون الخوف من الغرق. انتهت هذه العادة باختفاء شابة ابنة شيخ عشيرة كبيرة اشتهرت بحسنها وكثُر خطابها اسمها “هند”.
نزلت حوالي خمس عشرة شابة بعمر الزواج ولم يكن عمق المياه يتجاوز الخصر. ساد المرح والصخب قليلاً وعندما بدأت الشابات بالخروج من البركة انتبهن أن هند بنت شيخ عشيرتهن لم تكن موجودة. ببساطة، اختفت إلى الأبد. ومنذ ذلك الوقت لم يقترب أحد من ماء البركة.
تروى هذه القصّة دائما بهذه الصيغة، وسمعت أنه في ربيع 2018 ظهر ذلك السمك الذي يشبه الحيّات. إذن لم تزل بنت الأحمر تبسط سيطرتها على المكان!
يتحرك هنا فنانو اللامرئي، مؤرخو الرومانسية الخرافية. جمالٌ متناثر يستجيب لذوق إغريقي. لا جمال دون شيطنة. الأسرار شيء أساسي في سيرة كلّ جمال.
لم تزل هذه المدينة الخراب المهجورة منذ حوالي أربعة عشر قرنا تستدرج الزائرين تبثّ أسرارها وجاذبيتها كبعض النجوم التي تشع بعد آلاف السنين من اندثارها.
تنقلتُ بحذر على الممشى المزخرف المحيط بالبركة. تشوهت بعض أجزاء الكورنيش العريض الذي يحيط بها. بدت المياه بعمق يتجاوز الثلاثة أمتار.
جلست على حافة الكورنيش بينما تمشّى من جاؤوا معي بمحيط الخزان، وراحوا يجمعون الفطر والكمأ وأعشاباً مختلفة منها النعنع البري، ونباتاً له بصيلات صغيرة طعمها حلو يتسلى الأهالي بشيِّه ليلاً على النار اسمه “الحيلاوان” جمع الصغار كميات كبيرة منه.
ها هي ساعة الوجود الرملية الأزلية تقلب من جديد، في هذه اللحظة أجلس على كورنيش بركة هند بنت الأحمر، وأمرجح ساقي في وقت هو مطلع قرن جديد وألفية جديدة. أعيش أسيرة التجاوب العاطفي مع اللحظة، فقبل أسبوع من الآن كنت أمشي على الكورنيش البحري لمدينة بيروت، أشرب قهوتي في ستاربكس وأقلّب صفحات الوورد على اللابتوب، والآن أنا هنا في مكان أكثر من بعيد زماناً ومكاناً وروحاً.
يصيح أحد الصبيين ” حيّة.. حيّة”. تخفت الضجة، لأنّ هذا المخلوق الزاحف الأملس سرعان ما سيجد طريقه للانسلال بعيداً عن النظر. لا تسلِّم بنت الأحمر حرّاسها لأحد. ويتجنب البدو قتل الأفاعي في الأندرين ومحيطها. قلما تقتل أفعى. يسود اعتقاد أنها من الجنّ، وهي إما كافرة أو مسلمة، فإذا كانت مسلمة فقتلها حرام وإذا كانت كافره فإنها ستنتقم حتى لو ماتت.
هنا الحكم للأرواح، لكل مكان روح وهيبة وكرامة يخشى الناس المسّ بها.
الأفعى هي أحد أقنعة بنت الأحمر، كما أنّ العقرب قناع لبنت شمهورش، بينما الملكة الثالثة بنت برقان فقناعها الحمامة.
تحضرني عبارة لنيتشه “كل من يتصف بالعمق يحب القناع، وكل روح عميق بحاجة إلى قناع، بل أكثر من ذلك، حول كل روح عميق هنالك قناع ينمو دون توقف”.
نعود لأمكنتنا في السيارة التي تتحرك بذات الحذر والبطء، بينما أحكم لفّ الشال الذي أحيط به رأسي لأغطي شعري تفادياً للفت الانتباه، وألفّه حول عنقي وأغطي أنفي. لا يمكن لامرأة أن تتحرك هنا سافرة الرأس.
بينما لم يكن الحال كذلك قبل سنوات. لا أتذكر أني اضطررت لتغطية شعري قبل 2010، لكن تغّير الحال وبسط التخلف الديني رداءه الرثّ والمهلهل على العقول البسيطة.
سفعت الريح الباردة وجوهنا بينما تقطع السيارة دربها عائدة صوب ديارنا القريبة. يتعلق بصري بالفيافي الهاربة إلى الجنوب، حيث جبال البلعاس وتلك البقاع المغطاة بالحجارة الحريّة السوداء. بقعة عزيزة وأثيرة على نفسي وقلبي، لكن من المستحيل الذهاب هناك في ظل الظروف الحالية.
فاحت رائحة بصيلات “الحيلاوان” المشوية، وسرعان ما طغت رائحة البطاطا مع الخبز والشاي الخمير. لا أظن أن أحداً من عائلة ابن عمي المؤلفة من حوالي عشرة أشخاص حدس مدى استمتاعي بضيافتهم، ظنّوها متواضعة وكانوا خجلين منها بسبب ظروفهم القاسية التي يعيشونها. فلولا القليل من المال الذي حوّله لهم ابنهم الكبير الذي يعمل في السعودية لما استطاعوا ترميم بقايا منزلهم، وإعادة طلائه وتركيب إطارات للنوافذ ودرفات حديدية. كذلك الأبواب التي جلبت حديثاً وكانوا سعيدين أنهم تخلصوا من تلك الأقمشة الرثة التي غطيت بها الأبواب والنوافذ لمدة تزيد عن ستة أشهر قبل أن يتمكنوا من استبدالها بأبواب حقيقية. كانت فرحتهم كبيرة بالنوافذ والأبواب الجديدة.
اعتادوا – منذ فقدانهم لنعمة جرّة الغاز – على تلك النار المشتعلة بين ثلاثة أحجار، وغدت مكاناً لتجمعهم حتى في ليالي الشتاء.
لحق بي أبواي وكذلك سامر، وتجمعنا حول النار والروائح الذكية التي تعبق في المكان. زاد عدد الساهرين وتجمع تقريباً كلّ الموجودين في القرية.
رحتُ أقشّر بصيلات الحيلاوان وأستمتع بمذاقها الحلو، واسمع لكل تلك الأشياء التي تروى في سهرات القرى. نعم، بالحكايات يشفى العالم، ويرمم بدنه المثقوب بالقلق والجزع والخوف من الغيب.
تطقطق النار، تنشر حضورها البدائي، بهذه الصيغة المتوحشة. لا يختلف الوضع كثيراً عن البشر الأوائل وهم يتحلقون حول النار لأجل الحاجة. هنا الأمر كذلك، تدفئنا وتحمينا من البرد.
أفكر بينما تتنقل أصابع يدي بين كأس الشاي وبصيلات الحيلاون التي رحتُ أقشرها كما فعلتُ مرّات كثيرة خلال طفولتي. ها أنا في “الجفتلك” مرّة أخرى. عالم كالجزيرة: معزول، له شمسه وسكونه وضوؤه وآفاقه وخيالاته وخرافاته، أفكر أنها من الأمكنة التي أقضي فيها أوقاتاً طويلة بسعادة كبيرة.
رغم الظروف المفخخة بالخوف والحذر، وحالة التحفز الدائمة التي تسيطر على الجميع، ثمة سحر خاص يفرد ظله في هذه اللحظة. إنه سحر الأمكنة التي تقع على حافة العالم. أمكنة بعيدة ونائية، نظيفة من الطرق المعبدة ومحطات القطارات ومدارج الطائرات. كل شيء هادئ وخام.
فاحت رائحة شوربة العدس المطبوخة على النار، التي تضاف لها دهون إلية الغنم مع قطع من الكبد المهروس. استعيدت عادة قديمة جدا: الاحتفاظ باللحم “القورما” بجلد الخروف المدبوغ والمخيط بإحكام. لا وسيلة غير ذلك للاحتفاظ باللحم في ظل الظروف الحالية. لا وجود للبرادات أصلاً، لأنها نهبت واختفى أثرها من أيّ بيت. وحتى لو وجِدت، لا كهرباء لتشغيلها. فاحت رائحة تدفعك لتجوع حتى لو كانت بطنك ممتلئة. وجدت أن الحديث الدائر عن عصابات الموت التي تقتل وتهجم على الضويعات الغافية على خاصرة البادية على بعد 30 كم من هنا شرقا، هي سيرة يفترض أن تتغير. يكفي أن أرمي اسم رقيّة بنت شمهورش أو عفريتة أخرى حتى تتبدّل الأجواء.
ما زلت أدافع عن الخرافات. أتذكر كيف أنني كتبت ذات مرة وأنا بعمر السابعة تقريباً مذكرات مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية وبأسلوب ركيك ومباشر.
تلقيتُ تعليمي لمدة عامين في مدرسة مرتجلة في إحدى القبب في قرية أخوالي التي تبعد من هنا أقل من خمس كيلومترات. يومها امتلأت يومياتي بملاحظات شخصية عن جدتي وأخوالي – نجا أعمامي من الملاحظات لأني عشت وقتها في قرية أخوالي – وكتبت عن أبنائهم وأحفادهم وأغنامهم ودجاجاتهم وكلابهم وقططهم، وكان للحيّة الحمراء التي تربيها جدتي في القبة الطينية التي حولتها إلى مطبخ وحمام، حصّة كبيرة من الملاحظات: (صلعاء، نحيفة، لئيمة، تفرّخ كثيرا، كلّ أولادها يشبهونها، كذلك أحفادها، وأقاربها! ترتدي ثوباً واحداً لا تغيّره، لونه أحمر قرمزي مسود في بعض أنحائه، يصعب تخمين طولها وعرضها لأني في كل مرّة ألمح جزءاً منها يتحرّك. علاقتنا باردة ولا تستلطفني كثيراً، تحبّ النوم في الطحين، متطفلة، وقليلة تهذيب لأنها تراقبني عندما استحم..).
أضحك بيني وبين نفسي وأنا أستعيد هذه اليوميات المليئة بحماقات غير حقيقية ولا منطقية عن الحيّات. كتبتُ إضافة إلى اغتياب الحيّة الحمراء بعض الأسرار التي سمعتها عن بنات الجن. كنت بصدد تدبير مؤامرة تطيح بعرش بنت شمهورش لأني مغرمة بقصر ابن وردان، وأريد أن أحكم أنا تلك الفيافي! فكان كل ما كتبته مداهنة لبنت الملك الأحمر، لتأخذ صفي في معركتي مع بنت شمهورش، واعتبرت أنه يمكنني مقاتلتها فهي ابنة جني وأبي ضابط بالجيش وسيساعدني..! افترضت أنه تحالف معقول بين الجن والعسكر! ويمكنني استغلال كره النساء الفطري لبعضهن البعض! يبدو أن الظمأ للسلطة وأوهام البشر بالمجد الزائف تبرعم مبكراً في صدورهم. فما الذي خرّب مدينة بعظمة الأندرين؟ رغبات لا تنتهي بالتملّك، رغبة لاذعة تحرّك الرجال وتدكّ المدن وتُفنى الإمبراطوريات.
يضع صبي صغير صحناً طافحاً بشوربة العدس وملعقة. يغمرني سحر السخونة. للأشياء الساخنة نكهتها الفريدة في معظم الأوقات، وهنا بالذات يتعاظم حضورها.
تدور السيرة عن “أجدادنا” وعن السبب الذي دفعهم للاستقرار في هذه الفيافي. طبعاً السبب واضح، إنها المراعي الخصبة التي تجود بها هذه البطاح في الربيع.
تُسرد سيرة أحد الأجداد. الجميع لديهم أسلاف أبطال، كلنا ننحدر من صلب أناس خارقين! هذه هي حال البشر، في فترات مبكرة من فجر التاريخ كان ينسب البشر أنفسهم إلى الآلهة. حاليا الموضة السائدة أنّ الجميع يريد أن ينتهي نسبه إلى آل البيت! والمتواضعون يقبلون بانتماء نسبهم إلى أحد الأولياء وحسب!
لم يشفوا قط من وهم التميّز والرغبة في الانتماء إلى أسلاف نبلاء، وتروى سيرهم على أمل إعادة إحياء الماضي المجيد. لا بأس بالتذّكر، لأنه شكل من أشكال الحياة. النسيان هو الموت، يموت من لا يتذكره أحد. تموت كلّ تلك الأشياء والمواقف والبشر الذين ننساهم. تختلط حكايات الأجداد في كرة مشوّشة من القصص. يؤمن البدو بـ”السلالة”، وأنّ “المميزين” هم نتيجة تسلسل من الاصطفاءات الجينية الغامضة. أظنه شيء لا ينكره حتى العلم. لكن الثقة بالجينات شيء مختلف تماماً عن الإيمان بخرافات النسب.
أكلت كلّ ما في صحني واستمتعت بسخونة كاسة الشاي الصغيرة التي أحطتها بكلتا يديّ، بينما ارتفع صوت الزيزان وسمعنا بوضوح ضُباح الثعالب، الذي تحول إلى عويل متواصل، موسم الحب، الجنس، التزاوج. يتحدث الجميع منذ وصولنا عن ازدهار الحياة البرية في “الجفتلك” بسبب غياب جفت الصيد، وانشغال الناس بقتل بعضهم البعض فنسوا الحيوانات. ظهرت الذئاب بكثرة، وكذلك الثعالب أصبحت تتجول بحرية في أنحاء القرى دون خوف من الإنسان، فلا أحد يجرؤ على إطلاق الرصاص حتى لا يلفت الانتباه. أراد الجميع في ظل الموت أن يكونوا لامرئيين.
جرى الحديث صوب عالم الخيول: لم يزل الماضي حاضراً في الذكريات، وتحدث ابن عم لأبي قارب عمره السبعين عن ذكرياته مع فرس لجدي كانت شهيرة بذكائها وكبريائها. كادت تتسبب بحرب بين عشيرتنا الصغيرة وقبيلة كبيرة تتزعم حلفا قبليّاً كبيراً، لكن حنكة جدي الحاضرة دائماً أنقذت يومها عشيرتنا من تلك الورطة. للمرة الأولى يخطر في بالي “لماذا لم أكتب شيئا عن “الجريشية” اسم تلك الفرس الشهباء الخرافية”؟ انخرطتُ مع الحاضرين في دوامة التذكّر المشترك. تكلمتُ أخيراً وذكرت مدى حزني على البارودة الفرنسية التي يعود تاريخ صناعتها إلى 1912 والتي حملها كلّ من جدي وعمي رحمهما الله. كانت ذكرى ثمينة بالنسبة إليّ، كذلك ملأني الحزن على افتقاد التذكار الوحيد الذي حصلت عليه من جدتي، كان عبارة عن كيس ضخم منسوج من شعر الماعز ومزيّن بالصوف الملون، والمرايا الصغيرة والودع. يسمي البدو الكيس الواحد منه “فْرَاد”، يستخدم لتخزين الطحين ويحضر في جهاز العرائس كشيء يتم التباهي به. لأول مرّة أنتبه إلى أنّ تلك الفراد كانت تحمل مرايا ووَدَعاً في آن واحد، هنالك من يريد استرضاء كلا الجنيتين الغامضتين بنت الأحمر وبنت شمهورش!
استمر الحديث عن الأجداد لأن ابن عمنا السبعيني كان أشهر “نسّابة” في العشيرة، بل كان “النسّابة” الأخير. الانتساب ضرب من الانتماء والوفاء للماضي الذي يخافه البشر ويتجنبون إغضابه. لهذا تغدو إعادة قراءة الماضي من خلال الأشياء، أمراً شرعيّاً ومباحاً وإلّا ما الذي يربطني بالبارودة الفرنسية المفقودة، والفراد المزينة بالودع والمرايا؟
هدر السيل الخفي في رأسي، وفكرت في حقيقة “الغربة الثقافية” التي أعيشها بعيداً عن هذا المكان، بينما أغرق في هذا السبر الحكائي الماضوي الذي تنضح به حكايات أعمامي عن الصقور والخيول والكلاب السلوقية والضباع والذئاب.. كلّ هذه الحكايات هي وطني الخفي الذي اعتدت أن ألوذُ به مهما كنتُ بعيدة عن هنا.
نعلن أننا حراس مخلصون للأجداد من خلال قصّ حكاياتهم. النسيان خيانة وانتقام وتمرّد، والتذكّر اعتراف وامتنان وولاء. منذ صغري وهذه الحكايات بالذات تدغدغ كبريائي الشخصي والمخفي، لا أجاهر به لكنه يمنحني شعورا داخليّاً قويّاً بالاختلاف، لهذا كنت دائماً مثار أسئلة بين أقراني في المدارس الكثيرة التي تنقلت بينها بسبب طبيعة عمل أبي في الجيش. غيّرت أحياناً مدرستي مرتين في السنة. لكنّي في كلّ الظروف كنت “بدوية” وأثير استغراب المدرسين والزملاء على حد سواء وهم يقرأون اسم أمي الغريب “باشه”، واسم والدي ذي الوقع الموسيقي الرنان “هَوْيَان” وبذات الوقت لم تكن هيئتي الخارجية مقنعة ببداوتي، فلم أكن أحمل الصفات الجسدية والملامح السمراء المعتادة التي انزرعت في الذهن الجمعي العام عن البدو. كنت دائما أحتار كيف لي أن أجيب عن سؤال المدرّسة أو الأستاذ عن أصلي وفصلي؟ كيف لي أن أشرح تاريخاً كاملاً على عجل؟
تحضرني عبارة ستيفنسون الشهيرة: “لدي ذاكرة عظيمة، للنسيان”.
هنا في “الجفتلك” أنسى كل ما عشته، هنا أنا في السابعة أو التاسعة على أبعد تقدير!
أيدٍ خفية تفرش عباءة الرومانسية والسحر، رغم القلق العام السائد وقسوة الحياة اليومية على الأهالي. أنقذتهم السماء من الجوع، مرّ عامان من الخصب والمياه الغزيرة التي انهمرت دون توقف. الوفرة في كل شيء: الأعشاب الطبية، والعطرية والفطر والكمأ والعكوب والهندباء والألغام؟ نعم، الألغام التي زرعت بكرم رهيب في هذه الفيافي. يعلم الجميع أن الأموال التي اشترت العصابات المسلحة بها هذه الكميات من الألغام هي أموال عربية! تدفقت بذريعة تمويل الثورة السورية التي بدأت بجهود جادة ونبيلة في بداية 2011، وسرعان ما اغتيل الشجعان والنبلاء وتواطأت عليهم جميع الأطراف لتتحول على عجل إلى ميليشيات متطرفة، دأب أفرادها الملتحين: القتل والنهب والتخريب بحجة الثورة. كل شيء هنا يبرر لماذا تتردد في رأسي كلمات كبلينغ:
“روما لا تنظر أبداً حيث تضع خطاها
حوافرها الثقيلة تنقضّ دائماً
على بطوننا وقلوبنا ورؤوسنا
وروما لا تبالي أبدا بزعيقنا”.
وجود الألغام حرم الأهالي من التمتع بخيرات البرية المجانية. كذلك مواشيهم المهددة بالألغام أو برصاص الغرباء الذين جاؤوا من كلّ أنحاء العالم. جمعهم التعصب الديني واللحى لقتل السوريين، بدم بارد.
نهضت حوالي السابعة صباحاً، أيقظتني رائحة الخبز.
كان الغادوس – وهو أسطوانة من المعدن تستخدم لنقل المياه – مليئاً بالمياه الساخنة، جلبه سامر من حيث تبقى النار مشتعلة، واستخدمته لحمامي الصباحي السريع بسبب البرد. استحمام اختصر برشق بضع طاسات مليئة بالماء الساخن وتفاديت غسل شعري. لست معتادة على كمية المياه القليلة هكذا. طغت رائحة صابون الغار على كل شيء. أحطت كتفيّ بالصوف وانضممت إلى أبويّ اللذين أعدّا مائدة إفطار مكونة من صحن لبن وقشدة وفطائر ثخينة مغطى بالفليفلة مع النعنع وزيت الزيتون. كان واضحاً أنّ الفطائر مخبوزة على التنور.
عادت الحياة البسيطة للظهور. كل شيء كان هادئاً وساكناً بينما تعزف الطبيعة موسيقاها دون إزعاج: شدو الحمائم وهديلها كان طاغياً بشكل واضح، أخبرنا سامر كيف أن الحمائم عادت لاستيطان الآبار الرومانية القديمة، التي لم تزل بفوهاتها الواسعة وحيطانها المبلطة وتلك الأدراج المهشمة التي تصل القاع المليء بالمياه.
سألتني أمي عن مخططاتي لليوم الثاني في الجفتلك. قلت دون تردد: إني أريد حمّاماً ساخناً.
وجدت الفرصة سانحة لتكرار طقس قديم أتوق له. سمعت أن النساء عدن الى الاستحمام بذات الطريقة قبل ثلاثين سنة. كيف؟ لا حمامات هنا! ومعظم البيوت منهوبة في أفضل الأحوال وغالباً أنّها محروقة. لا أبواب أو نوافذ لها، فوحدت النساء جهودهن وأعدن تأهيل قبة طينية قديمة: طليت من جديد بطبقة من الطين المخلوط بالقشّ الناعم، ومن ثم غمرت جدرانها بالكلس المذاب بالماء. أُصلح باب خشبيّ عتيق نخره الدود، وطلي بالكلس بدوره، وغدا جاهزا لسدّ المدخل، لكن دون براغي أو مفصلات تسمح له بالثبات، فكان يحمل جانبيّاً عند الدخول أو الخروج. لم يتجاوز عدد النساء الموجودات في القرية ست نساء وبضع فتيات صغيرات. يتفقن على يوم موحّد للحمام وتوقد الدفيئة في القبة، وتصطف “الغواديس” المليئة بالمياه وتسخن على التوالي، وتأخذ النساء كل واحدها دورها في الاستحمام بالشونة الصغيرة اللصيقة بالقبة، والتي تبدو كأخت صغيرة لها بجوارها. توفر الشونة الصغيرة دفئاً وخصوصية للاستحمام.
رحبن بفكرة انضمامي إليهن، وابتهجن أكثر بدزينة من صابون غار حلب كنت اشتريتها من حماة التي تباع فيها منتجات حلب الأصلية. اشتريت بضع دزينات هدايا مرغوبة جداً في بيروت. بدا أن الصابون هنا هدية لا تقدر بثمن. وأخذت معي كل ما يرافقني عادة من شامبو وبلسم وجيل شاور للجسد.
كن يعمدن بسبب الطقس البارد إلى دخول القبة لمدة قد تتجاوز الثلاث ساعات، فلا يخرجن قبل أن تنشف شعورهن وأجسادهن، لأن المرض يهدد الرؤوس الرطبة في ظل تلك الظروف القاسية.
حالما علمت النساء بانضمامي إليهن استبدلن الطبخات البسيطة التي اعتدن أكلها خلال الاستحمام كالخبيزة المطبوخة مع البصل أو الهندباء مع البيض المقلي، بطبخة أحبها كثيراً هي “المحشي”. كل شيء هنا “قديد”: الباذنجان، الكوسا، البندورة. وحدها الأعشاب متوفرة إضافة إلى الثوم والبصل والبطاطا التي تشترى من حماة، في حال توفرت النقود التي لا مصدر لها إلّا الأبناء المشتغلون في دول الخليج العربي، أو اللاجئون في دول أوروبا، وهؤلاء نقودهم قليلة جدا مقارنة مع ما يرسله العاملون في الخليج.
بالكاد توفر الأغنام القليلة المتبقية ما يسدّ الجوع. فاحت روائح مختلفة في القبّة المخصصة للاستحمام: رائحة الكلس المختلطة مع رائحة التراب الرطب وشيء من عفونة الأحجار القديمة، وغالبا ما تفوح من الأساسات الحجرية التي تؤسس قاعدة القبّة، وهذه عمرها لا يقل عن سبعين سنة. سرعان ما طغت رائحة المحشي الذي حشي بالبرغل لعدم توفر الرز، بينما استبدلت اللحمة الناعمة الطازجة ببعض “القاورما” لتمنحه نكهة الدسم.
غدت القبّة خلال أقل من ساعة ملعباً حرّاً للروائح: رائحة الصابون والخبز والشاي والمحشي الذي وصل القبّة وقد قارب الاستواء، بينما انحشر “غادوسان” في الدفيئة، ووضع طست وطاسة من القصدير في الشونة الصغيرة المفتوحة بفتحة منخفضة على القبة الكبيرة المحاطة جدرانها الأربع بمصاطب طينية متعرجة ومنحنية، وقد غطيت ببعض الشراشف القديمة لنستطيع الجلوس عليها.
جاء دوري لدخول الشونة بعد فتاتين صغيرتين. الشونة حمام نموذجي بسبب البخار الذي احتجزته الجدران. استحممت بالبيلون وهو نوع من التراب الحلبي الشهير المخلوط بعدة أعشاب عطرية، تغسل النساء به شعورهن لأنه متوفر غالبا وبسعر أرخص من الطين. أتبعته بقليل من البلسم الذي جلبته معي لأضمن تخليص شعري القصير من التراب.
أحطت جسدي بمنشفة، وكذلك رأسي، وخرجت حيث مصطبة منخفضة وكأس من الشاي. انتهت النساء من الاستحمام واحدة بعد الأخرى، خلال ذلك دارت أحاديث مختلفة عن زيجات وطلاقات واختفاءات غامضة لنساء وجدن في الأحداث فرصة لتغيير حياتهن ومصيرهن. إحدى قريباتي هجرت زوجها وطفلين، وبعد عامين ظهرت في ألمانيا! بين النساء الثلاث اللواتي شاركتهن الاستحمام في القبة، هنالك سيدة ليست من قريباتي لكنها شقيقة لزوجة أحد أبناء عمي. بدا صمتها واضحاً ويشي بحزن دفين. قلما تشارك بالحديث وتشرب شايها بسهوم، وتدخن سيجارة بين وقت وآخر. أخبرتني همساً قريبتها أنها كانت متزوجة في منطقة الرقة، وقبيل هجوم داعش على القرية الصغيرة التي كانت تقطنها، ساد هرج ومرج اندفع الجميع في حالة من الفزع ورموا أنفسهم في أحواض السيارات القليلة المتوفرة كيفما اتفق. فقدت أثر ولديها: صبيان في العاشرة والتاسعة، وقبل ذلك فقدت زوجها دون أن تعلم بمصيره.
عندما هربت على متن إحدى السيارات كانت قد وضعتهما بنفسها بين أغراض وأمتعة كثيرة خبّأ الأهالي أبناءهم فيها في حال اعترضهم أحد في الطريق، بينما اضطرت هي لأخذ مكان لها في حوض بيك آب آخر. خلال رحلة الهروب فقد كلّ أثر لتلك السيارة، وقيل إنّ الرجل الذي كان يقودها وآخر إلى جواره عثر عليهما مقطوعي الرؤوس على أحد جانبي الطريق. في حال لم يقتل ولداها فإنهما في معسكرات داعش يدربّونهما على قتل البشر وقطع الرؤوس وتقطيع الأوصال، هذا ما سمعته من الناس. أخبار حزينة، لا.. بل شنيعة ومقززة!
سرعان ما انقضى النهار، وعاد الليل مجدّداً بنجومه وعتمته وهدوئه. شاي وفراشات تطير حول الفانوس المضاء وسط صالون مفتوح لأحد البيوت التي تقرر السهر فيها، لأن الليل سيكون ممطراً ولن ينفع التحلق حول النار التي لن تتّقد جيّداً.
جيء بمنقل قديم فرش بالفحم المشتعل، منح قليلا من الأنس للجو البارد.
ليل صامت، هادئ، ساكن، وانصب الحديث على الذكريات. نتحلّق حول الضوء الوحيد في كل القرية، إنه ضوء “اللوكس”. سرعان ما دار اللبن في تلك الأباريق البلورية التي عثرت عليها أمي بين أغراضنا التي احتفظت بها عمتي، ومنحتها عن طيب خاطر لعائلة ابن عمي، حيث يتجمع الباقون والناجون والعائدون من أبناء القرية والذين لا يتجاوز عددهم العشرين بين رجال ونساء وأطفال، وبينهم شيخان عجوزان. كان كل شيء بسيطاً ومريحاً رغم انعدام أسباب الرفاهية المعتادة، عرفت مبكّراً أن السعادة شيء مختلف عن الرفاهية. السعادة نبتة غامضة تزدهر بين الأضلاع وتموت إذا ما كشفناها للأعين.
الحيّة الحمراء التي عمرها ألف عام!
كيف أشرح لهند بنت الملك الأحمر الحداثة اللامبالية بقداستها وفرادتها وعفرتتها؟ أن الحكايات العظيمة انتهت! هنالك عالم جديد سيذيب الذاكرات والهويّات الجمعية.
الخيال؟ إنه عكازة البشر المتوفرة دائما. تعلمت منذ صغري كيف أصون عزيمتي وتفاؤلي الافتراضيين عبر اللعب الحرّ، بين الواقع الحقيقي والمتخيل.
منذ ذلك اليوم الذي كنت فيه بعمر التاسعة، كان مسكننا عبارة عن قبّة مزدوجة وذلك الطراز من القبب يسميه البدو “أوضة”. عقب استحمامي طلبت من ابنة عمي أن تعثر على المفتاح الذي يتجاوز عمره مئة عام لفتح “الأوضة” التي تحولت إلى مخزن للخردة وكراكيب لا قيمة لها إلا في ظل ظروف بائسة وقاهرة.
“أوضتنا”، كانت أجمل القباب في القرية. مزدوجة، ومكلّسة من الخارج، أي مطليّة باللون الأبيض، وتتميّز بتلك الحجارة السوداء التي تُدك على جوانبها لسبب هندسي بحت – لتثبيت البدن الطيني للقبة – كانت حجارة مثالية لتسلّق الجداء والماعز إلى أعلى القبة، رغم أن هذه الحيوانات المشاكسة لا تعثر على شيء هناك، كل ما في الأمر أنها غريزة الماعز المرتبطة بحب التسلّق والوعورة، فكانت القباب النموذج المفضل للجداء لممارسة هوايتها الفطرية تلك.
كانت “الأوضة” تنقسم إلى جزأين، فصلتهما أمي عن بعضهما بستارة من القماش الأبيض. لتكون مكاناً لمنامتنا، بينما الجزء الثاني حيث الدفيئة، التي تشتعل فيها النار شتاءً. أمّا الأثاث فلم يكن سوى أساسيات الحياة البسيطة. حيث ثمة منضدة خشبية مستطيلة مطلية بالأبيض، احتفت بقدومها أكثر من نصف نساء القرية، وهن يتفحصنها عندما أنزلها أبي من حوض السيارة، لتكون تلك الطاولة بمثابة “النضد” أي حيث ترتب وتطوى عليها فرش النوم واللحف والمخدات، ثم تغطى بغطاء يفترض أن يكون من الدانتيل الأبيض والمخرّم المجلوب من حلب. غطت أمي أمتعة نومنا بغطاء جميل سبق وأن جلبته جدتي من الحج قبل سنوات. لكن الغطاء تعرض لمحاولة تخريب جادة من قبل هرّة صغيرة حاولتُ تهريبها إلى “الأوضة”، غرامي فطريّ وأزليّ بالقطط. لم تعطها أمي فرصة حقيقية لتمرين براثنها بدانتيلها المجلوب من الحج، رمتها فوراً خارج أوضتها ولقنتني درساً لا ينسى بسبب محاولاتي الدائمة لاقتناء هرّة، وهي تصيح بي “ألا تكفيني أنتِ؟” لا يسعني الهروب من حقيقة أني كنت طفلة مشاغبة.
لأن مادّة القباب الأولية من الطين والقش والحجارة السوداء التي تشكل أساسات لبناء القبة عليه، فإن ذلك الطين الدافئ شتاء والرطب والبارد صيفاً كانت موئِلاً وملاذاً هانئاً للحيّات والأفاعي.
لكلّ قبّة حيّتها. كنا نسكن مع واحدة من تلك الحيّات المتآلفة مع وجود البشر. لم يكن أحد يتوجس منها. كنت أنا وأمي فقط نعيش هاجس رؤيتها والخوف من أن تؤذي أحدنا.
قضت أمي ليلها مؤرقة من تلك الحيّة، لكن عمّي جَلَبَ لها حجاباً مخيطاً عليه قطعة من الجلد، من عند أحد الشيوخ المشهورين بقدراتهم على معالجة الناس من كل شيء: الكوابيس، المرض، الصداع.. العين الشريرة..
وضعت أمي ذلك الحجاب في مخدتها، وأصبحت تنام دون أن ترى تلك الحيّة في نومها. رغم أننا كنّا نلمح طرف ذيلها بين وقت وآخر، بينما تقوم بتنقلاتها في مملكتها الطينية، في أساسات القبّة. اعتادت الأفاعي تأسيس شبكة مواصلات وطرقات خاصة بها، في مدنها السفلية تحت أقدامنا.
رغم أني فككت الحجاب وفتحت الورقة المطويّة بداخله لكني لم أفلح بقراءة ما كُتب فيه من كلمات وطلاسم، ولم أفهم سرّ كل تلك المربعات والمثلثات التي رسمها ذلك الشيخ لتحمي أمي، أعدت الورقة إلى كيسها الجلدي المثلث الشكل، وأنا أعتقد أني لم أفلح في قراءة المضمون بسبب تردي مستواي الدراسي.
زادت أميّتي خلال العامين اللذين قضيتهما في “الجفتلك”، فلم أكن أُحسن الكتابة دون أخطاء إملائية أو نحوية، وبالنسبة إلى الرياضيات فقد كنتُ جاهلة تماماً، وأعاني من عسر تام في التعامل مع الأرقام، ولم أحفظ من جدول الضرب سوى 5×5 = 25.
سأبرّر لكم ذلك: هل تعرفون كم مدرسةً عرفت خلال موسمين دراسييّن؟
كنت قد مررت بخمس مدارس حتى وصلت الصف الثالث الابتدائي! ذلك بسبب تنقلات أبي المفاجئة خلال خدمته العسكرية. تنوعت أماكن مدارسي بين عدة مدن مثل حلب ثم اللاذقية، وبعدها مدينة حمص حيث غيّرت مدرستين، ثم انتقلت إلى مدرسة بلدة تلبيسة القريبة من حمص، ولم تكن مدرستي الطينية هنا إلّا مرحلة قبل انتقالي إلى سلسلة مدارس في حوران.
التقطت مرّات كثيرة صورا للقبتين اللتين بقيتا صامدتين من تجمع كان يتجاوز الخمس قباب مع ملحقات من الشون الصغيرة لا أتذكر عددها بالضبط، تجاورها بركة رومانية ضاع أثرها خلال السنوات الأخيرة بعد أن نُقلت حجارتها السوداء المربعة دقيقة الحواف على نحو هندسي رهيب. استثمر الأهالي حجارة تلك البركة ولم يتبق أيّ أثر يذكر لها. ومنذ سنوات لم تتغير صورة غلاف صفحتي على فيسبوك. يسألني الجميع عن تلك الأبنية الطينية المخروطية المهلهلة، وأجيب إنها مدرستي التي لم أتعلم فيها أي شيء له علاقة بالمنهاج الدراسي، لكنها في الوقت نفسه لقنتني كل شيء: فقد كنت أدرس بصحبة الجن.