أكاذيب العدالة

“ليس للعدالة أن تكون لها أكاذيب؛ فهي خُلقت للحقيقة”
الأحد 2021/08/01
لوحة: سراب الصفدي

خارج العدالة

هي ترفض الزّواج به، وتلعن صلة الدّم التّي تجعل منه ابن عمّ لها، وتربطه بها بشكل قدريّ، وتزيد من طمعه الكلبيّ في إرثها المنتظر من والدها عندما يفارق الحياة.

هي ترى في عينيه من الغدر والطّمع والخيانة ما كان يرفض أهلوها أن يروه في عينيه؛ لأنّهم يؤمنون بوشائج الدّم أكثر ممّا يؤمنون بخصال البشر ونوازعهم وتفاوت مشاربهم.

لقد خطبها من والدها وإخوتها لأكثر من مرّة، لكنّها رفضته بإصرار وعناد، وأدارتْ له ظهرها غير آبهة به أو بحبّه المكذوب أو بصلة الدّم التي تربطهما بتعس القرابة إلى أبد الآبدين، محطّمة آماله بأن يضع يديه على حصتها من إرثها من أبيها، لكنّه لم يقبل بهذه الخسارة، أو بهذا الرّفض المهين لرجولته المتضخّمة مثل درن سرطانيّ، وقرّر أن يتزوّجها وقهر أنفها المتعالي الجميل، لكنّها رفضته من جديد بإصرار حديديّ أرغم أهلها على الانصياع لرغبتها، والتّسليم برفضها له، لكنّه لم يرضَ بذلك، وقرّر أن يتزوّجها بقوّة القانون، وسطوة الجريمة.

كان الأمر أسهل ممّا تخيّل، اغتنم فرصة بقائها وحدها في بيتها، واغتصبها بكلّ سهولة وسطوة بعد أن استفرد بها، قاومته بشدّة، لكنّه كان أقوى منها جسداً وفتكاً، وبذلك حظي ببكارتها، ثم سلّم نفسه إلى الشّرطة معترفاً بجريمته، ومعلناً أنّه على أتمّ الاستعداد للزّواج بها وفق ما يقرّه القانون من حقّ المغتصب بالزّواج ممّن اغتصبها؛ كأنّ القانون مفصّل بعناية لخدمة المجرم لا لمعاقبته؛ إذ يهب الضّحيّة المغتصبة هديّة مجانيّة لمغتصبها.

 

دون عدالة

رفضتْ بإصرار أن تعيش مع من اغتصبها حتى ولو زفّها القانون له زفّاً، ورفضت أن تنكّس رأسها أمام أهلها خجلى محمّلة بالعار، وهي المعُتدى عليها والمغدورة، وصمّمت على أن يأخذ والدها وإخوتها بثأرها من ابن عمّها، وأن يلقوا به في غياهب السّجن جزاء جريمته النّكراء في حقّها.

لكن لا أحد سمع صوتها المنادي بالعدالة؛ فنساء العائلة أسمينها الوقحة ونبذنها، ورجال العشيرة عدّوها وصمة عار في تاريخ عوائلهم، وثمرة اغتصابها باتت تتحرّك في بطنها معلنة عن قدوم طفل غير شرعيّ من علاقة سفاح؛ فبات الجميع يضغط عليها من أجل الزّواج بابن عمّها، ومحو قصّة اغتصابها من ذاكرة تاريخ الأسرة، لكنّها أصرّت على إجهاض هذا الطّفل، وعلى معاقبة ابن عمّها.

عندها اجتمع رجال أسرتها، وقرّروا بكلّ رجولة صدّاحة، وعدالة صارمة أن يذبحوها؛ لأنّها جرّت العار عليهم بحملها السّفاح، ورفضها الزّواج بمن اغتصبها، وخسارة امرأة أهون من خسارة رجل في عرف القبيلة وتعداد الخراف، فقتلوها بدم بارد، ومحوا عارهم بطريقتهم الخاصّة، وخرج ابن عمّها من السّجن يستقبله الأهل، وينعتونه بالحصان الأصيل الفحل الذي أينما اشتهى نطّ!

 

للعدالة وجوه كثيرة

ذلك الموظّف الفقير المسالم كان يعدّ وظيفته المتواضعة كنزه العظيم، ورمز كرامته وكرامة أسرته، وفضلاً عريضاً مَنّ الله عليه به، لم يرد وظيفة أكبر، ولم يطمع في راتب أكبر، ولم يبحث عن أيّ طريقة للانتفاع منها بطريقة غير مشروعة، كان يكفيه أن يعود إلى بيته سالماً آمناً يحمل لأهله القوت الحلال، والصّيت الحسن، لكنّ ذلك المسؤول الفاسد سرق صيته الحسن، وسمعته الطّيّبة، وورّطه في جريمة ملفّقة كي يتخلّص منه، ولا يكون شاهداً عليه في صفقاته المشبوهة، لكنّه ظلّ يؤمن بعظمة العدالة، وصوت القانون، إلى أن ساقته دروب القضاء إلى ذلك القاضي المرتشي الذي باعه بأرخص الأثمان، واشترى بثمنه طوق ماس لعشيقته البغيّ.

عندها فقد الموظّف المُفترى عليه كرامته وحرّيته وسمعته ورضاه وقناعته وقوت بنيه وإيمانه بالعدالة الأرضيّة، ظلّ يبتسم بسخرية وهو خلف قضبان اللاعدالة، وهو يسمع ذلك القاضي يردّد في لقاءات تلفزيونيّة معه “للعدالة وجوه كثيرة”.

 

عدالة اللّصوص

هو أكبر لصّ في الدّولة، المسؤولون جميعاً يعرفون أنّه لصّ؛ لذلك يتمسّكون به، ويرقّونه من منصب إلى أرفع؛ فدولة اللّصوص تتمسّك بلصوصها، وتحتفي بهم، وهو فضلاً عن ذلك يملك أرشق قلم موهوب في مديح العدالة والإخلاص والعفّة والنّزاهة ونظافة الأيدي والذّمم والضّمائر، على الرّغم من أنه مبدع في توسيخ كلّ ما تصل يداه إليه.

قرأ عن تلك المبادرة الدّوليّة عن العدالة والعفّة والنّزاهة، فراقتْ له الشّعارات المقرونة بهذه المبادرة، وطمع في قيمة الجائزة التّي ترافق تلك المبادرة، فكّر قليلاً لا كثيراً كيف يظفر بها، وقرّر ساخراً أن يرصد سرقاته جميعها، وكيفيّة القيام بها على سبيل أنّه يسجّل ضروباً من الفساد والسّرّقة يجب الحذر منها.

لقد قام بذلك فعلاً، وحظي بالجائزة المرصودة لأفضل موظّف نزيه في دولة اللّصوص!

 

موت العدالة

هامت العدالة على وجهها، صكت وجهها فزعاً وفجيعة، رفضت بإصرار أن تكون لها وجوه متعدّدة؛ فللعدالة وجه واحد، وهو العدالة المطلقة، ولا ينبغي لها أن تملك وجهاً آخر غيره.

عندما صمّموا على أن يلبسوها وجوهاً متعدّدة، نحرتْ نفسها، وذهبت إلى القبر متمسكّة بوجهها الأزليّ مهما تطاول المتطاولون عليه، وحاولوا أن يزيّفوا ملامحه، أو أن يزيّفوها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.