ألف داحس وليلة غبراء
ربما كان السؤال الأول الذي يواجه قارئ تلك الرواية الملحمية هو كيف تناسل من صلبها ثلاث روايات، فرواية “ألف داحس وليلة غبراء” للكاتب الليبي أحمد الفيتوري هي الاسم الجامع لمتوالية روائية متداخلة تبدأ بـ”غابة الأشجار الميتة”، ثم “غابة القضبان الحية”، انتهاء بـ”غابة الرؤوس المقطوعة” وسيكون لكل اسم من هذه الأسماء دلالته الخاصة على ما سنرى. فهل سيكون صائبا النظر الذي يقيم اعتبارا خجولا لفكرة النوع الأدبي في التعامل مع تلك الرواية باعتبارها ثلاثية لمجرد تقسيمها إلى ثلاثة أقسام؟
أظن أن الحديث المسرف عن تحطيم الشكل الأدبي والتشكيك في فكرة التراكم النوعي للتقاليد التي أرستها الأنواع الأدبية كان سببا في الاجتراءات النقدية التي وصلت حد السخرية من الحديث عن فكرة تحديد خصائص ما للنوع الأدبي. مصدر ذلك كان غابة من الشكوك التي أثارها أكاديميون ومتخصصون في فكرة جدة الرواية وقدمها وكذلك مدى جدية التجربة الاجتماعية والأخلاقية في العصر الصناعي، لكن أهم عنصر في تلك الشكوك كان رصد تزايد عدد قراء الرواية. وظلت الإجابة عن أسئلة شائكة لمعطيات مستقرة لها هذا الثبات والرسوخ انتقائية بالضرورة ومن ثم غير مؤثرة.
لكن ما يعنينا هنا أن الفن باعتباره واحداً من التعبيرات المقطرة والنوعية عن علاقة الذات بالعالم سيظل عصيا على التصنيف مهما تقادمت تقاليده، لكنه سيكون من السذاجة إغفال الضغوط التي تُمارس على النوع الأدبي إن من جانب جمهوره أو من الرأي العام. وإذا كان التعريف المثالي الذي قدمه كارل بوبر للرأي العام باعتباره الصورة غير المسؤولة لمفهوم القوة، فإن الرأي العام الروائي، إذا جازت التسمية، بات أيضا صورة غير مسؤولة لفرض تقاليد قد تكون ضد النوع الأدبي نفسه.
فلأن القارئ هو القادر دائما على تنصيب الكاتب الأكثر قراءة، ففي المقابل لا بد أن يدفع الكاتب ثمنا وعلى الأرجح سيكون مزيدا من المذلة لذوق قرائه، ما يعني مزيدا من الرضوخ لحاجاتهم.
وإذا ما واجهنا رواية أحمد الفيتوري بتلك الإشكاليات سنجد أنها لا تقيم لها اعتبارا يذكر، لدرجة يعتقد معها القارئ أن مؤلف الرواية معني فحسب بفكرة الحكي أو السرد كفكرة غُفل بغض النظر عن الشكل النهائي الذي يمكنها أن تسكنه. هذا لا يعني بالضرورة أن الكاتب يسقط معايير النسق الكتابي لكن الأدق أنه يعمل دون إملاءات.
رواية ذات
من حيث موضوع الرواية نستطيع الجزم بأنها واحدة من روايات الذات، وهي من هنا تقف على حافة المحنة الشخصية. لكن معالجات الكاتب ووعيه بحركة أبطاله وأدوارهم تأخذ الرواية إلى صورة من صور الواقعية المؤلمة بعيدا عن رومانسية مقيتة تفرضها روايات السيرة في حالات غير قليلة. المعيار هنا هو قدرة الكاتب على الربط بين تفاعلات الذات ومحيطها الإنساني، وقد بدأت رواية الفيتوري من لحظة خروج البطل من السجن ليكون أول خبر يواجهه هو موت الأب. من هذه اللحظة تتضافر رواية الذات مع محيطها بشكل شديد التماسك والوعي.
سيتحول الأب الذي بات ذكرى بعيدة إلى بؤرة للجزء الأول والأكبر من الرواية كاشفا كاتبها عن بطل زوربوي بامتياز. شخصية قوية البنية، قوية الشكيمة مهابة من محيطها القبلي والعائلي، لا تفارق الخمر، مغامر يدهش الجميع دائما بسلوكه، قوي العزيمة، كريم في عطفه على المساكين والمحتاجين، ثوري يخرج في أول مظاهرات تندد بالملك وتؤيد الثورة عليه، غير متدين على أي نحو، زير نساء، يدافع عن تعليم ابنته ويرعاها ويصطحبها إلى المدرسة كأخويها الذكور، على غير دين آبائه في تلك البيئة القبلية.
وسوف تكون تلك الصورة المدهشة لأبطال الرواية في تلك المدينة الصغيرة بذرة كاشفة لأزمة الوطن الليبي بأسره، لا سيما في تحولاته الكبرى في تاريخه الحديث بداية من الاحتلال الإيطالي ثم ما بين الحربين وحروب الحلفاء مع دول المحور، ثم اكتشاف البترول منتهيا بانقلاب الجيش على الشيخ السنوسي وتولي القذافي لمقاليد السلطة.
ستبدو النهايات المفتوحة واحدة من ميزات تلك الرواية، وسنواجه ذلك في العديد من أحداثها غير المكتملة، ليظل ملء فجواتها ملكا للقارئ وحده. يرتبط ذلك بحدث مركزي وبالعديد من الأحداث الفرعية.
أما الحدث المركزي فيرتبط بتلك الليلة العجيبة التي شهدتها المدينة عندما وجدوا “الحصايني” صاحب الإسطبل مقيدا على حصانه مذبوحا بينما قطع القاتل قضيب الحصان ووضعه بجوار رقبة الحصايني. ظل الحصان ينزف ويجري مخترقا شوارع المدينة الصغيرة محطما ما يقع أمامه من جماد أو بشر، وظل هكذا إلى أن اختفى، ليتحول إلى أسطورة لازمت أحداث الرواية في أجزائها الثلاثة، حتى أنها تنتهي بينما البطل رهن القيود الحكومية ليسألونه فقط عن حكاية الحصان الذي يظهر ليلا محمحما في المدينة، وهي حكاية رواها العشرات من الناس لكن أحدا لم يستطع أن يبرهن على واقعية حدوثها.
الكاتب نفسه لم يكن باستطاعته أن يخدع قراءه بأكثر من تلك الحمحمة وأحيانا الغبار الذي يُشاهد من بعيد بينما تجري أمامه الشابات والشباب مؤكدين أنه غبار الحصان مقطوع القضيب. وربما كان استمرار حدث كهذا كخلفية مركزية لوقائع الرواية إشارة إلى أن المجتمع الذي تطاولت عليه التكنولوجيا وتغاير عليه المحتلون، والذي تعتاش على أركانه كافة الجنسيات لا يزال أسيرا لميتافيزقاه، لا سيما أنه لم يستطع أن يفسر ظواهره الاجتماعية تفسيرا علميا من ثم سيكون التفسير الغيبي والعجائبي هو من يجيب عن أسئلة الناس. من ناحية أخرى يبدو الحصان مقطوع القضيب واستمرار ظهوره حتى نهاية الثلاثية تعبيرا عن هؤلاء الذين فقدوا ذكورتهم ففقدوا معها ملمحا مهما من ملامح الرجولة، وهي ما هي في مجتمع قبلي.
سيعقب قتل الحصايني قتل الكريك، أبرز عمّال بطل الرواية “الرايس″ صاحب المخبز، وسيخضع كثيرون للتحقيق في الأمر ثم تحفظ القضية وتقيد ضد مجهول، وهي القضية التي سيتجدد النظر فيها وسيتوارى بسببها الريس بدعوى أداء فريضة الحج بعيدا عن قبري والديه الراحلين، بناء على وصية إمام المسجد.
سيندهش الجميع من رجل اعتاد مقاطعة الفرائض بشكل لا يمكن تفسيره في مجتمع تقليدي يقرر فجأة أن يذهب إلى الحج. لكن الباخرة التي أقلته وعادت برفاقه لم تعد به. سنصادفه بعد ذلك يتحرك ضمن الأبطال عائدا إلى مسرح الأحداث، لكن الكاتب لن يقول لنا لماذا لم يعد مع الحجاج، ومتى عاد بعد ذلك، أو ماذا كان يفعل هناك؟
أيضا سنلاحظ شيئا من ذلك في كافة المشاهد التي يلتقي فيها الراوي إحدى قريباته في منزله. تلك البنت الجميلة التي تتمناه زوجا لها لكنه في دنيا أخرى بعيدا عنها، ستبدو الجميلة في كل مشهد وكأنها جاءت إليه، لكن ثمة أشياء تمنع الراوي من استكمال مشهده ليستودع قارئه سر ما لم يقل.
“غابة الأشجار الميتة” هي العنوان الرئيس للجزء الأول، وتشير إلى تلك الغابة المجاورة للحي الذي يسكنه، والتي يأتي منها الريس بالحطب والجذوع التي يشعل بها الفرن يومياً، وهي غابة تبدو كمستودع لأسرار كبرى. وككل الأماكن الصامتة تبدو مخيفة لكل من كان خارجها، لكنها تبدو موطنا لأشياء لا تخطر عادة على البال: الجنس المحرم، السلاح، المخدرات، القتل. وربما لأنها مكان موحش ومخيف طاردتها حكومات العقيد، وكان رجال الأمن يتصورون أنها موطن لمتآمرين على النظام، ولذلك كثيرا ما أطلقوا النيران عليها بعشوائية غير آدمية.
ستتفاقم أزمة الفرن مع اكتشاف البترول ودخول التكنولوجيا وخروج أحد صبيان الريس لبناء فرن آلي يعمل عبر الطاقة الجديدة المكتشفة. وستتبدى صورة الأزمة في الاضطرابات التي تصيب الريس بين الحين والآخر حتى يغلق المخبز نهائيا، في إطار تضخم للأزمة المجتمعية. وهي أزمة لا يتحدث عنها أحد ولا يجرؤ حسبما يقول الراوي: “لا أحد يتحدث جهرا عن أي عيب”.
الجزء الثاني من الرواية “غابة القضبان الحية” يمثل السيرة الذاتية لابن الريس الذي يبدو من الوهلة الأولى أنه الراوي نفسه.
يتناول هذا الجزء سجن الراوي قبل أن يبلغ العشرين، وسيبقى في سجون العقيد القذافي لمدة عشر سنوات بتهمة الانتماء إلى تنظيم ماركسي لينيني بهدف قلب نظام الحكم. أما الحكم فكان الإعدام الذي تم تخفيفه إلى السجن المؤبد.
سنتابع مع الراوي العلاقة التي تنشأ بين المكان القاسي المظلم وبين سكانه الجدد المتعلمين الثوريين. وسنشهد في هذا السياق كيف يبتكر السجناء أشكالا عدة لاختراق هذا المنفى بابتكار مجلاتهم وأدبياتهم وأغانيهم، وسيتعاطف معهم حراس مناهضون لنظام الحكم وسيسمحون لهم بقراءة الصحف ومطالعة الأخبار.
ولن تخلو تلك الحياة من طرائف ومفارقات عجيبة ذات صلة بطبيعة الحياة القبلية. من قبيل أن يترك الحارس “سي دخيل” مفاتيح السجن للراوي ويذهب إلى سجن النساء متأكدا أن السجين لن يخون الأمانة بإطلاق نفسه وزملائه، ثم يعود سي دخيل وقد اغتصبته نساء السجن وتم إنقاذه من أيديهن في اللحظات الأخيرة وهن يعبثن بعضوه!
الجزء الثالث “غابة الرؤوس المقطوعة” يبدو استعراضا للأحداث الكبرى التي تعرضت لها ليبيا في العشرين عاما الأخيرة، بداية من تعرض منزل القذافي للقصف الأميركي، فحادث لوكيربي الذي انتهى إلى حصار ليبيا، ثم تفكيك مصنع إنتاج السلاح النووي وتسليمه للولايات المتحدة.
ستدهشنا تلك الغربة المقيمة التي يعيشها الراوي بعد خروجه من السجن وسط أهله وأصدقائه ونفور الجميع منه خوفا من أن يلاحقهم الأمن بسبب علاقتهم به. وسط كل هذا يضبط الراوي نفسه متعاطفا مع العقيد بعد قصف منزله ثم حصار الوطن كله. لكنه يعود إلى تفسير تلك الظاهرة ليتهم نفسه بأنه مصاب بما يسميه الطب الحديث متلازمة ستوكهولم أي تعاطف الضحية مع جلادها، وهو نوع من الهروب النفسي من فكرة المقاومة.
في هذا العمل يقدم الكاتب أحمد الفيتوري ملحمة حقيقية تستعرض تحولات ليبيا على مدار أكثر من نصف قرن، عبر تلك الأبنية المتماسكة التي لم تخذل صاحبها، وعبر أبطال كانوا تعبيرا جازما على مدار الزمن السردي عن تلك التحولات. من هنا فهي إحدى ملاحم الرواية الليبية. لكنني، في الختام، لا بد أن أتساءل عن الإسراف في استخدامات اللغة الشعبية محدودة الاستخدام خارج جغرافيتها، ثم الأخطاء اللغوية الرهيبة التي يبدو معظمها بسب عدم مراجعة النص قبل الطبع، ثم غياب علامات الترقيم ما يجعل جملا كثيرة ملتبسة ويصعب الفصل بينها، ومن ثم بين دلالاتها.