أمنا العظيمة لطفية الدليمي
“تعلمت في حياتي على نحو باهر من شخصيتين: بيكاسو ولطفية الدليمي”. يقولون خير الكلام ما قلّ ودلّ، وهذا ما يشكل لي الآن محنة بسبب صعوبة الإحاطة بما أريد قوله في هذه السطور القليلة؛ ولأن الموضوع يتعلق بأستاذتنا الاستثنائية لطفية الدليمي لذا ليس من السهل اختصار الكلام وإيجاز العبارات التي يمكن أن تفيها حقها علينا وعلى ثقافتنا وإبداعنا.
نادرةٌ هي الشخصيات التي بهرتني كما فعلت صاحبة “سيدات زحل”، وكثيراً ما فكرتُ بيديها السخيتين وقد تحولتا إلى سبع أيادٍ تمنحنا إبداعات مختلفة وكأنها أيقونة مقدسة تَمَثَّلَتْ الرقم سبعة الذي يشير إلى الكمال في الكثير من الحضارات والثقافات القديمة؛ فهي تمنحنا رواياتها الرائعة بيد، وبيد أخرى تزوّدنا بقصصها القصيرة؛ أما ترجماتها المذهلة فتهبنا إياها بيدها الثالثة، وفي الرابعة تضع بين أيدينا مقالاتها المهمة، أما يدها الخامسة فترفدنا من خلالها بعمودها الأسبوعي الذي يمدنا بطاقة إيجابية للمضي في هذا العالم بينما تبسط يدها السادسة نحو آخر تطورات العلم الذي تهتم به بشكل يوازي اهتمامها بالأدب، إضافة إلى كل ذلك تفرش لنا أستاذتنا يداً سابعة مليئة بورد الأمل ومحبة الانسان وروح التفاؤل وفطنة الأم التي تعطي وتمنح وتهدي بسخاء (وتضيء العتمة) دون النظر لجائزة عابرة أو سلطان واهم، ولسان حالها يقول إن الأيدي لم تُخلَق للتصفيق بل لترك أثر جميل في هذا العالم.
يَدَّعي الكثيرون أن ممارسة إبداعات مختلفة غالباً ما يأكل من جرفها جميعاً ويؤثر على قيمتها؛ لكن هذه النظرية سرعان ما تصبح مدعاة للشك حين تغمرها مياه هذه المرأة الجميلة التي أثبتت أن غزارة الابداع دليل على خصوبة أكيدة؛ فهي أرض خصبة صالحة لزراعة مختلف الإبداعات، تربتها تشبه تربة العراق التي جُبِلَتْ منها، وهي شجرة متعددة الثمار، وارفة الظلال وجميلة المنظر، تمنح بستان حياتنا الكثير من العطر والعذوبة والحضور المحبب للنفس.
التصالح مع النفس ومحبة الانسان لعمله وما يقوم به يمنحه طاقة عجيبة ومتجددة، وهذا ما يفعله أيضاً الحضور الجميل والسخاء والمحبة التي يتحلى بها المبدع؛ فيضيء كلُّ ذلك روحه وينعكس على نتاجه، ولأن لطفية الدليمي تحمل هذه الصفات لذا نراها حاضرة متوقدة وعالية المكان والمكانة وهي تمضي في طريق واضح وجميل اختارته لنفسها وصارت كلما تعطي تكبر وكلما تمنح تعلو وكلما ترشد تزهو.
لم أتعلم في حياتي بشكل باهر سوى من شخصيتين هما بيكاسو، الذي عرفتُ وفهمتُ من خلال أعماله وعبقريته كيف أجعل الرسم فردياً ويعكس شخصيتي، وكأنه كتاب مذكراتي الذي تغفو عليه أيامي، وطفولتي التي أستعيدها على سطوح هذه القماشات الملونة، والشخصية الثانية هي لطفية الدليمي التي علمتني أن اليد التي ترسم الجمال يمكن أن تكتب حين تتوفر على الحساسية المناسبة، وروح التطلع والمطاولة في المحاولات التي لا تتوقف. هذه المرأة علمتني كيف أصيغ عباراتي وأنا أتابع كتاباتها بلهفة، لهفةٌ أحاول ألاّ أجعلها بادية على ملامحي، ليس ترفعاً بل انسياباً وانغماراً في ذروة التعلم والمطاولة في الفهم. هي صديقتي وأستاذتي وإحدى نخلات العراق، امرأة من ذهب وعطر، وكتبها هي الشاهد وهي النتيجة.
ذات مرة كان لديَّ افتتاح معرض في عمّان، وكانت تلك المناسبة هي الأولى التي أعود فيها لعرض لوحاتي في بلد عربي بعد سنوات طويلة من الغربة. كنت سعيداً يومها، فالوقتُ قد حان للقاء الأصدقاء والصديقات من المبدعين حيث أعود لناسي مثل ابن ضال اشتاق لأهله، وقبل المعرض اتصلتُ بـلطفية الدليمي كي أخبرها بافتتاح المعرض في ذات المدينة التي تعيش فيها، عمّان، عندها فرحتْ بهذا الخبر واللقاء، وقالت “سأكون أول الحاضرين”، وفعلاً عندما حان ميعاد افتتاح المعرض أَطَلَّتْ أستاذتي من مدخل الغاليري وهي تضيء المكان مثل زهرة رازقي عراقية، بل مثل قمر بابلي جاء من بعيد ليضيء لي المعرض. احتسينا القهوة ونحن نتجول معاً بين اللوحات التي أصبحت أكثر جمالاً بوجودها، وتحدثنا عن الفن والإبداع العراقي وأحوال البلد التي لا تسرّ مع الأسف، واجتزنا باحة الغاليري ونحن ننظر إلى السماء كما ننظر إلى أمل قادم لبلدنا البعيد.
أتذكّرُ بعدها حين بدأتُ بترجمة رسائل فنسنت فان غوخ إلى العربية، كانت هي الوحيدة التي أرسلتُ لها أول رسالة ترجمتُها، لتقول لي رأيها، وعندما وصلني رأيها مع بعض الهوامش عرفتُ أنّ طريقي سالكة، وما عليَّ سوى وضع القفازات بيديَّ والمضي بنظرة ثاقبة كنظرة “وليم تل”؛ فحين تقول لطفية الدليمي رأياً يشير إلى بعض الجودة في ما أكتب فهذه هي شهادتي وهذا هو مرادي.
لم أتحدث هنا عن لطفية الدليمي وكتبها وتفاصيل إبداعها الذي صار أحد كنوز بلادنا الثقافية، فذلك يحتاج إلى كتب عديدة لإنصاف ما أنجزته وما جاد به قلمها، بل أردت أن أحييها كإنسانة عظيمة تمنح الإلهام، وتفتح النوافذ لنشمَّ أريج الكلمة التي لا تخطئها الحواس، وتغرس شتلات الأمل لتتفتح ورداً وزهور محبة، تفتح طريقاً هنا ودرباً هناك كي نمضي بيسر، ولا نركل أحجار الطريق، تشير إلى قمر في سمائنا الإبداعية فيتحول القمر إلى مصباح يضيء لنا مساحات جديدةً. لطفية الدليمي التي تعيش بعيداً عن دارها ودوّارها، حيث تستقر جذورها عميقاً في تربة أرض الرافدين التي أحبّتها وانتمت إليها بروحها وحرفها، نعم جذورها هناك بينما أوراقها تتفتح في عمّان، وثمارُها تتوزع في كل بلد يصله حرفها وكلمتها الآسرة.
غالباً ما أرسم الشخصيات التي أحبها وأشعر بانتماء لها، وعادةً ما تكون هذه الشخصيات من الوسط الثقافي وتنتج الإبداع والثقافة والمحبة، لذا كانت لطفية الدليمي في مقدمة من رسمتهم، وقد حاولتُ، في البورتريه الذي رسمته لها، أن أعبّر عن رفعة شخصيتها وجمال إبداعها وروحها وحضورها العالي، حيث جعلت الخطوط والأقواس تتقاطع على ملامحها لتمنحها مسحةً فيها شيء من القداسة التي تعيدني إلى رسوم الزجاج المعشق بالرصاص، الذي يستقر على النوافذ الكبيرة للأماكن المقدسة، وهكذا جاء البورتريه بألوان مضيئة تشبهها. في هذا البورتريه جربتُ الإمساك بلحظتين: لحظة الغياب ولحظة الحضور، لأمزجهما معاً محاولاً التعبير عن شخصيتها الفريدة التي اجتمع في نظرتها الحالمة شرودٌ خفي نحو بغداد مع تطلع وثقة واندفاع إلى الأمام.
يشير الكثيرون إلـى أن لطفية الدليمي تعتبر من المدافعات عن حقوق المرأة وإعادة اعتبارها ومكانتها، لكني أراها مدافعةً عن الإنسان وقيم الجمال، أراها وهي تحصد سنابل كلماتها كتباً، تشير إلى الأشجار والنخيل، تكتب عن الرجل الذي تقاسم معها الخليقة وعمّرَ معها الأرض، تكتب عن الزهور والمحبة بين الناس، توائم كلماتها مع أخيّاتها سواقي العراق وبساتينه البعيدة، تكتب للعدل والمساواة والتسامح، فتمنح كلماتها جناحين هما المرأة والرجل معاً، وبين كل هذا وذاك لا شيء يعلو عندها على المحبة.
عادةً ما تمنح البلدان جوائز لمبدعيها الكبار للاحتفاء بهم وبمنجزهم، لكنّ لطفية الدليمي عكست الصورة بشكل استثنائي ومرهف بعد أن حصل العراق كله على جائزة اسمها لطفية الدليمي، جائزة فرشتها لطفية بين بساتين بلاد ما بين النهرين ونخيلها وهي تنادي بالمحبة والسلام والعدل واحترام الإنسان، فمنذ كتابها الأول “ممرٌّ إلى أحزان الرجال” وحتى هذه اللحظة ما زالت لطفية الدليمي – وستبقى- تنقلنا عبر ممرات يغمرها الجمال والمعرفة والهداية والأمل.
أمي العظيمة لطفية: لك مني سلام عراقي يليق بك، لك بستان محبتي وورد روحي.