أنا وتمارا ورقصة دخان
اسمي بلبل فنجان. بلغت الثلاثين قبل ثمانية أيام وما زلت أعزب. تقول أمي إن ولادتي كانت مشؤومةً، صادفتْ يوم بدء العنف السياسي الدموي في كركوك عام 1963: مشانق واغتيالات وحفلات تعذيب، وكان خالي واحدًا ممّن عُلّقت جثثهم على أعمدة الكهرباء.
أبي اختار لي اسمي، اعتقادًا منه بأنني سأدخل البهجة والسرور إلى البيت مثل هذا الطائر، الذي كان يربي بضعة أنواع منه: المندلاوي والكشميري والسوري، لكني خذلته بسبب نزقي وكثرة بكائي خلال سنتي الأولى.
لم يسعفني الحظ في إكمال دراستي الثانوية. واقع الأمر أنا الذي أتحمّل الفشل، ولا علاقة للحظ بذلك. لم أكن أطيق الدروس، عدا درس العربية الذي كان شغفي به لا حدود له، وهو ما جعلني أهيم بالأدب، وأقضي ساعاتٍ في قراءة ثمراته، لذا توجّب عليّ الالتحاق بالجيش في بداية الحرب الأولى لتسلخ من عمري ثماني سنوات هي المدة التي استغرقتها، وخرجت منها بجرحين في ذراعي وساقي. بعدها عملت في مهن حرة عديدة إلى أن جاءت الحرب الثانية فاستدعوني لأداء خدمة الاحتياط، وأرسلوني إلى الكويت، عقب أيام من توغل قوات الحرس الجمهوري جنوبًا إلى عاصمتها، وأمروا وحدتي العسكرية بمسك منفذ العبدلي في الجهراء على مقربة من الحدود، وكانت أولى الوحدات المنسحبة بعد يومين من بدء القتال البري، ورغم ذلك هاجمتها الطائرات الأميركية، وقتلت وجرحت نصف جنودها وهم على ظهر الناقلات المتجهة إلى البصرة، وكنت من حسن حظي واحدًا ممّن نالتهم إصابات غير قاتلة.
حال تسرّحي من الجيش، إثر انتهاء الحرب، حصلت على وظيفة حارس في محطة قطار كركوك. خلفت أبي في هذه الوظيفة بعد موته، بالأحرى بعد أن قطعت رقبته شظيةُ صاروخ أطلقته طائرة أميركية على المحطة، ومرت ذكرى وفاته الثانية قبل ثلاثة أسابيع.
في قديم الزمان كان موقع المحطة قريةً يمتهن أهلها الزراعة، ويربّون الماشية، ويبيعون محاصيلهم في كركوك، وحينما احتلت القوات البريطانية المدينة، بعد انسحاب الجيش العثماني، أنشأت فيها مستودعًا للذخيرة، ثم اختارتها لبناء محطة قطار، ومدت إليها سكة الحديد التي تربط بغداد بمدينة جلولاء، ومنها إلى أربيل.
راقت لي الوظيفة لسببين، أولهما لأن رفاقي في الحراسة من المقربين إليّ، أحدهم ابن خالتي آزاد، الأعزب مثلي، والفوضوي على نحو لا يمكن تفسيره، والآخران صديقا طفولة، وكلاهما متزوج: جاويد المتمرد، وياسين المتهور كثير الاحتيال. أما السبب الثاني فهو أن هؤلاء الرفاق يمنحونني فائضًا من الوقت للقراءة في الكرفان المخصص لنا في الجهة الثانية من السكة. بالطبع لا يفعلون ذلك تقديرًا لولعي بالقراءة بل لكي لا أصدّع رؤوسهم بالحديث عن كوابيس كافكا، وعجائبيات ماركيز، وعبثيات كامو، وهذيانات غيرهم من الروائيين، الذين كنت أختلس كتبهم من مكتبات المدينة أيام إفلاسي.
يمتلك آزاد سيارة فياتGL 2000 يحبها ويبالغ في الاعتناء بها، لا لشيء إلاّ لأنها من بلد جينا لولوبريجيدا، التي يهيم بأفلامها وصورها أيام شبابها. وإمعانًا في تولهه بها يضع صورتها أمامه، وهي بلباس البحر على الساحل، تعتمر قبعةً من القش، وتحمل بيدها نظارةً شمسيةً.
يطوف آزاد على بيوتنا قبيل منتصف الليل، ويقلّنا إلى المحطة، وهو يحرك رأسه على أنغام أغانٍ كردية يبثها مسجّل السيارة. وكان كل منا يعطّل يومًا واحدًا بشكل دوري، وعندما يأتي دوره يعيرني سيارته لأقوم بالمهمة. أما ياسين فإنه ينفرد بيننا بصوت شجيّ، ويحفظ العديد من أغاني رياض أحمد، يغنيها لنا في كثير من الأحيان، إلى جانب أغانٍ أخرى من أطوار حزينة لمطربين ريفيين ترفع أحزاننا إلى السماء، حين نجتمع ثلاثتنا في الكرفان بعد جولة يقوم بها أحدنا حول مبنى المحطة لا تستغرق سوى بضع دقائق.
اقترحت ذات مرة على مدير المحطة وضع تمثال نصفي لأبي في الموضع الذي قُتل فيه، لكنه سدّد إليّ نظرةً مسمومةً، وقال ساخراً “بلبول! نعمل تمثالًا لحارس؟ ماذا لو كان أبوك مهندسًا، هل نعمل له نصبًا تذكاريًّا؟”. متغطرس ابن كلب، لا بل ابن قواد، استأت من رده وامتلأت غيضًا، وبعد يومين جلبت أصيّصًا فخاريًّا مزروعًا بنبتة محنية من ثقل زهرتها كأنها مصباح منضدي، ووضعته في ذلك الموضع، إلاّ أنني فوجئت في اليوم التالي بأن أحد المسافرين انتزع النبتة، وتحول مكانها إلى مكب لأعقاب السجائر. حدث ذلك يوم استراحتي، فما كان مني إلاّ أن حملت الأصيّص وحطمته على حديد السكة.
أُصبت من جراء تلك الفعلة بصدمة تركت أثرًا عميقًا في نفسي، وزرعت فيّ مشاعر الضغينة تجاه كل مَن تحط قدماه على أرض المحطة. حاول رفاقي الثلاثة إقناعي بأن أتخلى عن هذه المشاعر. لجأوا إلى شتى الوسائل، لكن من دون جدوى، فلم يكن بمقدوري التخلص منها. دأبت على مقت جميع المسافرين بالقطار، المغادرين والقادمين، لا بل حتى المودّعين والمستقبلين، وصرت أتحين الفرص للنيل منهم، خاصةً المدخنين، أراقبهم بعينين مرتابتين وكأني أؤدي واجبًا مقدّسًا، وعندما أرى أحدهم يرمي عقب سيجارته على الرصيف أهرع إليه، وأرغمه بفضاضة على التقاطه ورميه في حاوية مخصصة لأعقاب السجائر.
بقيت على تلك الحال ما يقارب السنة، جلبت لي خصومات مع كثيرين، ولم أقلع عنها إلاّ بسبب امرأة شابة التقيتها صدفةً في المحطة من دون معرفة سابقة، نبهني إليها ياسين عندما رآها من النافذة جالسةً تدخّن على إحدى المصاطب الخشبية تحت كابينة الانتظار. كنت وقتها متربعًا على السرير، مندمجًا مع رواية قصيرة مثيرة لكاتبة فرنسية، فتوقفت عن القراءة، وطويت زاوية الصفحة التي بلغتها، وتركت الكتاب على السرير وذهبت إلى النافذة لأتطلع إليها. كانت تسند ظهرها إلى المصطبة الرازحة تحت كشّاف ضوئي ذي شعاع أصفر. استغربت من حضورها وحيدةً في ذلك الوقت المبكر، كأن ريحًا قذفت بها إلى ذلك المكان. فكّرت: ربما جاءت لاستقبال شخص ما يستقل القطار، فهي ترسل بصرها تارةً إلى الجهة التي سيجيء منها، وتنظر إلى ساعتها تارةً أخرى بينما كانت ترخي ذراعها اليسرى على فخذها المخفية تحت بنطالها، وحالما دخنت سيجارتها إلى النصف رمتها على الأرض، وأحنت رأسها تتأمل دخانها.
كان الظلام لا يزال مخيّمًا قبل بزوغ الفجر بقليل، والجو فيه لسعة برد، وموعد وصول القطار لن يحين إلاّ بعد ساعتين. خرجتُ من الباب الخلفي للكرفان، وسرت في العتمة على رؤوس أصابعي نحو أربعين مترًا، متحاشيًا أن تغوص قدماي في الطين الرخراخ على حافة بركة ماء كوّنتها أمطار شديدة هطلت في بداية الشتاء، أو أتعثر ببعض الحشائش المحيطة بها، وحرصت ألاّ أصدر صوتًا لئلا أفزع المرأة، ثم عبرت السكة وتوجهت ناحيتها بخطى وئيدة. التقطت السيجارة، متفاديًا النظر إليها، وأطفأتها في الحاوية وقررت الرجوع إلى مكاني، لكني قبيل أن أعبر السكة دهمتني رغبة في استجلاء أمرها، فاستدرت عائدًا، وأمسكت بعمود الكابينة، وأخذت أنعم النظر فيها، “يا الله، هل أنا في حلم أم في يقظة؟” امرأة ذات سمار مذهل، كأنها خلاسية من أميركا اللاتينية، فمها طفولي ممتلئ، وعيناها يبدو عليهما أثر من بكاء، وشعرها القصير يلمع كالذهب تحت حزمة ضوء الكشّاف المسلّط عليها، ويتدلى من أذنيها قرطان على هيئة فراشة، يسقط ظلّاهما على كتفيها اللذين يغطيهما وشاح صوفي. لم أشأ أن أغلظ في مخاطبتها، مراعاةً لوحدتها، أو استجابةً لإحساس غامض اعتمل في نفسي. في الحقيقة لم أصدق أن الحظ حالفني، وجعل هذه المرأة تأتي إلى المحطة في هذا الوقت. دنوت منها وسألتها بلطف، بعدما تأكدت من خلو إصبعها من خاتم الزواج:
– عفوًا آنسة، هل تنتظرين أحدًا؟
أومأت برأسها، وأشارت بإصبعها إلى ناحية اليمين وقالت:
– أنتظر القطار القادم من تركيا.
اندهشت:
– من تركيا؟
– نعم.
– لا يوجد قطار قادم من تركيا.
مررت أصابعها بين خصلات شعرها، ثم لوحت بيدها في الهواء وسألت مستغربةً:
– من أين يجيء إذن؟
– من بغداد فقط.
ارتبكت قليلًا، وطفقت تنظر يمنةً ويسرةً، ثم قالت:
– لكن زوجي هاتفني قائلًا إنه سيصل صباحًا.
– أنت لست آنسةً إذن. هل قال إنه سيأتي بالقطار؟
– لا.
– ربما ظن أنك تعرفين.
– أعرف ماذا؟
– أنه سيأتي عن طريق البر.
– لماذا تفترض أنه سيأتي عن طريق البر؟
– لأنه منفذ السفر الوحيد بيننا وبين العالم منذ بدء الحصار.
– والقطار؟
– ألا تعلمين أن حركة القطارات بين العراق وتركيا توقفت قبل عشر سنوات؟
– لا أعلم. لماذا؟
– بسبب نشوب الحرب.
– أيّ حرب؟
– الأولى.
– كان عمري آنذاك ثلاثة عشر عامًا.
شعرت بتعاطف معها فاستأذنت منها بأن أشاركها في المصطبة. عاينتني بنظرةً طويلةً، وافتر ثغرها عن ابتسامة أظهرت على وجهها غمازتين ساحرتين، وتنحت قليلًا في حركة سريعة، وأشارت إليّ بالجلوس من دون أن تتفوه بكلمة. كانت المسافة التي تفصلني عنها لا تزيد عن نصف متر فغمرني عبق عطرها ممزوجًا برائحة التبغ، وقررت أن أواصل الحديث معها، فسألتها:
– وهل سنّ زوجكِ مقارب لسنّك؟
– لماذا يهمك هذا؟
– من باب الفضول فقط.
– أنت فضولي إذن. أجئتَ لاستقبال أحد أيضاً؟
– لا، أنا موظف حراسة في المحطة.
– حقًّا؟ لم يخطر لي ذلك.
ساد الصمت بيننا، فأخذت المرأة تحدق إلى الأفق، إلى خط متعرج من الغيم يفصل السماء عن الأرض، حيث بدأ ضوء الفجر يبزغ، مضفيًا عليه لونًا خمريًّا، ثم التفتت إليّ وأطلقت زفرةً حزن، وقالت بصوت ضعيف لكنه عميق:
– زوجي أكبر مني بأربعين سنة. لا أدري إن كان هذا يزعجك أم يجعلك تتشفى مني؟
لم أردّ على تساؤلها، بل نهضت من مكاني، وانتصبت أمامها وقلت لها “لا أستغرب ذلك”، ثم عرضت عليها أن أصطحبها إلى الكراج الذي يُحتمل أن يصل إليه زوجها.
حركت نسمة هواء غرة شعرها فغطت عينيها، أزاحتها بأنامل أصابعها وقالت:
– لديّ سيارة، لكني لا أرغب في الذهاب، أخشى ألاّ يكون موعد وصوله اليوم.
– عجبًا! ألم يخبرك بأنه سيصل صباحًا؟
– لم يحدد صباح أيّ يوم.
– لماذا لم تتصلي به لتتأكدي.
مدت يدها في حقيبتها الجلدية وأخرجت علبة سجائر. أشعلت واحدةً وقدمتها لي فتناولتها مجاملةً، رغم أني لا أدخن، ثم أشعلت سيجارةً ثانيةً وسحبت منها نفسًا عميقًا وقالت:
– لم يعطني رقم هاتف لأتصل به.
في الأثناء تناهى إلى سمعي صوت صافرة خافت من جهة الكرفان، وكنت واثقًا من أن ياسين وجاويد يتابعان المشهد. اختطفت نظرةً سريعةً إلى النافذة فإذا بإحدى دفتيها مواربة وصديقاي يراقباننا خلسةً. قلت للمرأة:
– ما الذي جعلك تفترضين أن زوجك سيأتي صباح هذا اليوم بالذات؟
ضمت يديها على صدرها، وردّت بجرس لا يخلو من ادعاء:
– خالجني إحساس، إحساس أقرب إلى الحدس.
– متى هاتفك بالضبط؟
– منذ زمن طويل.
– أسبوع، أسبوعين، ثلاثة؟
– أكثر أكثر.. منذ نحو سنة.
– هل تمزحين؟!
قالت بثقة شديدة:
– لا أمزح.
لم آخذ كلامها على محمل الجد، فكّرت في دخيلتي ربما تكون غير سوية، تعاني من اضطراب وهامي يجعلها تتخيل أمورًا لم تحدث، ولبثتُ صامتًا لا أعرف بم أجيبها. تفرّست في وجهي وقالت بصوت متهدّج:
– أنا ظمأى.
– سأجلب لك ماءً. هلاّ تعرفيني على اسمك ؟
– تمارا.
– اسم جميل.
هرعت إلى الكرفان جذلًا، فسمعتها تنادي “انتظر، لا أريد ماءً”، لكني تظاهرت بعدم سماعها، وما إن وصلت عتبة الباب حتى التفت إليها، فإذا بسحابة دخان أبيض تتراقص فوق المصطبة، أما تمارا فلا وجود لها، تلاشت من المكان وكـأن ريحًا قويةً ساقتها إلى جهة أخرى. عدت راكضًا صوب الكابينة، وكدت أسقط على السكة ويرتطم رأسي بها لولا أني تمالكت نفسي، ولم يكن بإمكاني فعل أي شيء. “هل كانت شبحًا”، رغم أني لم أر أشباحًا في حياتي؟ وكيف تكون شبحًا وقد رآها ياسين أيضًا؟
حين لمست المصطبة اختفت سحابة الدخان تمامًا. ارتميت عليها، تملأني حيرة شديدة، وأخذت أجسّ خشبها بأصابعي، عندها بدأ ضوء شاحب يكشف معالم المحطة، إنه ضوء الفجر المألوف بالنسبة إلي، ومن بعيد انبعث نعيق غراب بين أشجار اليوكالبتوس خلف الكرفان.