أن تحمل جثة وتتبادل معها الأدوار
دمشق خلال سنوات الثورة السورية هي اللاّحسم، هي منطقة لا حرب ولا سلم، النظام السوري يطبّق السيطرة عليها ومن حولها تدور رحى المعارك، إلى جانب تحولها إلى ملجَأ لأغلب السوريين المهجّرين من منازلهم في أرجاء سوريا، لنرى فئتين من السوريين تحاولان التعايش وتفادي الصدام، فئة ترى في النظام السوري الخلاص حيث تبطش وتمارس العنف بأشكاله على الباقين، والفئة الثانية هي مناصرو الثورة الصامتون أو المشتبه بممارساتهم ضد النظام أو حتى القادمين من مناطق النزاع ، لتكون الحياة في دمشق أشبه بمتاهة، لا رابح فيها، فالعنف اليومي والإهانات بأشدها تصيب سكان الريف أو القادمين من مناطق محررة أو تلك التي ما زالت المعارك فيها قائمة، ليكونوا ضحية لبطش “مؤيدي” النظام ورجالاته.
في ظل فضاء اللاموت واللاحياة هذا تحضر شخصيات خليفة المهمّشة، إخوة بسطاء من قرية العنابية، يريدون نقل جثة والدهم عبداللطيف المتوفى في دمشق ليدفن في القرية، الأب الذي كان من الفاعلين في الثورة عاد إلى دمشق إلى منزل ولده الأكبر بلبل-نبيل بعد أن كان يدفن الشهداء في قريته، إلا أنه لم يبق في دمشق طويلاً حتى وافته المنيّة، الموت كان فاتحة لأحداث الرواية ، فحسب وصيته، عبداللطيف يريد أن يُدفن في العنابية، بقرب أخته ليلى التي انتحرت ولم يستطع أن يفعل شيئاً تجاه ذلك.
في “الموت عمل شاق” نقرأ رحلة ثلاثة إخوة من الريف يعيشون في دمشق وتسحقهم المدينة، ومع اندلاع الثورة ، أصبحوا مهددين في كل لحظة، بسبب المنطقة التي يأتون منها بوصفها ثائرة ضد النظام، الثلاثة وفي ميكروباص يمتلكه الأخ الأصغر “حسين”، ينقلون جثة أبيهم من دمشق إلى العنابية، رحلة طويلة تتحول فيها الجثة من أب إلى جيفة تنتفخ ويخرج منها الدود، لنقرأ إلى جانب ذلك حكاياتهم وكيف تقطعت الصلات بينهم، كل هذا بوصفهم أثناء الرحلة محكومين بمزاجية الحواجز المسلحة، سواء تلك التابعة للنظام أو الإسلاميين المتشددين أو ميليشيات القتل الطائفية المختلفة التابعة للنظام لدرجة أن حسين فكّر برمي الجثة على طرف الطريق أو دفنها في أيّ مكان يجده.
الموت يكفي للجميع
نتحسس في الرواية مجانية الموت، الكل قادر على ارتكابه، جثث في كل مكان، موتى منسيون، مقابر جماعية، جثث على الطرقات السريعة، ارتكاب الموت لم يعد حدثاً طارئاً، بل هو يومي يصل حد الابتذال، غياب سطوة الموت والصدمة التي من المفترض أن يسببها، تعيد تركيب عقلية السوريين وخصوصاً من يشهدونه يومياً، هناك نظام يقتل الشعب، هناك مسلحون يقتلون الشعب، هناك موت يكفي للجميع، جثة عبداللطيف التي تتفسخ على الطريق ليست الاستثناء، التعاطف مع ذوي الموتى وحكايات موتهم الغريبة أصبح أقرب لنكتة سيئة لا يقولها إلا أحد المبتذلين، التعاطف غير مجد، جثة عبداللطيف هي ليست الوحيدة التي تمر بهذا المصير.
أثناء الطريق إلى العنابية، نكتشف حيوات الإخوة الثلاثة، التشتت، معاناة الطبقة الوسطى التي انهارت في المدينة، في العاصمة التي كان يظن كل منهم أنها ستستقبله لتحوله إلى أحد رجالاتها، لكنّها حولته إلى أحد مهمّشيها، وخصوصاً مع الثورة التي شهدتها سوريا، ففي رواية خليفة نقرأ حياة السوري المهمش القادم من الريف إلى المدينة، فالثورة وبالرغم من أنها محاولة للتغير في سوريا إلا أن ذلك لم يحصل، إذ تحولت إلى مؤسسة، إلى انتماء قد يودي بحياة صاحبه، سواء من حاول تجنب الانخراط بها أو أولئك المنسيون الذين بقوا في أطراف سوريا يقاتلون لأجل الحرية، هوية الأسرة القادمة من العنابية كانت تسبب لهم مشاكل جمّة مع النظام وحواجزه بوصفهم من الآخرين، الثوار الذين يريدون تغيير البلاد، والأب بالرغم من أنه جثة، إلا أنه لم يستطع الفكاك، بل تسبب لأسرته على الطريق بالمضايقات والإهانات من حواجز النظام، حتى أن أحد الحواجز أراد اعتقاله “كجثة”، لولا أن قام بلبل بدفع رشوة مالية للحاجز، فحتى الموتى لا ينجون من بطش ماكينة النظام، إلا أن إصرار بلبل على دفن والده في العنابية وتنفيذه لوصيته أشبه بآخر رمق لمفهوم الأسرة الذي يجمع بين الثلاثة، آخر رمق للسوريين بأن يدفنوا حيث يريدون.
الخاسرون دوما
في “الموت عمل شاق” نلتقي بالخاسرين، أولئك الذين فقدوا كل شيء إثر بطش النظام، حتى السلاح ليس حلاً، وساحة المعركة التي خلقها النظام في سوريا جعلت الحياة اليومية تافهة بلا مغزى، الموت بحضوره ثقيل، كل سوري الآن، يحمل جثة، ذاكرته وتجربة حياته هي جثة أيضاً يحاول الفكاك منها، يحاول الانسلاخ عن هويته السابقة ليبدأ من جديد، لكن هل هذا ممكن؟ هل يمكن نسيان الألم والخسارات وصور الجثث المرميّة؟ هل يمكن قطع الذاكرة والتخلص منها كمن يقطع يده ويكوي الجرح؟ بلبل عجز عن ذلك، وحين أراد الفرار إلى تركيا لم يستطع، عاد إلى بيته في دمشق، حياته الشفافة في الحيّ الموالي للنظام وحذلقته كي لا يقع في أيّ مشكلة كانت ترضيه، أحلام اليقظة والحلم بالخلاص كانت تكفي أكثر من العمل لأجل هذا الخلاص، لم يبق شيء يستدعي الأمل، حقيقة الموت عمل شاق والنظام جزّار أعمى، والجثث تطفو بين الأحياء، أما الثورة فتمضي بعيداً يوماً بعد يوم.
بيروقراطية الموت
نقرأ في الرواية بيروقراطية النظام السوري تجاه الموت، وكأنه مؤسسة مختصة بتحويل الأحياء إلى جثث، الموتى يبقون أحياء ما لم توافق مؤسسات المخابرات على موتهم، الجثة هي رقم ضمن السجلات لا بد من شطبه، التعامل مع الموتى والأحياء متشابه، كلاهما له ملف، كلاهما مهدد بالاعتقال، كلاهما النظام يعرف عنه كل شيء، عن خيانة عم بلبل للنظام منذ حوالي ثلاثين عاماً والتي ما زالت في سجلات “الدولة” ومازال النظام يستخدمها ضد هذه الأسرة، بل والقرية كلها، فالموت مؤسسة في سوريا، تعقيدات بيروقراطية وأوراق وتواقيع ورشوة للموظفين، خفة الرحيل أمر مستحيل، حتى قتلى النظام نراهم أيضاً في المشافي يمرّون بذات المعاملات، برادات للجثث وأخرى متناثرة دون مكان، أما شهداء الثورة فهم في قبور جماعية، أُسر بأكملها في حفرة واحدة، خالد خليفة يرسم تفاصيل سوريا عبر رحلة من دمشق حتى الشمال، لنشهد تَغيّر مناطق النفوذ، لعنات الجغرافيا، الإهانات، الإساءات، الجثة تتفسخ على الطريق، الديدان تنسلّ منها، كل سوري مهدد بذات المصير مادام هناك طاغية يخزن سجلات الموتى والموتى المحتملين المنتظرين أدوارهم.
الثورة الحلم
الثورة أشبه بليلى أخت عبداللطيف التي أحرقت نفسها وبكى عليها الجميع، الشلل أصابهم من هول فعلتها فلم يتمكنوا من اللحاق بها، بقيت سيرتها هي الباقية، تتناقلها الألسن، الكل يحاول أن يعيد حكايتها ويغيّر فيها ليخفي حقيقة جبنه في الدفاع عنها، ليلى هي التي أشعلت نفسها كي لا تتزوج من تكرهه، الثورة اشتعلت رفضاً لما هو قائم، السعي للخلاص والانفكاك من هيمنة القمع، لكن، الآن، الكثيرون يحاولون جعلها تناسبهم أو حتى تناسيها ليخفوا حقيقتها، لكن سراً لها رجالها، وكما قال عبداللطيف “أبناء الثورة في كل مكان”، فهي ستستمر برغم الحرائق وبرغم الموت.