أن تقرأ ما أكتب

الثلاثاء 2022/11/01

تفكيك

تؤرقني جملة قلتَها ومضيت. قلت وأنت تزيح ستار الغياب للمرة الأولى لتكشف عن حضورك “أنا هنا أقرأ كل ما تكتبين..”

جملة أدخلتني في دوار اللغة والحضور المباغت، ودار بي الكون كله، وتهت في تحليل المعنى وتفكيك الكلمات كلمة، كلمة. “أنا”، تقول “أنا”؛ ومن أنت؟

أنت الغائب الذي يتقمص دور الحاضر، أم أنت الحاضر الذي يتقمص دور الغائب؟

أنت المرئي أو المتواري؟

وهل أنت أنت، هل أنت ما كنته، وهل أنا من كنتها في زمان مضى؟

هل أنت من كنت بين يدي يوما، أم أنت من صار الوصول إليك محالا.

وأعدت القراءة مرة أخرى، وأعدت تفكيك الجملة مرات ومرات. وقفت طويلا على الكلمة الثانية. تقول “هنا”، فأين هنا، وما مكانها وما زمانها، وأيّ سور يسورها، وما شكل الجدران التي تحوطها؟

هنا في فضاء أزرق، لا هو سماء ولا هو ماء، آلهته أصنام وأصنامه آلهة يعبدون الكلمة ويلعنون الفكرة.

أنت هنا حقا. أين، في مشاع الأزرق، لكنني لا أراك؟

كيف ألمسك وأنت مجرد اسم يضيء في هذه السماء الزرقاء حينا، وينطفئ أحيانا كثيرة.

أنت هنا وأنا هنا، فلماذا لا نلتقي، لماذا لا أستطيع ضمك أو العزف على أصابعك حين تمتد إليّ، لماذا لا أستطيع أن أحضن وجهك بين كفي، ولماذا لا أستطيع أن..؟

ما أوسع هذه الـ”هنا” وما أضيقها، وكم هي مزدحمة وخاوية في ذات الوقت.

أنت هنا في قلبي ولا هنا غيرها على أي حال!

ولم تنته الجملة؛ أنت هنا وتقرأ. لماذا يرتعش القلم الآن ولماذا انتفضت روحي حين وصلت إلى هذه الكلمة تحديدا، قلت “أقرأ” تخيل كم أنا عارية أمام صمتك، وكم مرة كشفت لك عن هشاشة روحي وضعفي، وكم مرة بكيت، وكم مرة سهرت وأنا أستحضرك وأناجي طيفك. وكم مرة تعريت من خجلي وأعلنتها على الملأ: إني أتوق للحظة أقتل فيها كل سنوات غيابك بالعناق.

لو وقفت في مواجهة الآن مع نفسي أمام المرآة؛ لذبت خجلا في نفسي؛ كيف ارتكبت حماقة التعري أمامك، وكيف منحتك متعة الفرجة على حزني وشوقي، كيف أدخلتك في كل تفاصيل يومي.

كم مرة هربت في حروفي وكلماتي ما لم أكن قادرة على البوح به، أو إعلانه صراحة.

كيف جعلت من نفسي معزوفة من كلمات ونوتة لا يجيد عزفها سواك.

يا لي من حمقاء، ويا لك من أحمق. أنت لا تقرأ فقط؛ بل تقرأ كل ما أكتب.

هل تظن حقا أني أكتب؟ لا أنا لا أكتب؛ أنا أعيد تشكيل ملامحي بالحروف، وأشكل من الكلمات لوحة فسيفساء لتكون أنا. وأرسم جدارية بالحرف؛ لتعرف فقط أن حبك الذي لامس القلب يوما ما زال فيه.

ولأجلك سأكون في يوم ما ذاك النص الذي أردت دوما أن أكونه؛ لا لشيء؛ ولكن ليجسدني ويصيرني، وليكون أنا حين تضمه بلهفة أصابعك.

فاقرأ كل ما كتبته؛ وكن هنا، فكل ما كتبته لك، وكل ما لم أكتبه لك، وكل ما سأكتبه لك أيضا.

 4 آب 2021

صورة

ويمكنني الآن أن أعيد صياغة حضورك أو غيابك، وأن أعيد تشكيل كل ملامحك؛ لأنك تحولت مع طول الغياب إلى مجرد فكرة؛ والفكرة تصاغ مرات ومرات، والغياب صلصال الحكاية، وأصابعي الآن منشغلة في تشكيل وجهك، وأصابعي الآن منشغلة في خلق وإعادة خلق الحكاية!

الآن في غيابك كل المستحيلات ممكنة؛ وجهك بين كفي وأصابعي تنحت تفاصيله الدقيقة؛ أنت من أنت دون خيالي؟ صورة باهتة وملامح محيت وأعيد تشكيلها مرات ومرات؛ أحيانا أقول “هو” وأحيانا تفقد النظرة الأولى ملامحها وأتساءل بجنون “من أنت؟”.

أنا وبكل ما أوتيت من حماقة لم أتوقف لحظة عن تأمل صورتك؛ ومن الصورة خلقت ألف حكاية، ولم أتوقف، كنت أمتطي خيالي وأسافر إليك. هناك في منفاك، كنت أعيد بناء الحكاية من جديد!

أمس حلق بي خيالي ووصلت إليك، أمس وقفت أمامك. لا أدري إن كنت بالغت في رسم المشهد؛ قلت لك “أنا هنا، هل تصدق؟” كنت على وشك البدء بثرثرة أخفي فيها ارتباكا، وأعرف أني في ذات الوقت كنت أستجدي ذراعيك لتحتوي كل الحزن الذي عشش في القلب في غيابك، وكل ما أوهن الجسد من طول فراق!

لم تقل كلمة واحدة؛ نظراتك قالت كل شيء، وضممتني إليك؛ ونسيت كل سنوات العمر التي تساقطت في غيابك، ونسيت كل خيبات الانتظار وتلاشى طعم المرارة من فمي حينا.

كم مرة عليّ خلق الحكاية، وكم مرة سينسفها الواقع كأنها لم تكن؟

أنا الآن هنا بين هذه الحوائط التي لا تعد، ولا يمكن تجاوزها؛ أنا هنا، بيني وبينك لا شيء سوى ليل طويل ينذر ليلي بالكوابيس والأحلام المستحيلة.

كل ما أفعله هو تفقّد غيابك وليلك؛ أدخل خلسة على أطراف أصابعي.

أتفقد ليلك كل ليلة،

أعرف أنك لا تعرف؛

ولا أريدك أن تعرف،

ثمة متعة مثيرة في فك الزر الأول من القميص،

أو نزع نظارة القراءة عن عينيك،

أو الدخول إلى حلمك ودمك خلسة،

أو تتبع شرايين ذراعك

وخطوط يدك.

وحده الليل يزيل ارتباكي

ويعفيني من خجلي،

ومن النظر مباشرة في عينيك!

وفي الليل أيضا أقسمت كثيرا وما زلت أقسم أن أكف عن ارتكاب الحماقات. أقول “نسيتك، ولن أرتكب حماقة جديدة!”

وتقول “وما شأن الحماقة؟”.

Thumbnail

وأقول لك “أن أرتكب حماقة جديدة يعني أني أقر وأنا بكامل هشاشتي الروحية أني مازلت أحبك، وأن رقصة الصوفي لم تتوقف منذ عرفتك، وأن السقوط على ذات النقطة التي رقصت عليها كان خياري الأحمق للخلاص منك، وأن نشوة الروح بلغت منتهاها حين ضممت كفي إلى صدري كي أحفظ نبضك في قلبي!”.

أن أقترف حماقة جديدة في حضورك أو غيابك يعني أن الوصول إليك لم يكن مبتغاي؛ إنما أردت أن أخلدك في قلبي، أو أن أصيرك أيقونة؛ يعني أن تصير قديس قلبي.

لا شأن لحضورك أو غيابك فيما تطلبه الروح من سمو؛ لا شأن للكلمات في إنشاء معبد الحب في ذاتي أو هدمه.

أدرك الآن أنك ارتفعت في قلبي إلى مقام لم يعد معه التجسيد ممكنا ولا مطلبا.

أن أرتكب حماقة يعني أني أيضا تخليت عن واقعي بكل ما فيه من بؤس ودخلت وهم الحكاية المحمولة على غيمات الخيال؛ وأني سلمت قلبي للريح تعصف به أو تسافر به إلى غير وجهة، تسرقه مني أو تعيده إليّ أنّى تشاء.

لم يعد ممكنا أن أعود خطوة واحدة للوراء؛ فبحق من أسكنك قلبي دون إرادة مني أن تكف عن دحرجة الأسئلة أمامي؛ فإني لا أريد أن أنزلق في متاهات الأسئلة.

سأكتفي بك صورة ولا أغامر بالقفز عن أسوار الواقع، ولا تجاوز أسلاك غيابك الشائكة. رضيت بك صورة أتأملها وأنا ألتحف كل أغطية الغياب الثقيلة، رضيت بك صورة أتأملها وأنا أنزع شوك الوحدة من قلبي، رضيت بك

ص

و

ر

ة

ويا وجع الحب وبؤس المحب حين يكون الحبيب صورة.

9 آب 2021

هباء

أكتب لك من هذا “الشارع”؛ أقصد “الفيسبوك”؛ المكتظ بما فيه ومن فيه؛ أكتب لك من هنا؛ لأنني بلا مأوى؛ منفية في بلاد كل ما فيها منفى.

هذه البلاد – المنفى التي نسميها حين نجهش بالحنين، أو حين يلسع الشوق أطرافنا، وحين يداهمنا الفقد؛ نتذكر أنها بلادنا ونسميها “وطن”.

تلك بلادي يا صديقي، وبلادك، وبلد من لا بلد له.

تلك قبلة المهجرين وقبلتك.

أكتب لك من هذا الشارع؛ لأنني لم أعثر على مكان واحد في هذا المنفى الكبير لأسمّيه مجازا وطني! إني بلا وطن يا صديقي، فهل تصدق؟

أنظر إلى السماء حين يغلبني اليأس؛ لا أرفع كفي، لا أستجدي ولا أتضرع! فالله أيضا نسينا هنا؛ حشرنا في هذه الرقعة وتركتنا لأقدارنا، وشد أقدامنا إلى أرض مسكونة بالخوف والموت.

وأنا خفت، وككل الجبناء والمنكسرة قلوبهم جبنت؛ وقفت مثل مسمار في أرض ملغومة، وخفت من رصاصة سيقال عنها حين تصيبني في القلب أو الرأس؛ طائشة! وأموت كما يموت غيري، دون مقدمات، ودون مبررات من قاتل.. وهل يحتاج الموت إلى مبررات؟

يا صديقي تسألني إن كنت بخير، وأسألك كيف أكون كذلك وكل ما حولي خراب؛ وداخلي خراب.

يا صديقي أنا حين أتأمل صورك القليلة المنتشرة هنا، وهناك؛ أحقد عليك لأنك تمتلك مثل هذه الملامح البريئة! ليتك لم تكن بمثل هذه الطيبة، وليتني لم ألمح قلبك في عينيك، على الأقل لن أكون منشغلة بك كما أنا الآن. وما كنت أرهقت قلبي وقلمي بتتبع أثرك وظلك. ليتك لم تمتلك هذا القلب.

أكتب هنا، وأترك كل ما كتبته على رصيف هذا الشارع؛ فربما مررت من هنا والتقطت أوراقي المتناثرة على الطريق. ربما!

يا صديقي، أنا الآن أحاول جاهدة وبكل ما أوتيت من ضعف أن أنجو من نظراتك التي تخاطب قلبي، أحاول أن أتفادى هذا الحديث الذي يتصل كلما نظرت في عينيك. وأحاول أكثر، أن أختلق ألف عذر كي أحقد عليك. أحاول، وأحاول وفي نهاية كل ليل أرتشف الكلام من عينيك، وأدخلك قلبي، وأهرب ملامحك إلى مناماتي.

أنا الحمقاء التي تكتب إليك الآن ولا تعرف لم تكتب.

أنا الحمقاء التي تريد أن تنتهي منك دفعة واحدة فتكتشف بمحض الصدفة لا غير أنها مسكونة بك؛ وأن كل محاولات الهروب منك هباء.

هل أقولها ثانية، لعنة الحب أن يكون الحبيب صورة؟

9 آب 2021

ذرات

ردا على سؤالك – ولا أعرف إن كنت في الحقيقة سألت، أم أني توهمت كعادتي واخترعت ما اخترعت – ردا على سؤالك إن كان ما كتبته لك أو كتب لغيرك ووصل إليك. أقول “لا فرق يا صديقي، لا فرق؛ ألم تأخذه الريح إليك؛ والريح تعرف دربها؛ والريح أبدا لا تتوه”.

كل ما كتب وحط على أصابعك فهو قدرك؛ والحب أقدار.

وأنا في لحظة الجنون التي تعتريني أنشر قلبي وشعري وأوراقي للريح. أفتح ذراعي وأقول للريح خذيني.

وأنا في لحظة الجنون تلك أتجزأ وأصير ذرات تراب أو نتف غيم أو ريش حكاية لا فرق، وأصرخ بالريح خذيني.

وأنا في لحظة الجنون تلك أقف على رأس التلة.. وأتعرى وأقول للريح احمليني.

فتحملني إليك؛ والريح ترسم درب التائهين وتمحو أثر الطريق عن الطريق. وفي الطريق لا أعود أنا، ولا أكون ما كنته؛ أصير ذرات صغيرة تنحت صخرة الغياب، وأرتطم بها مرات ومرات مثل قدر عنيد، وألعنها كثيرا وألعن كل المسافات وكل أسباب الغياب.

في الطريق تنبت صخرة غياب هنا وهناك، ويصير شغل الريح تفتيتي، ويصير قدري أن أرتطم دفعة واحدة بكل أقدار الغياب.

وحين تتعب الريح وأتعب، ترسبني كومة من ذرات رمل متفككة وتكومني تحت أقدام الغياب.

10 آب 2021

ملامح

أنت على حق يا صديقي. نعم أنا أحاول أن أبقيك بعيدا عن حدود قلبي، وعن كل الأسوار التي أقمتها حولي؛ لأن أرض نفسي مزروعة بالخوف، مسكونة بالرعب.

وكل من اقترب أحرق وردي وقلبي ومضى؛ لذلك قلت لك أنا أكتفي بك صورة أتأملها حين ينام الكون على قبحه ومجازره وأحقاده السوداء.

أكتفي بك صورة تؤنس وحدتي، وتطرد كل الأشباح التي تتربص بي في الزوايا المعتمة، أتأملك كي أصرف انتباهي عن متابعة الخيالات التي تعبث في مخيلتي وأفكاري، أتأملك كي أحافظ على توازني النفسي والعقلي وربما الجسدي أيضا.

أغيب معك في حديث طويل، قد يبدو مجرد ثرثرة فارغة بلا معنى؛ وأنا لا أبحث عن معنى ولا مبنى؛ فقط معنية بحضورك، وبهذا الحضور الذي لا يتشابه مع أي حضور.

كلما غبت في دهاليز العتمة وغاب الضوء أو كاد، أحتمي بنظراتك من حتمية الضياع، أعثر فيهما على سكينة لروحي، وأبوح لهما بكل أسرار الماضي ومتاعب الحاضر، أقترب منهما كي أقرأ سحر النظرة، وأحاول تفسير هذا الانجذاب نحوهما.

لا أدري لم أتذكر الآن أمي؟

مرة قالت لي بأني قد أخذت عن والدها (جدي) عيونه الواسعة؛ لكنني لا أعرفه ولم أر له صورة واحدة.

الليلة أرقني السؤال. لم لا أعرف عنه الكثير؟

كل ما أعرفه نتف حكايات غير مترابطة، لمَ لم أسأل أمي عنه ولم أستفسر أكثر… وهمست لنفسي وأنا عاقدة العزم على معرفة المزيد: سأفتح معها أبواب الحديث في الغد!

وإن جاء الغد مسرعا أو متباطئا فمن أين أبدا؟

سأبدأ من الخيط الأول، أجذبه نحوي مثل شبكة صيد ستجر وراءها مئة سمكة أو خيط، وانتشيت لفكرة هذا الصيد الثمين والغزير. وكنت فرحة لأنني لن أعود بخفي حنين.

جدي لأمي كان من اللد هكذا أعرف، وأحيانا تختلط عليّ الأمور وأقول لا، بل من الرملة، أمي كانت تكرر المثل “اللد قبال الرملة!” وأنا لا أعرف اللد ولا الرملة؛ ربما أعرفهما على الخريطة فقط. فمن سوء حظي أن بلادنا مجرد خريطة. لا بل هي مجموعة خرائط لا تعد ولا تحصى. فأي خريطة سأجد عليها بلادي؟

حتى أني لا أحب الخرائط بأنواعها ولا مسمياتها العديدة، كلما نظرت إلى العالم المستلقي على إحدى الخرائط، بحثت بعفوية ضائع عن بلدي، هذا الذي بالكاد يرى على الخريطة، وأقول في سري كم تكذب الخرائط يا وطني، أراك هنا بكاملك، وفي الحقيقة أنت أكثر من حقيقة.

أراك هنا بكل اكتمالك، وفي الواقع أنت مثل رغيف خبز تقاسمه الفقراء وسرق الحصة الأكبر منك الغرباء. أنت فتات الفتات وأنا لا أعرف من هذا الفتات الكثير.

هل خرجت عن النص. ربما!

أعود بك إلى جدي الذي لا أعرفه. ولا أعرف عنه الكثير سوى أنه لاجئ بـ”كرت مؤن” وهذا أعرفه ومتأكدة منه لأني كنت أرى (البقجة) بعيني، وإن كنت لا تعرف البقجة فهي صرة ملابس مستعملة. ستكون يا صديقي من المحظوظين لو عثرت فيها على قطعة ملابس تناسب مقاسك، أو كانت أصغر قليلا أو أكبر كثيراً، لا فرق!

ومع البقجة كيس طحين وأكياس حليب وعلب لحم وسردين وأكياس حبوب. وأشياء كثيرة لم أعد أذكرها؛ جدتي ورثت بعد جدي كرت المؤن والبقجة. ألم أقل لك إن النكبة تورّث؟

ربما أخذتك بعيدا عن عيوني وعيون جدي الواسعة، ولكن أتساءل، ما وسعهما يا ترى؟

فكرت أن أستحضر صور خالاتي وأخوالي وأولادهم، لأقوم بتصنيف بسيط؛ أصنع في مخيلتي خانات افتراضية، سأطلق على الأولى عيون جدي، والثانية عيون جدتي، سأتسلى قليلا كي أقتل هذا الليل المرير، سأبدأ بأمي وأضعها في الخانة الثانية مع جدتي، وقبل أن أحزم أمري توقفت مليا إذ لم أعد متأكدة بسبب طول الغياب إن كانت أقرب شبها إلى والدها أو والدتها، واحترت حاولت أن أتذكر تفاصيل وجهها. ارتعشت الصورة قليلا، لم تكن عيونها واضحة التفاصيل، لذا قررت بما أني أشبهها على نحو ما أن أضعها في خانة جدي. لا تسألني كثيرا إن كنت متأكدة أم لا؛ فالغياب الطويل يجعل أمر التثبت من الملامح أو التفاصيل أمرا مستحيلا.

كيف مات جدي ومتى، ومن تولّى أمر العائلة بعد موته أيضا لا أعرف؟ سمعت أمي مرة تقول بأنه كان يعمل في محجر، ولم أسأل أين؛ هل كان المحجر في اللد أو في المكان الذي هاجر إليه هو وعائلته، أيضا لا أعرف؟

مرت بي صور خالاتي وأخوالي وأولادهم. ومن خلال تصنيفي الافتراضي رجحت كفة جدي، ومن باب توخي الدقة أقول لك لا تأخذ ما خرجت به من نتائج على أنه مسلمات، فصدقا ما عادت ذاكرتي تحفظ ملامحهم جيدا، وربما خلطت دون قصد الملامح بالملامح.

لماذا تشوشت صورتك فجأة. يبدو أنك تعبت مما سردته عليك، وربما أضعتك في أحابيل الحكاية.

لا عليك يا صديقي، ليس ثمة ما يستحق التفكير ولا عناء ملاحقة التفاصيل، أردت فقط أن أدخل في بوح مع عينيك، لكنني اكتشفت أني ضعت فيهما، وأني خلطت دون قصد أوراق الحكاية.

11 آب 2021

أعيدوني إلى القبو

Thumbnail

قالت له “إن اعتياد الأشياء القبيحة ذات الوجه الواحد المكرر لم تكن يوما أكبر مشكلاتي؛ إن أكثر ما كان يثير مخاوفي هو الخروج من دائرة البؤس والقبح التي ابتلعتني منذ أعوام بعيدة، ولسنوات طويلة.

إن مجرد التفكير في الخروج من المتاهة متاهة؛ في لحظة ارتباك كنت أقف أمام وحش مخاوفي وأتساءل بجبن؛ كيف أواجه هذا العالم وجها لوجه بكل ما فيه من متناقضات، وبكل ما فيّ من جبن.

أحيانا أشبه اللحظة تلك بلحظة مواجهة الشمس للمرة الأولى بعد الخروج من القبو.

في القبو أنت جزء من ذلك العالم الرطب المتعفن المعتم والخروج منه ومعانقة الشمس يحتاج إلى الكثير من الشجاعة؛ وأنا لا أدّعي الشجاعة؛ بل على النقيض تماما كل كياناتي مهتزة ومتداعية، ولا أحمل بين ضلوعي إلا هذا القلب المرتجف، وليس في ذهني إلا تلك الأفكار السوداء المتشابكة عمّا يمكن أن أواجهه خارج هذه الجدران السميكة الرطبة.

بل صرت أخاف الخروج.. ربما لو تكسرت الأقفال عن الأبواب سأصرخ وأنا أتجنب النور الساطع، وأخفي وجهي بذراعي.. “أعيدوني إلى القبو!”

إن من أراد لك أن تكون هنا بين هذه الجدران كان يفكر بعقلية السجان؛ وانتصار السجان بانتصار السجن؛ والسجن ينتصر حين يتحول إلى ملاذ آمن من العالم الخارجي؛ ولا يصير كذلك إلا بعد أن يزرع السجان الخوف في عقلك ويكسر قلبك. وسجانك فعل ذلك وأكثر، لدرجة صار فيها سجنك نفسك لا هذه الجدران المتداعية.

أنت بكل ما فيك مهزوم؛ لأنهم هزموا روحك وكبلوها بالوهم؛ وصرت وهم نفسك، فكيف تحارب وهمك وتنتصر عليه؛ كيف تخرج من ذاتك المكبلة، كيف تقف مرة أخرى أمام الشمس وتفتح عينيك وأنت لا تخشى الضوء؟

كيف تقول لهذا العالم الذي تواريت منه طويلا.. أنا هنا، كيف تحرر أصابعك من عقدة الخوف، كيف تقبض بكفيك على مخاوفك، وتقول للخوف هزمتك، كيف وأنت المهزوم بكل ما فيك، وكل هزائمك أنت؟

كيف تخلع عنك كل هذه الأفكار، كيف تغزل من خيوط الشمس حريتك؟

القبو فيك، وأنت قبو نفسك؛ تدخله لتنجو من كل الحقائق المرعبة… فهل نجوت؟

حماقة أن تقول انتصرت، حماقة أن تقول نجوت.

ستنجو حين تنزع عنك جلدك الميت، حين ترتدي نفسك، أو حين تتعرى من كل مخاوفك في الشمس.”

قال لها وهو يعبث بفتيل السيجارة المحترقة “وما جدوى الخروج وقد احترق كل ما فيك… احترقت الروح واحترق القلب.. ومع كل سيجارة كنت أحرق أمالي، وأنفث روحها في الهواء وأتتبعها وهي تتلاشى أمامي غيمة دخان تلو الغيمة.

كنت أستعجل لحظة التلاشي؛ وأحيانا أهش غيمات الدخان بكفي. كنت محرقة آمالي.

ما جدوى الخروج بروح محترقة وجسد أنهكه الانتظار.

صار الفناء في قبو نفسي أمنيتي؛ بل رغبتي الوحيدة. أحيانا أتخيل نفسي مثل أوراق نبتة طمرت طويلا تحت التراب؛ وفي اللحظة التي ينكشف عنها التراب؛ وما ان يلامسها الهواء أو يمسها الضوء حتى تصير رماد.

أنا الآن ذاك الكائن الهش، روحي مثل ورقة متحللة فناؤها حتمي حين يلمسها الهواء أو يمسها الضوء.

أريد أن أفني نفسي في قبو نفسي.

أوتدرين؛ حين يكف هذا القلب عن النبض لن يقولوا مات؛ فالكل يعرف أني أحمل جثتي على كتفي؛ لأعوام طويلة وأنا أحمل هذا الشيء الثقيل الذي يسمونه أنا، وأسميه جثة.

أما آن لي أن أستريح؛ أما آن لي أن أنزل جثتي عن جثتي، وأن أضمها للمرة الأخيرة وأنا أعبر آخر متاهات الحياة.. متى أقول الآن لم يعد بي أي رغبة للخروج من القبو. أهيلوا علي التراب إن شئتم؛ الآن أتوحد بنفسي؛ هنا في داخل ما تسمونه القبر أو القبو، وأسميه نفسي. “

نظرت إلى اللامكان الذي كان يحدق فيه، وقالت كأنها تعيد النشيد ذاته دون أن تنتبه. وأنا مثلك أريد الفناء في قبو نفسي. أنا مثلك لا يهمني الخروج، أريد أن أطمر نفسي بنفسي.

21 آب 2021

لغائب لن يعود

لو تكف روحي عن مناجاتك، لو يعزف القلب عن النداء، لو تتوقف أصابعي عن العزف القلق، لو!

لكنه التكرار ذاته، والنداء المكتوم ذاته، والصوت الذي دائما لا يصل؛ فلا عنوان ولا بريد لصوت مرتجف.

لكنها الأشياء تعيدني إلى ماض أحاول عبوره دون جدوى، فهل أنا عالقة أم مقيدة؟

وهل أناديك حين أناديك أم أني بيأس أحاول استرجاع ما مضى، وهل أريد حقا استعادة اللحظة الناقصة، أم أني أحاول استعادة المكان. وهل يمكن أن أستعيد المكان وأسترجع كل ما كان.

ألا تعرف كم تغيرنا وكم بدلت الأشياء أماكنها!

اللعنة على هذه الذاكرة التي تئن على أصابع الحنين.

يقولون لك وهم يرددون صوت النداء المخنوق على صفحاتي “عد لتكتمل اللوحة!” يطالبون بعودتك إليّ، فهل أدعوك مثلهم إلى عودة أسترجعك فيها مليا، أم هل أكتبك هنا لأقتلك كثيرا.

ليس بي شهوة الرجوع، وما في القلب نداءات لغائب لن يعود.

كم مرة قلت لك لكل غياب أظافر تشق جلد الانتظار بلا رحمة، لكل غياب أصابع قاسية تشرع نوافذ سوء الظن وتفتح الشبابيك على احتمالات لا تعد ولا تحصى.

وأنا ما عدت قادرة على احتمال احتمالات غيابك أو رجعوك؛ والعمر ليس قطعة نرد.

ألملم ذاتي مثل أحجار “الدومينو”، أعيد ترتيبها مرات ومرات، لكنها أبدا لا تكتمل؛ ثمة الكثير من النقصان؛ هو هذا النقصان يا سيد الغياب. هو هذا ما يتعب القلب والقلم.

أحاول مرارا أن أحرق صورتك، وكلما فعلت اشتعل القلب واشتعلت الذاكرة.. وأراك تعود، ويعود ماضيك لبدايته، وأكثر ما يؤرقني في غيابك البداية. لو لم تكن بكل هذا الحضور الطاغي يومها. لو لم تكن بكل هذا!

يقولون لي “دعيه يعود لتكتمل اللوحة الناقصة، يقولون لي اللوحة الناقصة لعنة؛ فكل نقصان يكمله الغياب لعنة، اللوحة الناقصة تسكنها كائنات لونية قادرة على التمرد على الشكل والتنصل من ظلالها، اللوحة الناقصة تسكنها الأشباح وتتخفى في زواياها جنيات رمادية الأصابع، تفسد المشهد وتطمس الضوء”.

هم يريدون عودتك لينتصر النص على الواقع؛ لأنهم يراهنون على سحر الكلمة، وأنا لا أريد عودتك كي ينتصر النص على النص؛ فكل النصوص التي تكتب في غيابك وعلى أطلال ماضيك انتصار على نص سابق؛ لا أطالب بعودتك ولا أريد أن أكتمل بك، أحب هذه المساحات الافتراضية التي لا تكملها الكلمات ولا يسد مساماتها أيّ لون، أحب هذا البياض اللامتناهي، وأكره النهايات الموقعة بالحبر.

يريدون عودتك ليرتاح قلبي من تعب انتظار نزفت على حوافه عمري وقلبي، تساقطت أيامي في ماء الحكاية مثل نقطة حبر وتلاشت. فكيف ألملم ما سقط مني، وكيف أقنعهم أني لا أنتظرك عودتك، وكيف أقنعهم أنك لا شيء سوى توق لحب.. ومحاولة يائسة لمقاومة كل هذا القبح الذي يكتنف أيامي.

هل أكشف لهم أوراقي، هل أعلن لهم أن لا غياب في غيابك، ولا حضور لحضورك، ولا اسم لك ولا ملامح. هل أقول لهم انك شهيتي للحياة، وفكرة أو حالة أحاول تجسيدها على الورق!

هل أخبرهم أنك الابن الشرعي لقلبي وحبري، وأني أحاول بك ومن خلالك مقاومة كل هذا العدم الذي يحاصرني من كل صوب.

هل أبوح لهم بسري الصغير، وهل أكمل اللوحة بألوان باهتة، هل أجهض خيالاتهم وأكتم صوتهم، أم أردد معهم النشيد. عد أيها الغائب فإني سئمت اللوحات الناقصة.

28 آب 2021

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.