أُذُنان

الأحد 2023/01/01
لوحة: رنده مداح

مَالتْ الحافِلةُ العَامَّةُ شَطرَ اليَمِينِ، وأَخذَتْ تَتمَهَّلُ حَتَّى تَوقَّفَتْ عَجَلاتُهَا عَلى الجَانِبِ التُّرابِيّ مِن أقْصَى يَمِينِ الطَّرِيقِ العامّ، اِنفرَجَ بَابُ الرُّكابِ، وَبَعدَ هُنيهاتٍ نَزلَ مِنها رَجُلٌ مُخدّرُ السَّاقَينِ، وقَبلَ أنْ يستَوِي عَلى الأرْضِ بِشكلٍ جَيّدٍ، تَحَرَّكَتْ الحافِلَةُ مُخَلّفَةً نَحوَهُ دُخانَاً دَاكِنَ اللَّونِ حَادَّ الرَّائِحَةِ، وَكَأنَّهُ نَتِيجَةُ زَيتٍ فَاسِدٍ مَحرُوقٍ.

أَدَارَ ظَهْرَهُ إلى عَاصِفَةِ الدُّخَانِ الصَّغِيرَةِ وهُو يُكمّمُ فَمَهُ بِراحَةِ كَفّهِ اليُمنَى.

بَعدَ سَعلتَين، رَفَعَ نَظَرَهُ إلى اللَّائحَةِ الصَّدِئَةِ الَّتِي تَحْمِلُ اسمَ القَريَةِ الَّتِي نَزَلَ قُبَالتَها، ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ تَلمّسَ خطُواتَهُ مُسلِّماً جَسَدَهُ لِطولِ الطَّريقِ الفَرعِيِّ الرَّفِيعِ المُؤدّي إلى القَريَةِ الَّتي يَقصدُهَا حَتَّى يَقومَ بِواجِبِ عِيادَةِ زَوجِ ابْنِةِ خَالَتِهِ الذِي تَعرّضَ لِلَسعةِ أَفْعَى وهو نَائِمٌ في البَيتِ.

ألقى نَظرَةً فَاحِصَةً إلى بيوتِ القَريَةِ المُتَنَاثِرةِ، فَبَدَتْ أَمَامَ نَاظرَيهِ بَعِيدَةً بَعْضَ الشَّيء، خَاصَّةً وَأَنَّهُ فِي سَاعَةِ العَصْرِ، وَحرارَةِ شَهرِ تَموز، بَيدَ أَنَّهُ لَا بدَّ مِن أنْ يمضِيَ، ويُؤدّي هَذا الوَاجِبَ، وَهُو الَّذِي اعْتَادَ عَلى زِيارَاتٍ كَهَذِهِ، واعْتَادَ عَلى تَحمّلِ مَشقَّةِ المُواصَلاتِ العامَّةِ.

تَذَكّرَ أَنَّهُ منذُ خَمْسِ سَنواتٍ أَتى إلى هَذِهِ القَريَةِ لِلمرَّةِ الأُولَى عِنْدَمَا تَزَوَّجَتْ اِبنةُ خَالَتِهِ مِنْ شَابٍ فَلَّاحٍ فِي هذه القَريَةِ، وَكَانَ قَدْ حَدَثَ ذَلِكَ نَتيجَةَ مُبَاحثَاتِ النّسوَةِ اللَّاتِي سَعَينَ لِهذَا الزَّواجِ مِن قِبَلِ أهْلِ الشَّابِ لِأَنَّ إِحدَى أَخوَاتِهِ مُتَزَوِجَةٌ فِي الحيِّ الَّذِي تَقْطُنُهُ الفَتَاةُ، ومنذُ سَنتين أَتَى لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَمَا أَنْجَبَتْ اِبنَةُ خَالَتِهِ صَبِيّاً.

غَدَا يُدندِنُ بِأغنِيةٍ وَيستَأنِفُ خطواته فِي كَبِدِ الطَّريقِ غَيرَ آبهٍ بِالمسَافَةِ الَّتي تَستَغرِقُ نَحوَ نِصفِ سَاعَةٍ مِنَ المَسِيرِ عَلى الطَّريقِ التُّرابِيّ.

فِي مَدخَلِ القَريَةِ كَانَ يَقبعُ كَلبٌ عَلى ذَيلِهِ تَحتَ فَيءِ بيتٍ طِينيّ مَهجورٍ، وَما إِنْ لَمَحَ الرَّجلَ يَتجاوَزُهُ دَاخِلاً حُدُودَ القَريَةِ، حَتَّى وَثَبَ بِشدّةٍ وَهُو يُطْلِقُ نُبَاحَاً مُتصَاعِداً نَحوَ قَفا الرَّجُلِ، يَجري إِليهِ ويَكادُ أنْ يَعضَّ سَاقَهُ مِن الخَلفِ، بَيدَ أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَلتَفِتْ إليهِ طُرفَةَ عَينٍ، ولَمْ يُبدِ أَيَّ رَدّ فِعلٍ مُواصِلاً دندَنَتَهُ وخطوَاتَهُ الواثقةَ المتّزنَةَ نحوَ قَلبِ القَريَةِ.

عِندَئذٍ أَخذَ نُبَاحُ الكَلبِ يَخفتُ رُويدَاً رويداً حَتَّى صَمَتَ تَماماً، وتَوقَّفَ عَلى  قَوائِمِهِ، وَبعدَ لَحظَاتٍ مِن الوُقوفِ والنَّظَرِ إِلى الرَّجُلِ الَّذي يَمضِي، استَدارَ نَحوَ الخلفِ عَائِداً بِخطُواتٍ وئِيدةٍ إِلى مَوقِعِهِ.

بَعدَ قَليلٍ  شَقّ رَجلٌ آخرُ ذَاتَ الطَّريقِ، وَما إنْ أَوصَلَتْهُ قَدَمَاهُ لِتَخطّي حُدُودِ القَريَةِ حَتى أَحسَّ بِأنَّهُ سَقطَ  بَينَ فكّي حَيوانٍ شَرسٍ فِي تِيه بيداءٍ.

اِرتعَدَتْ أَوصَالُهُ وَغَدَا فَريسةً لِحالَةِ الذُّعرِ الَّتي اِحتَلَّتهُ فِي مُواجَهَةِ هُجُومِ الكَلبِ المُباغتِ عَليهِ، وَقُوةِ النُّباحِ التي تَنطَلِقُ إِليهِ كَالشَّرَارِ.

فِي تِلكَ اللَّحظَةِ الحَاسِمَةِ الَّتي اِسْتَسلَمَ فِيهَا الرَّجُلُ لِهذَا الهَول، وَغَدا اللَّاشعُورُ هُو الَّذي يَقُودُهُ، أَخَذَتْ خطواتُهُ تَسيرُ هَروَلةً بِهِ يمنَةً ويسرَةً، فِي حِينِ اِزدادَ الكلبُ عَزمَاً، وهوَ يدْنُو مِنهُ مُهدّداً إِيَّاهُ بِالعَضّ ويَكادُ يَلتَقِطَهُ بِفكَّيهِ مُضَاعِفَاً عَلَيهِ حَالَةَ

الهَلَعِ.

لوحة: رنده مداح
لوحة: رنده مداح

وَقفَ الرَّجُلُ مُحاوِلاً الدّفَاعَ عَن نَفسِهِ مِن خِلَال ركَلاتٍ بِقَدمَيهِ يَصُدُّ بِها فكَّي الكَلبِ، بَيدَ أنَّهُ كَانَ يَزدَادُ نُباحَاً وشَراسَةً، والشَّرُّ يَطفُرُ مِن عَينَيهِ، اِمتَدّتْ كَفُّهُ المُرتَعِشَةُ إِلى حَجَرٍ وقَذَفَتْهُ إِلى وَجهِ الكَلبِ، لَكِنَّهُ وَاصَلَ نُبَاحَهُ الشَّدِيدَ، مُقْتَرِبَاً مِنهُ وَمُبتَعِدَاً عَنهُ مُوحِياً أَنَّهُ سَوفَ يَلتَهِمُهُ بَعدَ لَحظَاتٍ.

ويَبدُو أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَبقَ أَمَامَهُ غير أَن يلجَأَ إِلى الرَّكْضِ فِي مُحَاوَلَةٍ أَخيرَةٍ لِلنَّجاةِ بِنَفسِهِ مِن بَراثِنِ هَذا الكَلبِ الشّريرِ.

عِندَئذٍ ضَاعَفَ الكَلبُ أيْضَاً رَكضَهُ، هَرعَ بِشدَّةٍ، والكلبُ يُطلِقُ نُباحَهُ المُتصَاعِدَ خَلفَهُ كَأنَّهُ عَلى وَشكِ أَنْ يَأكُلَهُ حَيَّاً وهُو يُلامِسُ ثِيابَهُ بِفكَّيهِ.

فِي تِلكَ اللَّحظَةِ لمْ يدرِ كَيفَ وَقعَتْ عَيناهُ عَلى الرَّجُلِ الأَوَّلِ الذِي لايزَالُ يَسيرُ آمِنَاً عَلى الطَّريقِ غَيرَ آبهٍ بِمَا يَقعُ خَلفَهُ عَلى بُعدِ خطواتٍ، فأَصدرَ الرَّجُلُ المَذعُورُ صُراخَاً عَلّهُ يَلتَفِتُ إِليهِ، ويُعِينُهُ عَلى مُقاوَمَةِ الكَلبِ، لَكنَّهُ وَبَعدَ عِدَّةِ صَرخَاتٍ أَدرَكَ أنَّهُ رجلٌ أطرشٌ،  فَتجاوَزَهُ والكَلبُ يركُضُ خَلفَهُ كَالسَّهمِ، عندئذٍ رَأى الرجُلُ الأطْرَشُ مَنظَرَ الكَلبِ الشَّرسِ وهُو يُطارِدُ الرَّجُلَ المَذعورَ وَكَأنَّهُ يُلاحِقُ طَريدَةً، فَأصَابَهُ ذُعرٌ شَديدٌ، وَاستَدارَ عَائِداً نَحو الخَلفِ وهوُ يَهرعُ  بِكُلّ مَا أُوتِيتْ قَدمَاهُ مِن عَزمٍ  تَجَنُّباً مِن عَودةِ الكَلبِ إِليهِ.

فِي تِلكَ اللَّحظَةِ الخَاطِفَةِ يَبدُو أَنَّهُ قد لَفتَ نَظَرَ الكَلبِ الَّذي تَرَكَ طَرِيدَتَهُ وَصوّب قوائِمَهُ إِليهِ، فَركَضَ الرَّجلُ الأطرَشُ وَقدْ اِحتلَّهُ الهَلَعُ دُونَ أَنْ يَسمَعَ لِلكلْبِ صَوتَاً، ولَكنَّهُ كانَ بينَ فينةٍ وأُخرى يَستَدِيرُ لِينظُرَ إِلى عَلامَاتِ الشَّرّ فِي عَينيهِ، وَهو يَجري خَلفَهُ وَيحَاوِل أنْ يُمسكَ بهِ حَتَّى أَوصَلهُ إِلى الطَّريقِ العَامّ مُنهَكَ القِوى، عِندئذٍ تَركَهُ الكَلبُ عَائِداً إِلى قَريتِهِ وهُو يَهزُّ ذَيلَهُ يُمنَةً ويُسرَةً وَكَأنَّهُ ألحَقَ الهَزيمَةَ بِلصٍ.

وقَفَ الرَّجُلُ يَستَرِدُّ أَنفَاسَهُ وكَأنَّهُ نَجا مِن وَقعِ بُركَانٍ، جَلسَ تَحتَ لَائحَةِ القَريةِ وتَلمّسَ شَيئَاً مِن الاِستِرخَاءِ بين فكرةٍ تدعُوهُ كَي يُكمِلَ الطَّرِيقَ إِلى القَريَةِ مَرةً أُخرَى، وَفكْرَةٍ تَدعُوهُ إلى العودةِ للبيتِ آمِنَاً.

بَعدَ أنْ هَدَأ رَوعُهُ قَليلاً، لَبِثَ نَحوَ نِصفِ سَاعةٍ مُستَرخِيَاً يُفكّرُ فِي طَريقَةٍ تُدخِلُهُ القَريةَ مَرَّةً أُخرى، وَهو يكَيلُ عِبارَاتٍ قَاسِيةٍ لِلرجُلِ الذِي سَـلـّطَ عَليهِ الكَلبَ وَتَسبَّبَ بِطردهِ مِن القَريَةِ بِهذِهِ الطَّريقَةِ المُهينةِ بَعدَ أَن دَخلَهَا وَكَانَ عَلى بُعدِ خطُواتٍ مِن بَيتِ ابْنَةِ خَالَتِهِ.

عندئذٍ قَفزَ إِليهِ سُؤَالٌ مُباغِتٌ: إِذنْ، أَينَ كَانَ الكَلبُ عِندَما دَخلْتُ القَريةَ!

غَدتْ شفتُهُ السُّفلى كَعِلْكَةٍ لأسْنَانِهِ، وارْتَفَعَتْ كَفُّهُ لِتَهبطَ بِقُوةٍ عَلى فَخْذِهِ وهُو يَنهَضُ بِعَجَلَةٍ.

نَفضَ ثِيابَهُ مِن التُّرابِ، وعَلى الفَورِ دَبَّ بِخطُواتٍ وَاثِقَةٍ فِي صَدرِ طَريقِ القَريَةِ مَرَّةً أُخرَى، وَغدَا يُدنْدِنُ ذَاتَ الأُغنِيةِ مُتخَيِّلاً أَنَّهُ يَشقُّ الطَّرِيقَ لأولِ مَرَّةٍ.

لَمحَهُ الكَلبُ مَرَّةً أُخرى وهُو يَتجَاوَزُهُ دَاخِلاً القَريَةَ، فَوثَبَ بِعزمٍ إِليهِ وَهو يُطلِقُ نُباحَاً مُتَصَاعِداً، وَيدْنُو حَتى كَادَ يُلاصِقُ سَاقَهُ مِن الخَلفِ.

لَبثَ الرَّجُلُ مَاضِياً بِذاتِ الهُدوءِ يُدندِنُ لَحنَ أُغنِيتِهِ  دُونَ أَنْ يَسمعَ شَيئاً، وَدونَ أَنْ يَلتَفِتَ إلى الخَلفِ رُغمَ أَنَّهُ يَتحّسسُ مِن تَحتِ بِنطَالِهِ لَهَبَ الأنفاسِ التي تَنطَلِقُ مِن فَمِ الكَلبِ.

بَعدَ عِدَّةِ خطُواتٍ توَقَّفَ الكَلبُ عَن الرَّكضِ، وَعَن النُّباحِ، وَعَادَ إِلى مَوضِعِهِ قَابِعَاً عَلى ذَيلِهِ تَارِكَاً الرَّجُلَ يَشقُّ طَريقَهُ بِذاتِ الخُطواتِ الهَادِئَةِ إِلى حَيثُ يَشاءُ مِن بُيوت القريةِ.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.