إبيجرامات الحرب الأهلية الليبية
فتى جبل العوينات
أخبرني أبي أنّي وُلدتُ في جبل العوينات
جبلٌ لم أره إلا في بطاقة بريد إيطالية قديمة
جبل ماؤه يأتي من مطرٍ شحيحٍ، وكثبانه تتغير كالحرباء
ليس فيه غير أشجار طلحٍ وسدر،
وشجر آخر لا أعرف اسمه، عيدانه تستاك بها نساء أركنو
حدّثني أبي:
كنّا، – أنا وأمّك – في سفر إلى أرض سودان
إلى بستان مانغو على مرمى حجر
وإلى وادٍ حيث أخوالك يرحلون بجمالهم
لكنّ بومة أخذتنا إلى سيف رملٍ قريب
لم تغب الشمس حين أطلقتَ صرختك
وانساب على الرمل ماءٌ عطشان
أنت، يا من يقف على قبري
ألا ترى، كيف تتسلّلُ الروح سهلةً رخيصةً
قبالة الأبيض المتوسط؟!
فتى تِجرْهِي
أنا الطفل الذي عبر رمال عِرق الإدريسي
في قافلة من خمسين جملا.
دليلنا رجلٌ من هاقار أسود كحجارتها.
لم أرَ في حياتي كلّها شمساً مثل شمس ذاك العِرق
ولا قمراً أجمل من قمر ذاك العِرق
حين أمسكتُ برمله انساب بين أصابعي
أشفّ وأخفّ من الريح
أنزلتني أمّي لتلمس قدماي ظلّ الكثيب
كان حنوناً كقلب دليلنا من أرض هاقار
ذاك الذي يكلّم نفسه في أول القافلة.
فتى القطرون
القوافل تأتي إلى القطرون من النيجر وتشاد والجزائر
تحمل معها الحالمين برؤية البحر في الشمال البعيد
تحمل الإبل والملح والذهب والبنادق المسروقة من عسكر فرنسا
لغطُ لغات شتّى في المدينة القديمة التي بناها المرابطون في القرن السادس عشر
لكن في وسط ليلها في بساتين نخيلها
تكاد تسمع لغة الأجساد المنتصبة وتشمّ عرق شهوتها العظيمة
أنا ابنها الذي رضع حليب إبلها وجرى بين كثبانها ثم خانها
في ردهات السياسة في طرابلس
سياسيون لا يرونني إلا سليل عبيد لا أسماء لهم.
فتى مرزق
أنا الراقد في هذا القبر
في مقبرة تطلّ على الأبيض المتوسّط
لم أتعدّ عامي العشرين
حملتُ بندقية على فوّهتها
يرفرف علمُ البلاد القديم
وقفتُ في نقاط التفتيش في طرابلس
كان حلمي أن أصير قبطان سفينة
أن أجلس مرّة ثانيةً
في صحن المسجد في مرزق
بطمأنينة شجرة التين الهرمة
أبي قيّم الجامع الكبير
أمّي تبيع التبغ والحنّاء في سوق مرزق
أخي يطرب الناس بأغاني المرزكاوي
في بنغازي ودّان وبشر
ألَسْتُ أنا الميّت الأحمق؟!
فتى وادي الآجال
في وادي الآجال، الوادي الذي لم ير مطراً أبداً
الناس صمتٌ تردّده الجبال
تأخذه الجنّ إلى كافها، يملؤون به كؤوسهم
وهم يتطلعون من أعلى جرفٍ إلى القادم المخدوع من أقصى الشمال
وادٍ قطعته الإبل محملة بالملح والعبيد والتوابل
تقطعه الآن عربات المرتزقة عليها أعلام أجنبية
وسبّابات تشير إلى ألف سنة سحيقة أو تزيد
القهوة ساخنة دائما في وادي الآجال
كذلك دموع أمهات القتلى في أبوسليم وترهونة.
فتى أوباري
لسنوات بِعتُ البصل في أوباري
البصل وليد التراب والحصى
البصل حارس القمر في تقلّباته
ينعس كما تنعس النخيل على حافة الوادي
الآن أنا في طرابلس في معسكر كئيبٍ
آكل شرائح خبز بالتن التايلاندي
البندقية في يدي لها رائحة عفنة
حُفر قبري مرتين
مرّة من جهة الشرق
ومرة من جهة الغرب
ليتني بقيتُ بائع بصل في أوباري!
فتى بلدة الغريفة
جئتُ من بلدة الغريفة وأنا ابن سبع سنين
إلى فندق بالمدينة القديمة – فندق الفزازنة –
مدينة لاطمة أزقتها باردة عتباتها
تسرج خيول ليلها على بحرٍ
عبرته سفن الغزاة
وعبره الخونة والجبناء
وقفتُ على ظهر مدرّعة في ساحتها
التي تدلّى من مشانقها
الشهداءُ الفقراء الطيبون العفيفون الكرام
هل تسمع نواح النساء الفقيرات الطيبات العفيفات الكريمات؟
الآن على أسوار القلعة تتدلّى صور
المناضلين الجشعين القادمين من بلدان الفرنجة
ومن أرض قبائل لم تجتمع إلا على جيفة أو غنيمة.
فتى حيّ سُكّرة، مدينة سبها
لا أعرف من أين جاء اسمها
لم يخبرنا أحد من معلمي مدرسة الانطلاقة
عن كيف تصبح مغني راب في سبها
وعن الجنود الفرنسيين في القلعة العالية
جاورتُ الموتى الخائفين في السدادة وفي بونجيم
عاينتُ كيف يكون الليلُ أملسَ
كيف يكون الميتُ، حجراً ملقى في مفازة خرساء
أنت أيّها الواقف أمام هذا القبر
تحت وسادتي أغنية راب لم أقلها!
فتى حي المنشية، سبها
في هذا الحي، كنا أصحاب حظوة
وكنا نكبر لنصير أفراد حماية للقائد
لكننا لم نكره من الآخرين أحدا
في البريقة سقط العديد منا قتلى
وأخذتنا أقدامنا إلى منافي
أسرفت في خيانتنا.
فتى الهضبة الشرقية – طرابلس
في طفولتي كنتُ أتبع أبي
نبيع البيض شتاءً
نبيع الجيلاتي صيفاً
وبثلاثة قروش تأخذني ورفاقي حافلة
إلى وسط المدينة – النظيفة –
نتدافع بأجسادنا الصغيرة
أمام شباك التذاكر بسينما الرويال
فقط لنصيح بأصوات عالية
دهشة وشهوة من مشية هند رستم
وبقرشين نأكل الكاكاوية في قراطيس صغيرة
ثمّ كبرنا، وكبرت الهضبة الشرقية،
لكن لم تكبر ليبيا أبداً.
منذ عقد من الزمان
بعضنا يرفع راية لقائدٍ ميت
بعضنا يرفع راية لملك ميت
بعضنا يرفع راية من زمن سحيق ميت
وكلّنا نرفع البنادق وأسماء الشهداء
لم نتوقف عن استبدال أسماء المقاهي والمطاعم والأحياء والشوارع
بأسماء إيطالية لافتة، وأسماء جنرالات إيطاليين وتُرك
فقط لنصدّق أننا في نشوتنا
حقّاً قتلنا القائدَ الملهم ملكَ الملوك.