إرهاصات التنوير في حركة الإصلاح الديني الأوروبية
تُعتبر حركة الإصلاح الديني في أوروبا من أهم الموضوعات التي أثّرت فـي تفـكـيـر الأوروبيين وحياتهم خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وما صحب ذلك من تأثيرات سياسية تسببت في حروب طاحنـة نشـبـت فـي القـارة الأوروبية. وقد سُميت هذه الحركة بالبروتستانتية بمعنى الاحتجاج ضد فكرة معينة، وقد ظهر استخدام هذه الكلمة لأول مرة بهذا المعنى عام 1529 حينما احتج جماعة من الزعماء الجرمان ضد المرسوم الإمبراطوري الذي كان يعارض التغييرات الدينية، والذي أمر بالتسامح إزاء القداس الكاثوليكي في كل أجزاء الإمبراطورية الرومانية. وهناك معنى آخر هو الإشهاد علـى عقيـدة أو إيمان، فمن واجب البروتستانتي أن يُشهد الناس علـى إيمانـه. ويُعـرف البروتستانتي الآن بأنه ذلك الشخص الذي يتبع أحد الكنائس التي تؤسـس عقيدتها على مبادئ الإصلاح الديني.
وتنبع أهم المعتقـدات والاتجاهـات البروتستانتية من التساؤل التالي “هل الغفران الإلهي أمر مباشر بيـن العبد والرب أم أنه يتطلب وساطة من الكنسية ورجالها؟”.
هذا هو السؤال الهام الذي بدأت منه حركة الإصلاح الديني وأجابت عليه بكل وضوح قائلة “إنه ليس من حق الكنيسة أن تمنح الغفران الإلـهي للناس، فالإنجيل ليس حكراً على الكنيسة ورجالها، إنه ملك للجميع”.
وقد تضافرت عدة عوامل على قيام حركة الإصلاح الديني الأوروبية نذكر منها ما يلى:
1- تدهور المركز الديني للكنيسة الكاثوليكية في روما: فقد رفض المصلحون الدينيون أن تكون الكنيسة هي وحدهـا وسـيلة الوصول إلى السعادة الأبدية، خصوصا بعد ما تفشى من روح الفساد فـي أوصالها، وما تغلغل في كيانها من انحدار وتدهور، وما ساد أركانها مـن بدع وخرافات. وبالفعل فقد اتجه رجال الكنيسة في روما في القرن السادس عشر نحـو الاهتمـام باقتنـاء الأراضي والممتلكات، فبدت عليهم مظاهر الثراء الفاحش، ولـم تكن بابوية روما وحدها هي مصدر كل هذا الضلال، وإنمـا انتشرت روح الفساد لكي تعم رجال الكنيسة في كل مكان، واستبدوا بالرأي والمشورة ومنعوا الناس من محاولـة فـهم وتفسير الإنجيل، فاستحوذوا على الدين كله بعد أن استحوذوا على الكثير من ممتلكات الدنيا.
2- العمل على التحرر من القيود التي فرضتها الكنيسة على حرية الفكر: حيث شاعت روح النقد، وظهرت شخصية الفرد كنتيجة من نتائج النهضة الأوروبية، فتحرر المفكرون من القيود الثقيلة التي كانت تفرضها الكنيسـة على حرية الفكر وحرية البحث العلمي، وسلطوا نور العقل والمنطق علـى الأنظمة التي خضع لها المجتمع، وفي مقدمتها الأنظمة الدينية.
3- موقف حكام ألمانيا في الوحدات السياسية العديدة المعادي للكنيسة الكاثوليكية في روما: كانت ألمانيا تعج بوحدات سياسية عديدة قد تجاوز عددها ثلاثمئـة وخمسين حكومة، وكان حكام هذه المقاطعات يرون أن سلطات البابا تحـد من حريتهم واستقلالهم، إلى حد فاق سلطان البابا في الدول الموحـدة ذات الحكومة المركزية مثل فرنسا وإنجلترا وغيرهما، لأن مثل هذه الدول كانت لا تطيق تغلغل النفوذ الأجنبي في بلادها تحت ستار الديـن أو أي سـتار آخر. وقد كان هناك أكثر من سبب جعل حكام الوحدات السياسية الألمانية يشجعون حركة الاصلاح الديني ويدفعون بها في طريق النجاح، ومن هذه الأسباب: الضرائب التي كانت تُجمع في ألمانيا باسم البابا وتُرسل حصيلتها إلى روما، حيث كانت للكنيسة أراض واسعة في ألمانيا تتمتع بالإعفاء الضريبي، كما كانت تذهب أيضاً لخزانة كنيسة روما أموال الأديرة وغيرها من المؤسسات الدينية في ألمانيا، هذا بالإضافة إلى اعتقاد حكام ألمانيا أن بابوات روما قد زجوا بأنفسهم في غمار السياسة الدولية، واحتضنوا مشروعات سياسية وعملوا على زيادة رقعة الولايات البابوية، الأمر الذي رسخ في عقول الحكام الألمان أن البابوية فقدت صفتها العالمية، وأن كنيسة روما أصبحت كنيسة إيطالية. ومن ثم ازداد الشعور في ألمانيا بـالمرارة مـن تسـرب الأموال العامة الألمانية إلى دولة أجنبية، ومن تغلغل نفوذ البابوية الأجنبـي في أرجاء ألمانيا، ومن ثم كان الترحيب ثم التأييد من قبل حكام ألمانيا لتلك الحركة الدينية التـي تزعمها مارتن لوثر (1483 – 1546) ضد كنيسة روما.
4- رغبة الكنيسة الجامحة التي استبدت بها للحصول على المزيد من الأموال بالتوسع في بيع صكوك الغفران: نشأت صكوك الغفران عن فكرة دينية روج لها رجـال الكنيسـة، مؤداها أن الإنسان إذا ارتكب خطيئة، ثم ندم على ارتكابها وتاب عنها، ثـم اعترف بها أمام القسيس، فإن مثل هذا الإنسان لا يدخل الجنة مباشرة بـل يظل فترة من الزمن، قد تطول وقد تقصر، في المطهر يلقى فيها نوعاً من العذاب حتى يتطهر تماماً من الذنوب التي اقترفها.
وكان تكفير المذنب عن ذنوبه يشمل أول الأمر ثلاثة أركان: الصلاة، والصـوم، والزكاة، ثم استعيض عنها بالحج إلى روما بحيث يؤدي المذنب التـائب مناسـك معينة، ثم استعيض عن الحج إلى روما بشراء صكـوك الغفـران، وأخـذ بابوات روما يرسلون مندوبين عنهم إلى مختلف الأقاليم في أوروبا الغربية لبيع صكوك الغفران، وأقبل الأفراد على شراء هذه الصكوك، كل حسـب مقدرته المالية، ووجدت البابوية في صكوك الغفران مورداً مالياً غزيـراً سهل المنال لا ينضب معينه، ومن ثم توسعت في عمليات توزيع الصكوك، وزعمت أن أثرها يمتد إلى الموتى، وقررت أن في استطاعة كل إنسـان حي له عزيز احتواه القبر، أن يشتري له نيابة عنه صكوك الغفران، وعنـد ذلك يغفر الله لهذا الميت كل ذنوبه ويدخله جنات الفردوس، مـهـمـا كـانت جسامة الذنوب والآثام التي اقترفها في حياته.
بل إن الكنسية في رغبتها الجامحة التـي اسـتبدت بـها للحصول على المزيد من الأموال بالتوسع في بيع صكوك الغفران، تناسـت ركنيين أساسيين قامت عليهما بادئ ذي بدء، فكـرة الصكـوك، وهما: توبة أو ندم المذنب، ثم اعترافه بذنوبه التي أرتكبها. فالمسألة إذن انتقلت من عملية دينية بحتة إلى عمليـة مصرفية لحمتها وسداها حصول الكنيسة على أموال ضخمة، وتحت سـتار ديني، بحيث بدت صكوك الغفران لكثير من المعاصرين وكأنها تذاكـر تبيح لحاملها دخول الجنة.
وبالرغم من أن هذه العوامل كانت دينية في ظاهرها، الا أنه لا يمكننا فصلها عن مجموعة من العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية، وحتى الاقتصادية، التي ساهمت وبنسب مختلفة، في ظهور حركة الإصلاح الديني في أوروبا ونموها وانتشارها، ومن ثم تفاعلها مع القوى المضادة.
كما أنه بالرغم من الطابع الثيولوجي الذي اتخذته الحركة في أول أمرها باهتمامها بعلاقة الإنسان بالله وبالطرق والوسائل التي تمكّن الانسان من الوصول إلى السعادة الأبدية في العالم الأخر، إلا أنها سرعان ما أثّرت بدرجات متفاوتة في المجتمعات الأوروبية.
فبعد حركة الإصلاح الديني، وكنتيجة لها صار هناك ملوك على رأس دول يختلف عدد كبير من سكانها عن دين هؤلاء الملوك. وحدث ذلك في عصر لا يزال يعترف بالاضطهاد الديني كممارسة مشروعة، بل وكجزء أساسي من واجبات الملـوك فـي المحافظة على الدين الصحيح.
ولم تكن هناك أيّ وسيلة يمكن أن تحافظ بها الشيع المخالفة، التـي يختلف دينها عن دين الملك، على وجودها إلا بادعاء أن لها حق التمـرد على هذا الملك، ولذلك فإنه برغم أن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية كانت ترفض بتاتا فكرة خروج الرعية، على طاعة السلطة، وتعتبر مثل هذا الخـروج كفراً، ورغم أن زعماء حركة الإصلاح الديني أكدوا باسـتمرار واجـب الخضوع نحو أيّ حركة حاولت التمرد على السلطة القائمة، فإن الشيع الكاثوليكية “في البـلاد التـي يحكمـهـا ملـوك بروتسـتانت”، والبروتستانتية “في البلاد التي يحكمها ملوك كاثوليك”، اضطرت إلى إعلان تمردها على السلطة القائمة حتى تحافظ على وجودها، وأرغمتها الظروف على الدعوة إلى نظرية عامة في الحكم، تتضمن قيوداً على الحكم المطلـق مستعينة في ذلك بكل الحجج الدينية وغير الدينية الممكنة.
ومع أن زعماء الشيع المختلفة لم يكن هدفهم الحقيقي هو الحد مـن السلطة المطلقة بمعنى الدفاع عن “الحريـة” كمـا نفهمـها الآن، أو نشـر “التسامح الديني”، كمبدأ قائم بذاته ، بل إن جميع الشـيـع الدينيـة – وبـلا استثناء – كانت تفرض سلطة مطلقة بلا حدود ومارست الاضطهاد الدينـي كواجب تمليه العقيدة عندما تستولي على السلطة في أيّ مكان، لا فرق في ذلك بين الكاثوليك والبروتستانت. إلا أنها مع ذلك وضعت ما يمكـن أن نعتبره أسس الحرية الحديثة والحكم المقيد، وعملت على إحياء الأفكار التي تدعم هذا التيار حيثما تعرض مذهب أيّ منها للاضطهاد من جانب المذهب الآخر، حتى أنه أصبح من الجائز القول إن الحرية هي نتيجة التنافس الديني، ولولا هذه الاختلافات الدينية لضاعت الحرية في ظل السلطان المطلق للملوك. فقد عملت الصراعات الدينية الأوروبية في النصف الثاني من القرن السادس عشر على تمهيد السبيل للثورات الديمقراطية في القرن السابع عشر ولعصر التنوير في القرن الثامن عشر.