إشكالية الوحي وعقدة رجال الدين
توماس باين هو أحد الآباء المؤسسين للثورة الأميركية وواحد من أهم الداعمين للثورة الفرنسية، وإلى جانب كونه ثوريا سياسيا كانت وجهات نظره وموقفه حول الأديان أكثر ثورية وقد وضعته في أزمات متكررة آخرها جنازته التي لم يحضرها سوى عدد قليل جدًا بعدما نبذه كل من يعرفه.
ولد توماس باين في بريطانيا عام 1737 ومر بالعديد من الوظائف من ضابط إلى صاحب عمل خاص انتهى بفشله الذريع ثم محررا صحفيا بعد انتقاله إلى أميركا بدعوة شخصية من بنجامين فرانكلين عام 1774 وهناك نشر العديد من المقالات التي توزعت حول إدانة العبودية وتحريض الجنود حول ضرورة الاستقلال عن بريطانيا وبذلك فقد أحبه الأميركيون في مقابل اعتباره خائنًا من قبل البريطانيين لمجرد أنه طالب باستقلال أميركا.
بعد حوالي 12 عاما عاد إلى بريطانيا وكان قد بدأ بوادر التفكير في الثورة الفرنسية فوقع في غرامها وقرر دعم أفكار الثورة بكل ما يملك وقبل الثورة بأربعة أعوام كتب “حقوق الإنسان” وقد دعا فيه إلى ثورة فرنسية دموية قوية ولهذا السبب اعتبرت بريطانيا إنه متطرف أو بشكل أدق إرهابي فتم سجنه وبعدها بعام غادر السجن بأعجوبة بعد نجاته من الحكم عليه بالإعدام.
توماس باين كرّس حياته من أجل الدفاع عن وجهات نظره سواء في السياسة أو الدين ولكنه اشتهر بشكل أوسع بسبب نقده للدين وتحديدًا بسبب كتابه المكون من ثلاثة أجزاء “عصر العقل” والذي انتقد فيه الدين المُهيكل وتحدى رجال الدين والمؤسسات الدينية، وكان السبب الأكبر في جعله منبوذًا بعدما كان رمزًا سياسيًا معروفًا.
الموقف من الدين
لم يكن توماس باين ملحدًا كما يشاع عنه إنما كان ربوبيًا وكما يقول “أؤمن برب واحد فقط لا أكثر”، كانت مشكلته الأولى والكبرى تتلخص في عدائه للمؤسسات الدينية ورجال الدين ولم يكن – في وقت مبكر – يؤمن بأيّ عقيدة سواء كانت يهوديه أو مسيحية أو إسلامية فعقله كان كنيسته الخاصة وكان دائم التأكيد على أن كل المؤسسات الدينية ماهي إلا اختراعات بشرية أنشئت من أجل تخويف الإنسان واستعباده وكذلك السيطرة عليه وعلى أمواله.
أكد توماس باين أن رجال الدين هم السبب الأكبر في الأذى الأخلاقي الذي يصيب المجتمع وذلك بسبب نفاقهم وحبهم للسلطة والمال، كذلك بشكل عام أشار للارتباط الخادع بين السلطة والدين الذي بدوره يمنع أي نقاش ويقطع ألسنة المستنيرين، وفي هذا السياق دعا إلى العلمانية التي لن تأتي إلا بالثورة على رجال الدين ليعود الناس بعدها إلى فطرتهم الإيمانية الصحيحة.
كانت أزمة باين وقتها هي استخدامه لعقله لنقد كل التراث الديني. فإن العقل بالنسبة إليه هو أكثر الأسلحة فاعلية ضد كل نوع من الأخطاء وكان يقصد بكلمة أخطاء كل قصة دينية وكل مصطلح ضد المنطق، والميزة في توماس باين أنه كان دائم الحفاظ على حق كل المؤمنين دون إعمال عقلهم لأنه يرى أنهم توارثوا هذه العقائد دون القدرة على التفكير فيها لكنه في المقابل كان يرى أن الشخص المؤمن بصفة شكلية دون اقتناع هو الكافر الحقيقي، فالكفر عنده لا يتعلق بالإيمان من عدمه إنما هو اعتناق الشخص لعقيدة لا يستطيع الإيمان الكامل بها.
الوحي عند باين
يرى توماس باين أن الوحي مجرد خرافة جماعية وقاصر على الشخص الذي يستقبل هذا الوحي وليس على الآخرين تصديقه لأنه ليس هناك أيّ دليل مادي يضمن صدق هذا الوحي، كذلك قارن بين الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام في فكرة وجود شخص واحد محوري يتواصل الرب من خلاله إلى باقي الشعوب مبررًا انتقاده لهذه الجزئية بأن معنى اختصاص الله لشخص واحد ليتحدث إليه فالطريق لم يكن مفتوحًا إلى الله بنفس القدر لكل إنسان على حد سواء وهو تمييز لا يقبل.
وبخصوص الوصايا التي يعرضها أنبياء ورسل الأديان من منطلق أنها وحي من الله يقول عنها باين إنها ليست دليلا على الألوهية فهي لا تتخطى كونها مجرد أخلاق حميدة يمكن لأيّ بشري وضعها وكذلك في الحديث عن السياق الأخلاقي انتقد باين فكرة وراثة الخطية ورأى أنه أمر غير أخلاقي في الأديان.
والخلاصة في نقطة الوحي عند باين أنه يرى أنه لا يوجد وحي بالمعنى المتداول والمعروف بل تتلخص كلمة الرب في الخلق الذي نراه وهي علامة واضحة لا يمكن تزويرها، فالله يتكلم عالميًا من خلال الإنسان وليس من خلال معتقدات معينة.
العقل الجمعي والمعتقدات
الثورية في أفكار توماس باين حول الدين وضعته في صدام مباشر مع الناس الذين لم يتقبلوا نقده أبدًا وفسر هو ذلك بسذاجتهم تجاه معتقداتهم محللًا ومفسرًا في كتابه “عصر العقل” أكثر من قصة دينية اعتبرها منافية للعقل والمنطق وربط بينها وبين الأساطير القديمة مستنتجًا أنهما مجرد وجهين لعملة واحدة.
انتقد قصة آدم وحواء وقصة طردهم من الفردوس ثم انتقد القوة الجبارة التي مُنحت للشيطان بعد هذا الوقت لدرجة التأليه ليكون فزاعة البشر في مقابل القوة الإلهية.
وقد لخص توماس باين ثلاثة وسائل استخدمت لفرضها على البشرية وفيها اتفق مع آراء سبينوزا وهي؛ الغموض، المعجزة، النبوءة. ويرى أن أي دين يشوبه غموض عقلي لا يصلح أن يكون دينا حقيقيا فالمعجزة والغموض مكملان لبعضهما، فأي شيء يستعصي فهمه على البشر يتم إرجاعه إلى المعجزة وهو أمر مغلوط؛ فالمعجزة يشير بها الناس إلى شيء يجهلوا أسبابه الحقيقية فيضرب مثال بأن الناس تقول على الإنسان الذي يطير في الجو إنه يصنع معجزة والحقيقة أنهم يجهلون أن هناك غازات معينه وأدوات يستخدمها هذا الرجل ليطير.
الله عند توماس باين هو إله الحقيقة الأخلاقية والخدمة الوحيدة للرب هي المساهمة في سعادة الخلق الحي الذي صنعه الله، كما يؤمن بالمساواة بين البشر وأن الواجبات الدينية لا بد أن تتمثل في تحقيق العدالة والمحبة والرحمة والسعي للسعادة، وتجنب الصراعات، فيقول توماس باين “إن كل معتقد يكفّر الآخر وأنا بدوري أكفر بهم جميعًا”.
توفي توماس باين عن عمر ناهز 72 عاما ولم يحضر جنازته إلا القليل من الناس بعدما قرروا معاقبته حتى بعد موته عن أفكاره الثورية تجاه معتقداتهم.