إصبع الذاكرة
.. قد تدهش بسر إصراري على تسجيل ﺇعجابي بعنوان النص الذي بين يديك “إصبع الذاكرة”، وأنا بدوري دهش وأتساءل؛ لماذا هذا الاختيار الغامض؟
ربما لأنه الإصبع السبابة الذي كثيرا ما نفر وبرز من كف أبي، نحو عيني، نحو بؤبؤ كرتي العينين. صغيرا كنت لا أفهم لماذا كل هذا الانفعال والغضب والإصبع مصوّب نحوي.. ثم فيما بعد فهمت أنه ليس للتحذير، بل لإصدار الأوامر الغامضة الغريبة، كأن يطلب مني إحضار كيسا قماشيا مرشوقا داخل شق في حائط الدار، ولمرة واحدة رأيته متلهفا على فتحه ولم ينتبه لوجودي بجواره.
فتح الكيس، تناول بعض الأوراق المالية، باللهفة نفسها حاول إعادته، لم يتمكن كما المعتاد، وانتبه لوجودي فرأيته المتردد بين تكليفي بإعادة الكيس مع غضبة جلية، بل رغبة في ضربي لأنني رأيت ببؤبؤ عيني الفلوس التي يرفض أن يعطيني منها شيئا.. فهو صاحب الرأي والحكمة في كل الأمور، ويرى أن الفلوس سوف تفسد أخلاقي. لا.. لا، برر برأي الأخلاق هذا فيما بعد. في صغرى كان بقول لأنني أشتري الحلويات من البقال، وهي سبب سقوط أسناني! فصدقته حتى أخبرتني الحكيمة في عيادة المدرسة، أنه من الطبيعي جدا أن يتم استبدال الأسنان اللبنية بالمستديمة في تلك المرحلة من العمر.
وجاء الوقت الذي كان فيه أبي يستخدم إصبعه في أغراض متعددة وفهمتها كلها مع صمت لسانه؛ كأن يطلب مني أن أحمل حملا اشتراه وأنا معه.. أو لكي يحذرني من فعلة يرفضها، ولم تكن أكثر من اللعب مع الصبية بالكرة الشراب أو حتى اللعب معهم “السبع طوبات” بالكرة أيضا، ولكن بدفعها من مكان ثابت نحو سبع صخرات متراصة ﺇلى أعلى، فلا عرق ولا تراب يصنع طينا تضطر معه أمي أن تستبدل جلباني لتغسله بالصابون، ما يعني تكلفة لم تكن في الحسبان، ويرفض محذرا أيضا.
جاء الوقت الذي نفر إصبعه نحوي قائلا “كله إلا جوازك من قمر بنت جارنا!”. وبدأ معي حكاية، لن أقصها عليك، قد أفسد عليك متعة قراءة قصة حب أرجو أن أكتبها قريبا، لم تقرأها من قبل، يكفي أن تخال جسدين لا ينفصلان ما دمنا معا في الغيطان أو فوق سطح الدار وحدنا.
من المعتاد في تلك الليالي البعيدة، منذ سنوات وعقود، كنت أراه غريب الشكل والأطوار، ومخيفا.
كان إصبعه يبدو مضيئا في ظلمة الليل، متجها نحوي وأنا نائم أغط في سبات عميق، وهو إلى جوار سريري، ولا أرى منه إلا الإصبع! قد تسألني كيف تعرفت عليه؟ أجيبك؛ بقدراتي الغامضة التي أملكها ومارستها دون أن أدري، بانت جلية لي ولكل من حولي إلا أبي، إنني أملك ملكات نادرة! فيما بعد أخبرني شيوخ القرية الكبار أنني ورثتها عن أجدادي وليس عن أبي.. المدهش العجيب أنهم ينطقونها همسا ويرفضون البوح بها في حضرته. فلما نبت الشارب الأخضر فوق شفتي العلوية، وقفت فوق السرير فشعرت أنني أصبحت قريبا من سقف الحجرة وأطول منه أكيد، مددت إصبعي السبابة نحوه، حقا لم يضيء كأصبعه، لكنني شعرت به يتوجه وحده إليه إلي عينيه، ولا يعنيني كثيرا لو كان يراني أو لا يرى. المفاجأة أني تأكدت أنه يراني في العتمة، وإلا كيف شعرت بقبضة يده تلتف حول إصبعي ويديره حتى توجه نحو عيناي عنوة.
بعدها ما كانت من مصيبة أو حادثة هينه تغضبه إلا ويؤكد أنني وراءها والسبب الخفي الظاهر لها.. ممكن يبدو الأمر مصادفة لمرة أو أكثر قليلا، ولكن كيف أكون وراء انحسار مياه الترعة ولا يتمكن من ريّ الغيط والزرع.. لأنني وش نحس، فقط لأنه قابلني عند الباب وهو في طريقه للري! بمضي الأيام والليالي تأكد أبي أنني أمتلك الصفات والقدرة على أفعال لا تتوافر مع غيري مجتمعة، فردد عني للقريب والغريب.. ﺇنني نحس الطالع، غبي التفكير، عاجز اللسان بعد أن تملكتني الثأثأة، لسنوات طويلة.
رويدا بدأت أمتلك رباطة الجأش صغيرا، وتملكتني القدرة على التغافل ولا أقول الصبر، لولا أنني نجحت، أعني اعتدت تجاهل إصبع الرجل ليلا، وهو بجوار سريري، وهو يحوطني أينما كنت في يومي.
الفضل كله يرجع للقط الرشيق الرمادي، الذي يبدو ليلا أقرب إلى السمرة ويمكنه التخفي، بينما يبدو مع نور الشمس بلون تراب الطرق.. هو القط أو الكائن أو الشيء الوحيد الذي أمتلكه في هذا العالم، ولا أمتلكه في الحقيقة، فلا سلطة لي عليه، ولا حتى مقدرة على ﺇجباره لتنفيذ أمرا من لساني ولا رغبة لي. لا تظن أنه لا يفهمني ولا يعرف تفاصيل مقاصد أوامري له.. الملعون ينتبه جيدا إليّ، وعندما أنتهي من مهمتي يدير رأسه بعيدا، مكتفيا بأردافه المكتنزة كأرداف أنثى بشرية يهز طرفيها بينما شواربه تعلو وتهبط، ولا أفهم ماذا يعني الملعون؟ بتعبير آخر ما كنت أمتلك من عطاء الله ﺇلا أنفاسي.
لا أستطيع أن أنكر أنني أدرت مع القط حوارا من غير كلمات الأبجدية.. كأن أحرمه من تناول إحدى وجباته عمدا، وقد أحبسه بلا ماء ولا طعام، ربما ما كنت أضربه ولكنني كنت أقسو عليه عمدا أيضا حتى لا تغدر به الأيام والليالي، ويستطيع مواجهة الناس وحده عندما يسير في الشوارع يلهو، أو وهو يصيد الفئران، وبهدوء تمكنت من نقل خبراتي مع ﺇصبع أبي ﺇليه، وأصبح ﺇصبعي أكثر كفاءة، وله قدرات تفوق ﺇصبعه المكتنز المرتق المصبوغ بالبقع غامضة الألوان.
أصبحت العلاقة بين ﺇصبع أبي وعيني والقط في تشابك دائم، ولا تسلني كيف ومتى ولماذا هذا الاتصال والانفصال.. دعني أقص عليك ما حدث مع القط الرمادي الترابي اللون والكئيب الطلعة.
دليل نجاحاتي مع القط أنه أصبح ماهرا بفضل تشجيعي وأوامري، فتمكّن من أن يصيد كل ما يحلو له من الفئران، وبأعداد كبيرة متعددة الأحجام، ببساطة غريبة وبشجاعة أغرب، وهو ما أضاف ﺇليّ صفة لم أكن أدريها. بمضي الوقت تبادلنا الخبرات، تعلمت اقتحام الصعاب ومواجهتها ببساطة التنفس.. مثله، فقد كان خبيثا وﺇلا لماذا لا يبدو متحفزا ولا حتى منتبها وهو في اتجاه قنص الفأر، بينما تدور في رأسه خطة للقنص محكمة.. لم يكن خبيثا فقط، كان شرسا فظا أيضا، حتى أنه بقفزة ماهرة ينقض بأظافره انقضاضا ولمرة واحدة، لا يبدو بعدها الفأر كائنا حيا، أصبح وجبة ثمينة.. بمضي الأيام لا أدري ماذا جرى للفئران كلها وليس لمن ولد وكبر أمام عيني؟ كل سلوك ونظرات الفأر بدت لي – فيما بعد – أنه لم يعد يخاف القط الترابي ولا كل القطط! ظاهرة أقسم بصدقها. خلال تلك الفترة لم أر في ﺇصبع أبي كونه كتلة لحميه تكسو عظاما، ليس أكثر من ثلاث عقل مكتنزة، سمراء اللون، خشنة الملمس، متشققة.. ببعضها بقع غامضة اللون؛ فلا هي بلون الأصبع، ولا هي داكنة متميزة، أؤكد لك أن بالأصبع ما يثير الريبة ففي مقدمته جزء مبتور، كأن الجن أمسك بساطور حاد النصل ومزق منه قطعة على غير استواء.. الغريب العجيب أن رأيت الجزء المتبقي من الظفر، ينمو بإفراط حتى بعد أن ذهب ﺇلى الطبيب، وأنا غير مشفق عليه، أخال بقية أيامه معي وأيامي معه أو أيامنا معا قبل أن نفترق بلا ضجيج لأصبعه الملعون.. هيهات.
تنمر الطبيب كما القط صديقي وكما أفكر، وقبل أن يعرف سبب زيارتنا العيادة، وقبل أن يفحص أبي ويسأله عن شكواه، ﺇذا به يقول بكل الثقة والعنجهية “لا حل لشكواك ﺇلا البتر”!
بدت الدهشة جلية على سحنتي وأبي، فتابع الطبيب وحده “أنا أشم العلة المرضية من على بعد أمتار، فورا عرفت أنك أنت المعلول!”. تابع بكل الهدوء والبساطة مع بسمة بلغت زاويتي فمه حدود حرشفة أذنيه قال “نبتر الإصبع فورا والآن.. وﺇلا نال المرض بقية الجسد وتسللت سموم الكائن الغامض الذي نجح في اقتحام ﺇصبعك.. وهو وراء قراري ببتر الأصبع”.
دهشت في أول الأمر واقتربت من أذن الطبيب، أخبرته أن أبي لا يعاني من مرض السكري.. لم ينتبه، فعدت وطلبت منه أن يتأكد بإجراء التحليل؛ الآن وفورا.. “سوف يرشدك ﺇلى الحقيقة التي تغفلها يا سيدي”.. لم ينتبه! “ما رأيك ﺇذن في ﺇعادة الفحص بأخذ عينة خلوية، أعني التقاط بعض الخلايا الجلدية والعضلية وكل ما يمكن التقاطه من الأصبع وفحصة تحت المجهر!”.
هنا رمى الطبيب ذراع أبي وليس الإصبع فقط، ألقى بكل الذراع حتى ارتطمت كف أبي بفخذه، ثم نظر نجوي هذه المرة وقال “خذه عندك في الحارة التي تقيم فيها، وعالجه بحبوب العطار وبصاق شيخ زاوية الصلاة عند رأس الحارة”. لم أتردد، دفعت أبي من تحت ﺇبطيه حتى ينهض، تقدمنا معا نحو الباب الخشبي الذي كان مطليا باللون الأبيض، فلما بلغته شعرت بالرغبة في سماع ﺇجابة عن سؤال راودني حالا: كيف عرف الطبيب العجوز أننا نقيم في دار متهالكة داخل تلك الحارة المتربة؟!
فورا عدت، أدرت رأسي نحو الطبيب وحدقت نحوه، تأكد الرجل دهشا من حجم العدوانية التي حفت بأبي المطلوب بتر ﺇصبعه، وبشخصي بسبب تلك التكلفة المالية المتوقعة، مؤكد وأكيد لن تكفي الوريقات في سترتي من سد احتياجات تكاليف العملية الجراحية.. لا أدري كيف التقط الطبيب الخبيث ما دار في رأسي ولم أتفوه به.. المفاجأة لم تكن في أنه فهم، بل لأنه عبر عن سعادته بإجراء العملية دون مليم أحمر.. قالها وهو يغمز لي بجانب عينية الاثنين، ولا أدري كيف امتلك تلك المهارة النادرة.