إعادة هيكلة القيم
كل اختراع إذن جزء من احتياج، وكل احتياج هو بالضرورة جزء من ثقافة ما يعبّر عن مجموع قيمها أو عن بعض هذه القيم، ولأننا نعيش عصر الثورة المعرفية والرقمية، فإن المنجز الجديد يتجاوز سريعا بلد المنشأ ويهاجر إلى بلاد أخرى وثقافات أخرى لا تعرفه ولم تفكر فيه يوما، وقد تكون في غير احتياج إليه، أو تحتاجه بقدر أقلّ وبما يخدم أهداف مؤسسة معيّنة أو شريحة محدودة من مجتمعها.
كل المنجزات سواء في الأهمية، ولكن الاختراع الذي يتجاوز فئة معيّنة إلى جماهير الناس، الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، كما هو الشأن مع الهواتف النقالة، فهنا نكون إزاء اختراع عظيم الأثر، وهو بالتأكيد يتجاوز دوره الوظيفي الذي يتعلق بالتواصل أو الاتصال الإنساني إلى أدوار أخرى ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية وقيميّة.
ويمكننا أن نفترض -مثلا- أنّ الحاجة إلى التواصل الإنسانيّ والعلميّ في مجتمع حداثيّ معقّد، تعلو فيه قيمة الوقت وسرعة الإنجاز كانت وراء اختراع الهواتف النقالة. يمكننا بالتأكيد أن نفترض ذلك، ويمكننا أن نتساءل عن الأثر الذي سوف تحدثه هذه الهواتف في مجتمعات مغايرة وثقافات مغايرة… ولكن الملاحظ أنّ هذه الهواتف اليوم تجاوزت هذه الوظائف الأولى التي قد لا نختلف حول أهيمتها إلى وظائف أخرى أحدثت جدلا وتغيّرا كبيرين في كل مكان انتقلت إليه من بلد المنشأ إلى غيره من البلدان.
لقد صارت هذه الهواتف وما اتصل بها من برامج تواصلية كالفيسبوك وتويتر…. إلخ أيقونة العولمة وإحدى أدواتها وتجلياتها، فلم يعد الحديث عن كون معولم مجرد كلام وإنما غدا حقيقة ملموسة يعيشها الكبار والصغار لحظة بلحظة، لقد غدا العالم على اختلافه “مجتمعا في شبكة”، كما يقول عالم الاجتماع Castells، وإذا قلنا العولمة فهذا يعني -بالضرورة- التدفق المعلوماتيّ بكافة أشكاله وصوره، كما يعني أننا إزاء كون منفتح تلتقي أطرافه على ما بينها من تباعد في الجغرافيا التي لم تعد ذات أهمية… لقد أثَّر هذا بشكل واضح على حالة الثبات والسكون التي شكلت وعي مجتمعاتنا قرونا عدة، وعلى كافة المستويات الدينية والاجتماعية والسياسية… إلخ. بحيث يصح القول: إن هذا الاختراع أحدث هزّة كبيرة في هذه الثقافة، فقد تراجعت حالة الثبات لصالح قيم التمرّد والحراك والتفكير في المسكوت عنه، أو التفكير بصوت جهوري في ما كان يفكر فيه على نطاق ضيق.
لقد بدا الأمر وكأننا نعيش حالا من التمرّد المستمر على كل شيء، بالتأكيد يمكننا أن نتحدث عن حالة من الشوشرة واضطراب الرؤية، وهذا بديهي بالنسبة لثقافة وجدت نفسها -على غير موعد- في مواجهة مع قيم العصر، فكان عليها أن تسلك أحد سبيلين، إما أن تنخرط في عصرها وإما أن تلوذ بما عرفته واستقرّت عليه قرونًا عديدة، وهذا بالفعل ما كان؛ فقد انخرط فريق منّا في الدعوة إلى التغيير الواسع، وتغذية حسَّ التمرد متماهيا بذلك مع حراك اجتماعي ثوري دعا إليه بالأساس جيل تفتّح وعيه على ثقافة الهواتف النقالة وامتدّ أكثر فأكثر موجّها نقدا موسعا لأخص ما يميز هذه الثقافة وهو خطابها الديني الذي يعود إلى القرون الأولى للإسلام، وذلك في مقابل فريق آخر يحارب هذه الدعوة ويعتبرها مروقا، ويبث أفكاره تلك عبر البرامج التي أتاحتها الهواتف النقالة أيضا.
بالتأكيد يمكننا أن نتحدث عن قيم عالمية تدعو إليها هذه التقنيات وترسّخها ليل نهار، ويمكننا أن نتحدث في الوقت نفسه عن شكل من المقاومة والنزوع الهوياتي الذي يعتبر هذه القيم عدوانا على ثقافته، وهذه المفارقة تحتاج إلى مقاربة أخرى، فالملاحظ أن كل انفتاح تفترضه العولمة يقابل بنقيضه، وهو الاستغراق في المحلية والمبالغة في ذلك، وهذا لا يقتصر على الثقافة العربية، وإنما يتسع ليضم كل أشكال الثقافة ذات الطابع المميّز أو التاريخ الطويل، فكل حديث عن العولمة يستدعي بالضرورة الحديث عن المحلية، ليس باعتبارهما ضدين متقابلين، وإنما باعتبارهما حضورين متزامنين.
لقد تجاوزت الهواتف إذن فكرة التواصل الأولى بين إنسان وآخر، أو بين أفراد العائلة؛ فنحن نتحدث عن قيم جديدة وتوظيف جديد يعمد إلى خلق وعي مغاير للسائد، لنقل إذن إننا إزاء حالة من الجدل تعاد بها ومن خلالها هيكلة منظومة القيم التي سوف تسفر -بلا شك- عن واقع جديد، لن تجدي كل محاولات تهجينه والسيطرة عليه، وهذه الحالة من الاضطراب والشوشرة لن تستمر طويلا إزاء هذا الانفتاح المعرفي والتغير القيمي الذي تبثّه هذه الهواتف كل لحظة، فالواضح أن الواقع يتغير بشكل كبير لصالح الانفتاح خصوصا مع الأجيال الأصغر سنّا.
فإذا تركنا هذا الجانب ذا الطابع العام إلى متابعة تفصيلة صغيرة مما أحدثته الهواتف الذكية، وهو الجانب المتعلق بالتواصل الفردي، يمكننا أن نتابع بعض تجليات هذا التواصل وقدرته على إنارة الجوانب المعتمة التي لا نريد أن نراها في مجتمعاتنا؛ فقد منحت هذه الهواتف الإنسان (الذكر والأنثى) الفرصة واسعة للتواصل والبوح والكشف والخوض في ما لم يكن مسموحا الحديث عنه.
يمكنك -مثلا- أن تتابع مع رسائل الهواتف وبرامج التواصل الجانبَ المعتّم في الطريقة التي تتكوّن به الأسرة في مجتمعاتنا، لقد حملت إلينا الهواتف أنّات هذه الأسرة وأوجاعها، وكشفت لنا مساحة البوح ما يمور به باطن الأسرة من قهر واضطرار وعجز عن الحياة الحرة، بداية من الطريقة التي تتكوّن بها، وهيمنة العشوائية عليها تارة والتسلّط الاجتماعي تارة أخرى، فتنشأ الأسرة نشأة مضطربة، تنعكس سلبا على الأبناء فيما بعد… كل هذا كشفت عنه الهواتف، وأخرجته إلى السطح، في صورة قضايا اجتماعية إعلامية حينا، وفي قاعات المحاكم حينًا آخر… وكأنها وضعتنا إزاء مرآة معظمة ترينا فيها ما لم نكن نراه، أو كنا نراه ولكنّا لا نحب أن نواجهه أو نتحمل مسؤوليتنا كاملة عنه.
فليس صحيحا أن الهواتف ساعدت على تفكيك الأسر في مجتمعاتنا، كما يذهب إلى ذلك فريق من الدارسين الاجتماعيين، وإنما الصحيح أنها كشفت لنا هذا الجانب المعتّم، وأنها وضعتنا إزاء البناء الهشّ الذي تقوم عليه مثل هذه المؤسسة، وهو ما يحتاج منّا إلى وعي اجتماعي جديد، بخطورة تكوين الأسرة على نحو عشوائي، وخطورة التخلّي عنها وعن مخرجاتها -الأطفال- باعتبارهم أبناء المجتمع في الوقت نفسه، وهو ما يستوجب منه العناية بهم نفسيّا واجتماعيّا في كل الأحوال.
بالتأكيد سوف تتطوّر الهواتف أكثر فأكثر، وسوف تنتشر القيم العالمية معها أكثر فأكثر، وإذا كان ذلك قد أوجد المحلية بجوار العالمية، أو العالمية مجدولة بالمحلية فإنه لا يعني الخوف من الهواتف، ولكنه يفرض علينا مواجهة أنفسنا بمشاكل واقعنا، وأن قيمنا المحلية أو حتى الدينية لا تتعارض بالضرورة مع قيم عالمية إنسانية رحبة.