إغماءة العائد بالتفاحات
تدحرجت حبات التفاح بين أقدام المارّة؛ فقام أحدهم بالتقاطها قبل انضمامه الى كتلة المحتشدين حول ذلك المسكين الممدد على الأرض. كان هاشم يشعر بدوخة في رأسه قبل أن يفقد توازنه وينفلت كيس التفاح من يده، وفي الوقت المنتظر لوصول سيارة الإسعاف تلقت دورية الشرطة المتوقفة عند زاوية الشارع عدة ملاحظات من الأشخاص المجتمعين فوق رأس المغمى عليه، فمنهم من أكد تعرضه لنوبة قلبية ومنهم من ظن بموته، أما الشكوك الأكثر غرابة فكانت حول تعاطيه المخدرات؛ حيث ذكر أحدهم بأن الصريع شوهد من قبل وهو يترنح وسط الشارع في مكان قريب من سوق الخضار.
في ذلك اليوم المشمس من شهر شباط – فبراير، قام أحد أطباء المشفى بفحص المريض الذي أفاق من غيبوبته حيث طرح عليه بعض الأسئلة الروتينية ثم تركه ليرتاح، وقد اتضح أن هاشم كان يعاني من نوبات عصبية تجاوزت حدود قدرته على التحمل وأضعفت قدرته على الكلام أو التصرف بشكل طبيعي، وعند حلول المساء وبعد التأكد من استعماله المفرط للعقاقير المهدئة قرر الطبيب المشرف تحويله إلى قسم الأمراض النفسية والعصبية.
عند وصوله إلى هناك؛ وبعد فترة مراقبة أولية تم إرساله إلى الإقامة في غرفة مجهزة بأربعة أسرّة. كان الهدوء يسيطر على أروقة القسم وقد أضفى السكون المحيط ارتياحا في نفس الشاب ذي الأربعة والثلاثين عاما، لكن وبعد مرور بضعة أيام تحولت تلك السكينة في داخله إلى حالة من الخواء المفزع، فقد تبين له أن مكان إقامته لم يكن سوى سجن صُنعت جدرانه من أدوية تُعطى كل صباح ومساء لإبقاء المرضى شبه مخدرين أو من دون حراك تقريبا.
كانت الغرفة التي استقبلت هاشم تضم شخصين آخرين، الأول رجل عجوز اعتاد التحدث مع نفسه ليلا بعد أن ينام الجميع؛ وفي النهار كان يدفن كامل جسده تحت غطاء السرير كي يتوارى عن الأنظار، أما السرير المقابل فكان يشغله شاب شديد النحول لا يتكلم أبدا؛ لا في الليل ولا في النهار، حيث يقضي وقته في الغرفة محدقا عبر شباكها المطل على أشجار الكينا، وعندما حاول هاشم التحدث اليهما اكتشف أن العجوز لا يريد التكلم مع أحد في المشفى، وقد فهم أيضا أن الشاب النحيل الذي يبدو كالشبح لا يستجيب عموما الى حديث البشر؛ لكنه يفضل التواصل مع الطيور والحشرات أثناء خروجه إلى الحديقة الخارجية حيث ينفق وقتا طويلا في رصد حركة أسراب النمل بين الأشجار المحيطة بالمكان.
عند ظهيرة أحد الأيام كان هاشم يغفو في سريره حين شعر بحركة داخل الغرفة، وعندما فتح عينيه وجد رجلا أصلع مع لحية خفيفة بدا في الخمسين من عمره، كان الرجل يتحرك ببطء في المساحة الخالية بين الأسرّة وقد ظهر بأنه على دراية مسبقة بالمكان، وعندما لاحظ أن الشاب أصبح منتبها لوجوده بادره بالحديث قائلا:
– انظر كيف وصل الحال بنا!
عندها تأمله هاشم لعدة ثوان ثم رد عليه قائلا: أي حال تقصد؟
– هؤلاء المتواجدون هنا، في الحقيقة لا أستطيع الكف عن النفور منهم كل صباح؛ لكني أعود لأتعاطف معهم في المساء، وليس ثمة فرصة للتأكد فيما إذا كانوا ظالمين لأنفسهم أم مظلومين!
فقال هاشم بنبرة لا تخلو من السخرية: ولكن أليس الحال هو ذاته في الخارج أيضا..
أجابه الخمسيني: نعم صحيح، للجنون أشكال متعددة، ولكن لماذا أحضروك إلى هذا القسم؟
– ربما لنفس السبب الذي قادك إليه…!
– لا أظن ذلك، فأنا مجنون بالوكالة عن الناس في الخارج، تستطيع القول إنني مجنون عاقل، بكل الأحوال لا بد من سبب معقول دفعهم لإرسالك!
رد هاشم قائلا: هل هذا معقول!
– ماذا تقصد؟
– قولك بأنه “لا بد من سبب معقول دفعهم لإرسالي”!
– لست متأكدا.
– إذن لماذا قلت بأنه “لا بد من سبب معقول”؟
– ربما السبب غير معقول بالنسبة إلينا، لكنه معقول بالنسبة إلى الناس في الخارج!
فقال هاشم بعد أن استوى في جلسته: ولكن هل الشيء المعقول يوجد في ذهننا أم أذهان الناس؟
أجابه الخمسيني: لا أعلم، في الحقيقة لست متأكدا من شيء. ثم همّ بالخروج من غير وداع.. أو كلمة إضافية.
بعد انقضاء أأسبوعين على تواجده في ذلك القسم، قرر الطبيب المشرف إنهاء إقامته نظرا لتحسن حالته الملحوظ تزامنا مع تناول الأدوية – التي كان هاشم يتخلص منها سرا – منذ اليوم التالي لاستضافته. في تلك الفترة كان يلتقي مع الخمسيني بشكل متكرر، لكنه لم يبادر في سؤاله عن اسمه؛ ربما لكونه الشخص الوحيد الذي ينخرط معه في حديث حقيقي داخل أسوار المشفى، وفي اليوم السابق لمغادرته التقى هاشم مع رفيقه الذي يظهر دوما بشخصية مهذبة وقميص أزرق مكوي بعناية. كان مقعدهم الخشبي المفضل في الحديقة الخارجية يتيح لهم مراقبة ذلك الشاب (الشبح) وهو يقوم بإطعام أسراب النمل، وبعد انقضاء نصف ساعة على جلستهم ورد نبأ وفاة العجوز الذي يشارك هاشم غرفته والذي كان يغطي وجهه سلفا في سريره، وقد أخبرهم أحد العاملين في القسم بأنهم نقلوا الجثمان الى المشفى العام، فقال هاشم بعد دقيقة صمت عفوية:
– على الأقل.. انتهى من حدة نقاشه الليلي.
– أجل، رد رفيقه.
– لم أستطع اكتشاف الطرف الآخر الذي كان يحادثه!
أجابه الخمسيني: ليس من السهل معرفة ذلك.
– هل تظن بأنه كان يستطيع التوقف أو تجنب ذلك الصراع قبل موته؟
– في الحقيقة كان في صراع مع عقله وليس شيئا آخر. بالطبع تتواجد دوما فرصة ما؛ لكن يبدو.. أنها فاتته.
في تلك الأثناء كان الشبح الذي يراقبان تصرفاته خلال جلستهم يتقلب بخفة فوق العشب وهو يتأمل وسع السماء وربما بعض الغيوم التي تعبر من فوقه، وقد بدا الجو ميالا للاصفرار بالتزامن مع هبوب رياح معتدلة، فقام الخمسيني بسؤال هاشم: ماذا ستفعل بعد خروجك من هنا؟
– لا أدري…!
– هل تشعر بتحسن؟
– نعم ولا.
– في الحقيقة كنت أقصد بسؤالي “ماذا تريد من هذه الحياة”؟
أجابه هاشم: أريد أن أكون حياً.
فقال الخمسيني: وهل العقاقير التي كنت تتناولها.. تفيد ذلك؟
– كلا، إنها مجرد ارتياح زائف
– إذن ستتخلى عنها؟
– لا أعلم، لكني لا أفضل الحلول المؤقتة، ربما الشفاء يحتاج إلى نوايا حقيقية.
فتساءل الخمسيني: وهل تحتفظ بشيء من تلك النوايا؟
عندها سكت هاشم لبرهة ثم رد قائلا: أعتقد أننا نحتاج إلى الهّمة من أجل بلوغ مقاصدنا، وبكل الأحوال أرغب بالتخلص من ضجيج الأفكار في عقلي، هذا كل شيء.
في تلك الأثناء شعر كلاهما بأن الوقت الذي جمعهم قد انتهى وأن حوارهم الأخير كان بمثابة كلمات وداع أخيرة، فنهضا معا ثم تحركا بخطوات بطيئة ومتوازية باتجاه مكان استلقاء الشبح الذي كان يجذبهم طيلة الوقت بطريقة غامضة. وعند اقترابهم منه لامس امتداد ظليهما جسده المسترخي فوق العشب، وقد بدا أنه مستغرق في تأمله، وغير آبه لوجودهما، أو لشيء آخر.