إيجاز بسيط لتاريخ خطير
زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في باريس، الذي قدّم للكتاب فإن هذا العمل “يوجز دون تبسيط تاريخاً خطيراً، ويوفر لطلاب العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط المعاصر نصاً يضاف إلى النصوص المختصة بالمنطقة، مع فارقين: واحد مرتبط بكمّ المعلومات المعروضة بسلاسة وغنى الإحالات إلى مراجع وأعمال تؤمن زاداً بحثياً ومعرفياً غنياً ومتنوعاً، وآخر يستند إلى تجربة الكاتب”.
يبدأ كتاب (تطور المجتمع السوري: 1831 ـ 2011) الواقع في 375 صفحة، بمقدمات تأسيسية موسّعة عن انهيار السلطنة العثمانية والثورة العربية الكبرى والانتداب الفرنسي على سوريا والنضال الوطني ضدّه، وصولاً إلى الجلاء والاستقلال، ويتعمّق بتلك المرحلة التي نشأت خلالها كتل وطنية بأبعاد قومية، وأفرزت نضالات عسكرية وأخرى سلمية، وترافقت مع كثافة بالاتفاقيات الدولية والتغيرات الداخلية العميقة.
تلك المقدمات التي تأخذ نحو نصف حيّز الكتاب تُمهّد للنصف الثاني الأكثر أهمية برأي الكثيرين، حيث فترة ما بعد الانتداب الفرنسي وقيام الدولة السورية، وتبلور ملامح الحياة السياسية والاجتماعية السورية، وبدء الصراعات السياسية والانقلابات العسكرية المتتالية، والوحدة مع مصر، والاصطفافات والخلافات والتحالفات بين العسكر والأحزاب والزعامات المحلية التي أدّت لأن يهيمن حزب البعث على المجتمع والدولة والسلطة، هيمنة وصفها الكاتب بأنها “انتداب ثانٍ”.
يقسم الكاتب مرحلة البعث إلى ثلاث مراحل، تخللتها تبدلات في القيادات وفي الهويات المناطقية والطائفية للضباط البعثيين، ومن ثمّة تبدلات وتغيرات قسرية في كل القيادات السياسية، وخلخلة للنظام الاجتماعي لصالح هيمنة طائفة ومن ثم أسرة واحدة على الحكم تحت غطاء البعث.
يستعرض الكتاب مرحلة حكم الرئيس حافظ الأسد وتأثيره على الحرب الأهلية اللبنانية، وعلاقته بإيران، والاتحاد السوفياتي ومن بعده روسيا، ومن ثم تطييفه الجيش والأمن، وصراعه مع أشقائه على السلطة وتأهيله لأولاده لوراثة الحكم، وهذه المرحلة بالذات هي من المراحل التي حاول الكثير من الكتاب السوريين تجنّبها لما كانت تحمله لهم من إشكاليات ومخاطر وتهديدات شخصية، غير أن الكاتب خاض فيها وبوقائعها بتوسعٍ معرجاً على الخمس عشرة سنة من حكم ابنه بشار الأسد ومن ثم السنتين الأخيرتين من الثورة السورية وتشكيل تنسيقياتها وتياراتها السياسية المختلفة وعسكرتها.
استعرض الكاتب هذه المرحلة وشرح أسباب نمو الفساد واستشرائه في الدولة ومرافقها بعد حرب 73، والقبضة الأمنية الحديدية التي أصبحت من أهم ركائز النظام وجزءاً عضوياً منه، مؤكداً على أن الفساد ليست ظاهرة متفشية على هامش تركيبة النظام بل في صلب تكوينه وسبباً جوهرياً لبقائه واستمراره، ويشير بهذا الخصوص إلى ظهور طبقة برجوازية جديدة اغتنت عبر الفساد ونهب المال العام، وكيف تضاعف عدد أصحاب الملايين خلال حكم أسرة الأسد وما تبعه من اتساع للهوة بين هؤلاء والغالبية العظمى من الشعب، وتأثير ذلك على انهيار قطاع التعليم العالي خاصة بعد أن أشرف عليه شقيقه رفعت الأسد، رئيس مكتب التعليم العالي، وقائد ميليشيا (سرايا الدفاع) الذي خرّب التعليم وأقحم آلاف الطلبة غير الجديرين في أهم الكليات العلمية.
كذلك يستعرض الكتاب علاقة النظام السوري السلطوية الإملائية ما بعد البعث بالمنظمات الفلسطينية، ورفعه شعار الصمود والتصدي والتوازن مع العدو الصهيوني كعنصر من عناصر شرعيته، ويتطرق في هذا الصدد لمفاوضات السلام مع إسرائيل، وموقف النظام السوري من اجتياح العراق للكويت وحرب الخليج، والتحسن السريع في العلاقة السورية ـ التركية زمن الأسد الابن ومن ثم انهيارها بنفس السرعة.
يُعرّج الكاتب على استراتيجية الأسد الأب المستندة لتنسيب هدد كبير من مضموني الولاء في حزب البعث، وتزيينه الحكم بما عرف بـ”بالجبهة الوطنية التقدمية”، وإقراره لدستور منحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية كافة جعلت منه شخصياً حاكماً بأمره ومن حزب البعث قائداً للمجتمع والدولة، وكيف حوّل تدريجياً سوريا إلى دولة أمنية تسيطر عليها فروع الاستخبارات وقوات الوحدات العسكرية الرديفة للجيش النظامي كالحرس الجمهوري والوحدات الخاصة ووحدات النخبة الموالين ولاءً مطلقاً، وإنهائه لعصر القضاء المستقل وحرية التعبير وتغييبه للعلاقة المتوازنة بين الفرد والدولة.
في الحقبة الراهنة يُوثّق الكتاب أيضاً محاولات تأسيس منتديات للمجتمع المدني وحلم بعض المثقفين لترسيخ حرية الرأي والتعبير، وكيف وأد الرئيس الجديد هذه المحاولات، كما يتعرض الكتاب لـ”ورطة” اغتيال الحريري في لبنان التي أجبرت القوات السورية على الخروج منه والقيام بتغييرات عسكرية داخلية أطاحت بالرعيل الأول لتستقدم شريحة جديدة أكثر فساداً وطائفية، وكيف أن كل المحاولات للانفتاح على المجتمع الدولي باءت بالفشل بسبب ممارسات النظام الداخلية وإشكاليات علاقاته الخارجية.
استند الكاتب في كتابه الصادر حديثاً عن أطلس للنشر والترجمة في بيروت، على كمٍ كبيرٍ من المراجع والأبحاث وضمّن الكتاب ملاحق ديمغرافية وجغرافية واقتصادية واستند إلى مذكرات كثير من السياسيين السوريين الراحلين، ويحاول أن يُقرّب تاريخ سوريا الحديث إلى القراء دفعة واحدة بأحداثٍ متسلسلة كثيفة مترابطة على مدة قرن ونصف دون تعقيدات أو محاولات لإخفاء حقائق أو أدلجتها.
وفق ماجد فإن الأتاسي في كتابه هذا تعامل مع التاريخ السوري بوصفه “ملكاً للسوريين”، فهو برأيه “يخرق الحظر المسدل على رواية الأحداث منذ 1970 من خارج سير النظام الرسمية، أي تلك النافية لوقائع والمستبدلة إياها بأخرى مخترعة أو مُحوَّرة لتناسب المشروعية المراد كسبها، وهو يعيد الاعتبار إلى مراحل من التاريخ (لاسيما مرحلة الخمسينات) سعى النظام بعد تسيّد البعث لطمسها والتقليل من شأن أحداثها ومدلولاتها، وهو في كل ذلك يضيف إلى المراجع العربية أو المكتوبة لمؤرخين عرب واحداً تغطي صفحاته المدى التاريخي الأرحب بعد أن كانت أعمال أسلافه ألبرت حوراني وفيليب خوري وحنا بطاطو وكمال ديب وآخرين معنية بحقبات سابقة أو متخصصة ومتوسعة في مراحل محددة.