ابن خلدون فيلسوف التاريخ
كتب ابن خلدون في مقدمة مقدمته يقول “أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتُشد إليه الركاب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدى لنا شأن الخليقة كيف تقلب بها الأحوال، واتسع للدول النطاق فيها والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق”.
في هذه الأسطر القليلة وضع ابن خلدون منهجاً في دراسة التاريخ، منهجاً حوّل التاريخ إلى علم، وليس مجرد سرد أحداث، وإخبار عما حدث في الزمان، وهذا معنى التعليل والنظر والتحقيق في تناول التاريخ.
يُجمع عدد من باحثي الشرق والغرب على أن ابن خلدون، في مقدمته، من أهم عباقرة فلاسفة التاريخ والعلوم الاجتماعية. وكلما عدتُ إلى مقدمته فإنها تزودني بأفكار تسمح بالتأمل والتأويل والتجديد.
وقد وصف فيلسوف التاريخ الشهير أرنولد توينبي مقدمة ابن خلدون قائلاً “لقد صاغ ابن خلدون في مقدمته فلسفة للتاريخ، وهي بلا شك أعظم ما توصل إليه الفكر البشري في مختلف العصور”. وقال فيها عالم الاجتماع الفرنسي إيف لاكوست بأنها “أروع عنصر من عناصر المعجزة العربية”.
ويندر في تاريخ المعرفة البشرية أن ينتقل شخص عاش تجربة الْمُلْك فاعلاً إلى عالم الفكر مبدعاً فيه، كما هي حال عبدالرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي.
أجل لقد عاش ابن خلدون المولود في تونس سنة 1332، والمتوفى في القاهرة سنة 1406، عصر الدويلات في الأندلس والمغرب العربي مدة طويلة من القرن الرابع عشر وعاصر الصراعات التي قامت بينها، والدسائس التي انتشرت بين حكامها، ورحل إلى مصر والشام. وشهد الغزو المغولي لها وأوفد للتباحث مع الغازي تيمورلنك لحماية المدينة من همجيته.
وبعد سنين طويلة قضاها مشتغلاً بعالم السياسة والمُلك خبيراً بأحوالهما، اعتزل ابن خلدون ذلك العالم بكل ما ينطوي عليه من صراعات ومؤامرات، وراح يشتغل بالتدريس والتأليف والقضاء بكل ما يختزن من معرفة بالفلسفة والتاريخ والفقه والأدب وأحوال البلاد والعباد. فألف عدداً من الكتب أهمها:
– لباب المحصول في أصول الدين.
– شفاء السائل في تهذيب المسائل.
– تلخيص مجموعة ابن رشد.
– تعريف مفيد في المنطق.
غير أن عبقرية ابن خلدون قد تجلت في مقدمة كتابه الأشهر “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” الذي انتهى ابن خلدون من كتابته سنة 1377 في قلعة ابن سلامة في الجزائر الآن.
والمقدمة هي الكتاب الأول من كتاب العبر. وتتألف من مقدمة في علم التاريخ وستة أبواب، وهي:
• الباب الأول: العمران البشري على الجملة.
• الباب الثاني: في العمران البدوي، والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من أحوال.
• الباب الثالث: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال.
• الباب الرابع: الأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال.
• الباب الخامس: في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال.
• الباب السادس: في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه.
وكل باب من هذه الأبواب ينقسم إلى عدة فصول.
وإذا كان الإبداع في العلوم الإنسانية يقوم على تأسيس مناهج في التفكير في الظواهر الاجتماعية فإن ابن خلدون في مقدمته قد أسس لأهم قواعد المعرفة الاجتماعية، حتى ليمكن القول بأنه أول من وضع أسس علم الاجتماع البشري العام وأول من حدد وشرح مفاهيم التاريخ الاجتماعي البشري والعمران والملك والعصبية والتحول. وليس هذا فحسب فإنه لم يترك حالاً من أحوال المجتمع إلا وكان له فيه قول من الجغرافيا والطبائع، إلى الصنائع والتجارة والفلاحة والعلوم، إلى الفقه وعلم الكلام والفلسفة، وإلى اللغة والآداب بأنواعها.
لمّا كانت المقدمة بالأصل مقدمة منهجية لكتابه في التاريخ، فإن أول ما خطه ابن خلدون متعلق بعلم التاريخ. فميز بين التأريخ وعلم التاريخ الذي سماه فن التاريخ. فالتأريخ هو سرد الوقائع أو ما يُعتقد بحدوثها وتحديد مواقيتها وقد يلعب الوهم والهوي في سردها. أما فن التاريخ فهو تأمل ونظر وبيان علل الحوادث وأسبابها، وتحرر من الانحياز والهوى والوهم والكذب. إذ لما كان التاريخ خبرا عن الاجتماع الإنساني والاجتماع الإنساني هو العمران البشري فيجب النظر إلى التاريخ بمقتضى قوانين العمران.
والسيرورة أسّ قوانين العمران، والعمران تغير وتحول ولا يجري على وتيرة واحدة، ولا يستقر على حال، فأحوال العالم كما يقول ابن خلدون اختلاف على الأيام والأزمنة، فكما يتغير الأفراد والأمصار من حال إلى حال، كذلك تتغير الأقطار والأزمنة والدول. وهذا ما سمّي في ما بعد بمنطق التاريخ الذي هو انتقال من مرحلة إلى أخرى وهو انتقال يتم وفق سنن العمران البشري.
وإذا كان الإنسان اجتماعيا بطبعة ومتميزا بالعقل ولديه من الحاجات الحياتية من مسكن وملبس ومأكل ما لا يستطيع أن يلبيها بمفرده، كما يرى، فإنه قد غذّ السير في طريق بناء الحضارة وإنتاج الخيرات المادية والإبداعات المعنوية. ولما كان الإنسان ،عند ابن خلدون، مفطوراً على العنف والذئبية، فكان لا بد لقوة تلجم عدوان الإنسان على أخيه الإنسان، وتمنع الصراعات والاقتتال بين أبناء المجتمع، وقد تمثلت هذه في ظهور الْمُلْك. فالملك جزء لا يتجزأ من العمران. وهذه الفكرة التي جاء بها ابن خلدون سابقة على الفكرة نفسها التي بنى عليها الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز فلسفته وكتابه “التنين” في القرن السابع عشر. وقبل ما قاله الفيلسوف فردريك إنجلز في كتابه “أصل العائلة والملكية والدولة” بخمسة قرون.
ولكن كيف يتأسس الْمُلْك؟ هنا يجيب ابن خلدون بأن الْمُلْك لا يقوم إلا على العصبية. ومفهوم العصبية من أهم المفاهيم التي أبدعها ابن خلدون لتفسير ظهور الْمُلْك. وهي وإن كانت تبدأ من عصبية القرابة والدم فإنها بعد قيام الملك تتسع وتتغير، فالعصبية هي الرابطة التي تؤلف بين الجماعة وتجعلهم في وحدة في مواجهة العدوان الخارجي أو الداخلي. فالدين عصبية، والدولة عصبية أيضاً. ويكون حال الملك متطابقاً مع حال العصبية. فإن كانت قوية كان الملك قوياً، والعكس صحيح أيضاً.
فلنستمع إلى قول ابن خلدون الآتي “الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض، لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم. وليست آلة السلاح كافية في دفع العدوان لأنها موجودة للجميع، فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض، فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، وهذا هو معنى المُلْك”.
إذن، الأصل في المُلك، والملك يعني السلطة، الحيلولة دون احتراب الناس، وأكل بعضهم بعضاً، لما ينطوون عليه من نزعة عدوانية – حيوانية متأصلة فيهم.
وهذا يعني أن أصل السلطة هو الحفاظ على التعايش السلمي بين الناس، وتحقيق الأمن بينهم، وردع النزعات العدوانية. والسلطة، أيّ سلطة، لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة إلا إذا حازت الاعتراف الحر من قبل المجتمع وناسه، وعندها تصبح السلطة والمجتمع خاضعين للقانون الذي يهدف إلى الحفاظ على الحق والسلم والأمن والحرية.
وإذا كانت السلطة، المُلك بالمعنى الخلدوني، قد تطورت إلى الحد الذي وصلت فيه البشرية إلى الحال الراهنة من التوافق مع المجتمع، فإن وجود سلطة تمارس العنف والاعتداء والنزعة الذئبية على أفراد المجتمع ضرب من حالة ما قبل الدولة، ونوع من التأخر والتخلف عن معنى الدولة الراهنة، وهي بهذا المعنى سلطة متناقضة مع الحاجة إلى السلطة، ومدمرة للحياة المعشرية، وتؤسس للصراع الدامي بينها وبين المجتمع الذي لا طاقة له بتحمل سلطة عدوان.
ولعمري فإن سلطة كهذه ستجعل من الأوطان ضعيفة، وعرضة للغزاة من كل الأنواع، وإلى هذا أشار ابن خلدون بعبقرية حين قال “إن الأمة إذا غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء، والسبب في ذلك، والله أعلم، ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها، وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل، والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل”.
الوظيفة المعرفية لمفهوم العصبية الخلدوني على غاية كبيرة من الأهمية حتى في وقتنا الراهن. والعصبية عند ابن خلدون وفي أهم وجوهها، رابطة غايتها الملك. وإذا أغنينا مفهوم العصبية الخلدوني، أي إذا نقلناه من مفهوم يشير إلى عصبية القرابة وغايته الملك، إلى مفهوم يشير إلى أيّ جماعة يحصل بينها رباط كالرباط الديني أو الأيديولوجي أو الطبقي أو المهني أو الوطني أو القومي، فإن المفهوم – العصبية – يظل محتفظاً بوظيفته المعرفية في عالم آخر غير العالم الذي ذكرنا.
وفي الوقت نفسه، فإن توسيع مفهوم العصبية ليشمل كل التناقضات والمصالح لا يعني أن جميع العصبيات غايتها الملك.. مثلاً العصبية المهنية ليس غايتها الملك فيما العصبية الحزبية غايتها الملك ولا شك.
وإذا كانت العصبية تفضي إلى قيام الملك، ويفضي الملك إذا اتسع إلى قيام الدول القائمة على العصبية، فإن الدولة بدورها تقود إلى الحضارة، لأن غاية الملك هي الحضارة. والحضارة هي الميل إلى حياة الترف، وحياة الترف لا تتحقق إلا إذا كثرث الصنائع وتوافرت أسباب الحياة، ونمت غايات الناس في امتلاك منجزات الصنائع وأسباب الرفاهية، فتضعف إذ ذاك عصبية الملك. وهذا ما يأذن بانهيار الدولة.
فالدولة تمر بعدد من الأطوار، تشبه أطوار الكائن الحي، فعمر الدولة ثلاثة أجيال، والجيل أربعون عاماً. فالجيل الأول ما يزال على البداوة وخشونتها والمنعة والمجد وذو عصبية قوية. والجيل الثاني جيل تحول إلى من البداوة إلى الحضارة، ومن الاشتراك بالمجد والملك إلى انفراد الواحد به، فتضعف العصبية بعض الشيء، ويكون الخضوع للحاكم. والجيل الثالث ينسى عهد البداوة، ويعيش في نعيم وترف وتسقط العصبية وتزول فتذهب الدولة وتنقرض.
وإذا غُلبت الأمة وخضعت لغيرها انقادت إلى غالبها، وراح المغلوب يتشبه بالغالب في ملبسه ومأكله وفي سائر أحواله. بل إن الأمة إذا ما غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء. وليست علاقة الغالب بالمغلوب أو المغلوب بالغالب علاقة بين المتقدم والمتأخر كما ظن بعض الشارحين. فإن الشعوب الأقرب إلى الهمجية قد تنتصر على الشعوب المتقدمة عليها في سلم الحضارة، كما حصل من غزو مغولي لبلاد الحضارة العربية الإسلامية المتقدمة.
وانتبه ابن خلدون إلى قضية المعاش ومكانة العامل الاقتصادي في العمران وطرائق الكسب. شارحاً كسب الرزق عن طريق التجارة والصناعة والزراعة، وهي الأساليب الطبيعة للمعاش، رابطاً بين طريقة الحصول على المعاش ومستوى التطور الحضاري، فجعل الإنتاج الرعوي للبدو في الدرجة الأدنى تليها الفلاحة وأخيراً الصناعة بوصفها المعلم الأرقى للتطور الحضاري. والصناعة عند ابن خلدون تعني الحرفة والمهنة من بناء ونجارة وحياكة وخياطة والتوليد والطب والوراقة والكتابة والحساب والغناء. ولقد فصّل في كل صناعة من هذه الصناعات وتعريفها وأهميتها. وكل هذا جاء في الباب الخامس من المقدمة.
أما الفصل السادس من المقدمة الذي نادراً ما يأتي على ذكره دارسو المقدمة، على أهميته، فيتعلق بالحياة العلمية والثقافة الروحية للحضارة، فالعلم والتعلم والتعليم من متطلبات العمران البشري والتطور الحضاري، والتطور الحضاري والعمران بدورهما يخلقان الشرط الأهم في تطور العلوم وكثرتها.
ولقد أوقف ابن خلدون جهده في هذا الفصل على أصناف العلوم في الحضارة العربية الإسلامية. كعلوم القرآن والتفسير وعلوم الحديث وعلم الفقه وعلم الفرائض وعلم الكلام وعلم التصوف.
ويتوقف عند العلوم العقلية كالحساب والهندسة والفلك والموسيقى ومن ثم يعرض للعلوم الطبيعية والمنطق والفلسفة، وينتهي في شرح تطور العربية ولهجاتها وآدابها.
والحق إن مقدمة ابن خلدون انطوت على ثلاثة علوم إنسانية نظرية وهي: فلسفة التاريخ وفلسفة الحضارة وعلم الاجتماع. ولهذا فلقد أشاد به فلاسفة الغرب المعاصرين وعلماؤه، ونُظر إلى المقدمة الخلدونية على أنها فتح جديد في علم الاجتماع البشري، وليس غريباً أن يُترجم كتاب ابن خلدون هذا إلى الفرنسية والإنكليزية والتركية والألمانية واليابانية. وكتبت حوله المئات من الرسائل، وشُرح عبر المئات من المؤلفات.