احتلال الشارع
عادة ما تتباين مواقف السلطات في دول العالم من فن الغرافيتي باعتباره فنَّاً يقف إلى الجانب الآخر من رؤية السلطة، هذا الفن الذي بدأ يتبلور في شكله الحالي الذي نعرفه بدءاً من منتصف ستينات القرن الماضي في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية على هامش الحركة الاحتجاجية التي أدارها السود من خلال أغاني الهيب هوب، رغم أن امتداد هذا الفن يرجع بحسب التقديرات إلى العصر الفرعوني الذي حمَّل فنانوه أغلب أحداثه من خلال الرسومات التي تركوها للأجيال اللاحقة عبر جدران المعابد والقصور، فالغرافيتي يروي تلاحق الزمن من خلال نوعيه “المرسوم والمكتوب”.
وقد تفاعل هذا الفن في المنطقة العربية مع انطلاقة الربيع العربي فأخذ شكلاً يحاكي مطالب الجماهير في الشارع، فصار الغرافيتي فناً للشارع ينطلق منه ويحاكيه ويعبِّر عنه بشكل أو بآخر، في الجانب الآخر رأينا خلال العقود الماضية أنّ الدول الأوروبية احتفلت بالغرافيتي كمظهر سياحي يحمل في أحد تجلِّياتِه ثقافة المدينة فنرى في العاصمة البلجيكية بروكسيل حكايات “تان تان” الفتى البلجيكي الراسخ في قصص التراث بتلك البلاد على سبيل المثال لا الحصر.
مع العشر الأولى من شهر مارس لهذا العام دخل العالم في حصار لم يحدث بهذا النطاق على مر التاريخ، وعلى اختلاف التعامل الحكومي الذي شهدناه في قارات مختلفة وما رافقه من تغيُّرات في طبيعة التواصل بين البشر، فهذه المرة الأولى في التاريخ الذي ترتسم فيه النجاةُ على شكل البُعد فلا يمكن لأحد أن يمدَّ يدهُ لينقذَ آخراً، أقصى ما تستطيع فعله – لغير العاملين في القطاعات الحيوية المتصلة بشكل مباشر بجائحة الفايروس المُستجِد – هو إغلاق باب بيتِك على نفسك وذويك، انعكس هذا جليَّاً على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال الندوات الرقمية والورشات التعليمية والأمسيات الشعرية والموسيقية التي صارت حاضرةً في برامجنا اليومية أيام الحظر التي قاربت سبعين يوماً متصلة في بعض البلدان.
ولأن الغرافيتي فنٌّ لا يمكن إلا أن يحضر في الشارع ضمن فضاء مفتوح كان لا بدَّ أن نرى تلك اللوحات التي عبَّرت عن هاجس الناس بالفناء واقتراب النهاية في الحصار، صورةُ الخوف المتجسِّد عبر الخطوط انتشرت في مدن كثيرة تحاكي الوباء، تسخر منه في بعض الأحيان وتعلن حصاراً للحصار نفسه عبر الفن.
حصارٌ للحصار
تحتفظُ لوحة الغرافيتي بصورة الحياة قبل انتشار الوباء، تريد اختزانها وإعادة طرحها أمام المتلقي باعتبارها حدثاً طبيعياً وما دونَهُ واقعٌ طارئٌ مؤقَّت، نراها تتشبَّث بتفاصيل كانت تعبرنا دون انتباه، انشغال الناس أمام عربات القطار ورغبتهم اللحاق دوماً بدوَّامة التسارع التي صار اليوم العالم يشاهدها من خلف كمامة، – لقد فرضت دولٌ عديدة غرامات مالية اليوم على استخدام وسائل المواصلات العامة دون ارتداء كمامة – لهذا نرى الغرافيتي يتمسك بتلك الجزئية التي تعيد طرحَ التفاصيل العابرة في الزمن، وتقدّم الصورة الفوتوغرافية للغرافيتي التقاطاً موازياً لعالَمين الأول قائمٌ على الحياة الطبيعية والثاني المتصل بشكل مباشر بقانون التباعد الاجتماعي المفروض مؤخراً في أنحاء كثيرة ضمن إجراءات محاربة الوباء.
صورةٌ لزمنين توثِّقها لوحة الغرافيتي التي تتحوَّل للوحة أشمل عندما تكون جزءاً من صورة فوتوغرافية في تجسيد واضح لمحاولة الفنانين محاصرة الحصار الطارئ.
مقولات سياسية
بما أنَّ الغرافيتي تعبيرٌ – في أحد تجلياته – عن الخطاب السياسي، أو مقاومته بشكل أدق، حضرت فرضية نظرية المؤامرة عند الفنانين، رموزٌ سياسية مصلوبة على الجدران بينما الحياةُ تسيرُ ببطء شديد على وقع التجاذب والتنافر في التصريحات، الغرافيتي يطرح – ربما – صورة متخيَّلة عمَّا يدور في الغرف المغلقة، إنه إشارة مباشرة إلى تورط الأنظمة بتصدير الخوف للجمهور، هنا يعرض الغرافيتي الرواية الأخرى بعيداً عن الخوف، يحدِّد المشكلة وجذرها معاً، صراعٌ سياسيٌّ لأسباب مختلفة ينعكسُ على أسلوب حياة الناس، هذا لا يقتصر فقط في زمن كورونا وإنما يحاكي الزمن قبل ذلك وبعده على شكل قبلةٍ حميمية تجمع الرئيس الأميركي بالرئيس الصيني، اتصالٌ يخضعُ في صورته العامة لإجراءات الحماية من الوباء من خلال ارتداء الكمامة لكنها كمامةٌ من النوع الرخيص الذي غلا ثمنه مع ظهور مافيات الأدوات الطبية، في هذا ربما إشارة إلى حالات السطو التي شهدها شهر مارس في مطارات عديدة حيثُ وضعت سلطاتٌ مختلفة يدها الأمنية على حمولات طائرات تقلُّ مساعداتٍ طبية لدولٍ تغرقُ بالإصابات ويرتفع فيها عدّاد الوفيات بتسارع رهيب.
كيف تظهر الصورة الفوتوغرافية لهذا الغرافيتي، إنها تُظهِر صورة الخطاب السياسي مُنعَكسَةً على الأرض من خلال ماءٍ تركته الأمطار أو فائض عن حاجة الأشجار، صورة تتكسر تحت أقدام العابرين رغم ثباتها على الحائط، الماء والحجارةُ نقيضان وضعتهما الصورة الفوتوغرافية في إشارة لهشاشة نظرية المؤامرة وصلابتها في آنٍ معاً.
الجهود الطبية
مع بدء انتشار الوباء في ووهان الصينية، تكتَّمَت السلطات في بيجين – بحسب كل المؤشرات – على كل التفاصيل المتعلقة بالفايروس المستجد الذي يجدد نفسه في كل يوم، فهي – أي الحكومة الصينية – وضعت تفاصيل محدودة حول التركيبة الجينية الأولى التي ظهر فيها الفايروس بشكله الأول بعد مضي أسابيع عديدة على ظهوره، وقد قرأنا عن مصائر غريبة وتكميم أفواه لكثير من الأطباء الذين نبَّهوا لخطورة الجائحة فيما إذا خرجت من حدود ووهان، لكنَّ الحياة عادت إلى طبيعتها الأولى – مع الحفاظ على كل التدابير الجديدة – في ووهان بحسب الإعلام الصيني، بينما تمدد الفايروس إلى أصقاعٍ شتَّى لم تسلم فيها قارة على امتداد الأرض ورحابتها.
هنا انتبه فن الغرافيتي إلى المكنة الطبية التي تدور رحى حربها متأخرةً بخطوة واحدة دوماً عن تجديد الفايروس لنفسه، تُظهِرُ اللوحةُ طبيباً أو باحثاً يرتدي مجموعة كمامات مختلفة بينما يحاصره الفايروس في الفضاء، يحاولُ الباحث عن المصل وقد أنهكَتهُ مناورات الفايروس اللحاقَ بالتركيبة الجينية وانشطار سبب المرض على أشكالٍ مختلفة لا يستطيع الطب أن يدانيها أو يقاربها في يومٍ وليلة، وبينما بدا الخطاب السياسي هائجاً أو متآمراً يظهر الخطاب الطبي والبحثي رصيناً هادئاً منشغلاً بالمختبرات ومبتعِداً في الوقت نفسه عن كلّ ما يؤثِّرُ على مهمته المقدسة وتمركزها حول فكرة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البشرية.
تظهر الصورة الفوتوغرافية لهذا الغرافيتي على شكل كادرٍ هاربٍ من فيلم سينمائي يحاكي الرعب، بطله طبيبٌ يعيشُ في عالمٍ من الفايروسات في غيابٍ تامٍّ للضوء بإشارة صريحةٍ لغياب الأمل القريب، بينما يقدِّم العالمُ حركةً متناغمة بين جيلَين الأول على دراجةٍ يسيرُ دون اكتراثٍ كبير وآخرُ تحصَّن خلف إجراءات الوقاية ويتلمَّس خطواته للنجاة، وكلاهما ينتظران صرخةَ اكتشاف المصل المضاد من المختبر الطبي.
الرياضة في زمن كورونا
لا شكَّ أن نواحي عديدة في القطاع الاقتصادي تضررت نتيجة انتشار فايروس كورونا في العالم، شللٌ تامٌّ في حركة القطارات والطائرات، تأجيلٌ في تنفيذ العقود التجارية، خللٌ في أسعار النفط ضربَ أسواق المال العالمية فكادت شركات النفط الصخري الأميركي تُصاب بالإفلاس بعد أن باعت عقودها الآجلة بما وصل لثلاثين دولاراً للبرميل لصالح المشتري نظراً لغياب القدرة التخزينية عن استيعاب كميات الإنتاج اليومي، اضطرابٌ في قراءة المستقبل الاقتصادي مع إعلان كثير من الشركات العابرة للقارات عن تقليص نفقاتها وإلغاء مشاريعها الأساسية.
فن الغرافيتي التقط جانباً مهماً في العجلة الاقتصادية، لا يتصل بشكل مباشر بين قيمةٍ مادية أو أسهمية للمُنتَج وإنما يرتكزُ إلى الدهشة، فالقطاع الرياضي كان أحد أكثر المتضررين من الوباء المُستَجَد، حيث توقَّفت دوريات العالم الكروية المحلية والدولية في القارات المختلفة، الدول المتقدمة منها أو تلك التي تقع في العالم الثالث بحسب التصنيف الاجتماعي الدولي، توقُّفٌ شاملٌ نظراً لغياب المورد المادي بعد غياب الجماهير التي كانت تدفع مقابل مشاهدة تلك المتعة، هذا الواقع دفعَ إدارات النوادي الرياضية إلى تقليص رواتب الرياضيين، وهذا ما وضع العالم أمام الفجوة الحقيقية بين الصرف المادي على القطاع الرياضي وبين الصرف المادي على القطاع الطبي والبحثي، يعالج الغرافيتي هذه الحالة من خلال الإبقاء على المتعة، لكنها تحدث من خلال صورة تذكارية على الحائط فقط، فالجمهور انشغل في حصاره بألعابٍ إلكترونية تحقق له المتعة التي كان ينشدها، يضع الغرافيتي هنا إصبعه مباشرة على لب المسألة، فماذا تعني المباريات الكروية دون جمهور، إنها حركات باهتة تشبه إلى حدٍّ بعيد تلك التي نراقبها من خلال ألعاب الفيفا دون هتافات الجمهور أو تفاعل للمعلق الرياضي مع تلك الهتافات، هذا ما شهدناه منذ أيام مع المحاولات لإعادة الحياة إلى الدوري الألماني المحلي.
الصورة الفوتوغرافية لهذا الغرافيتي تبني عالماً جامداً دون روح في غياب الجمهور الرياضي، محاولة للقول إنَّ الجمهور هو الأساس في هذا القطاع، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى ذكاء الفنان الغرافيتي في اختيار مكان لوحته فهو يضع في اعتباره أنَّ هذه اللوحة لا يمكن مشاهدتها بمعزلٍ عن المحيط، فهي جزءٌ من مشهدٍ أوسع يكون المتلقي غالباً جزءاً منه.
أسطورة الرجل المجنح
لا تستند لوحات الغرافيتي المتعلقة بوباء كورونا في معالجاتها المختلفة إلى اتصال مباشر بموضوع الفايروس، وإنما – كما شاهدنا – فيما سبق فإنها تحاكي ذلك من خلال الواقع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، إنها صورة لهواجس المجتمع بمختلف اتجاهاته، لذا نراها في هذا المثال تعيد طرح الأسطورة الإغريقية بقالب جديد، رجلٌ يطير بجناحَين على صورة “إيكاروس” الذي فرَّ مع والده “دايدالوس” من متاهة جزيرة كريت اليونانية بعد عقابهما من قبَلِ ملك الجزيرة “مينوس”، استعان الأب وابنه بأجنحة للطيران لكنَّ العُلُوَّ أغوى إيكاروس فطارَ حتى قارب الشمس التي أذابت جناحيه المصنوعَينِ من الشمع فسقطَ من شاهقٍ نحو الأرض ميِّتاً.
هذه الحكاية تخرجُ في غرافيتي كورونا في صورة تناقض الأسطورة، فالطائرُ الإنسيُّ يملكُ جناحَين قويَّين يطير بهما مرافقاً الطائرات التي عادت إلى طرقاتها في السماء، العالم المبنيُّ على الأسطورةِ يستندُ في هذه اللوحة إلى الإنسان القويِّ بذاتِه، قويٌّ بضعفه الذي ألصقَه على شكلِ حصارٍ في متاهات الأرض المختلفة، فقرر النهوض ليس للسير وإنما لرسم حدود جديدة لطريقة تعاطيه مع العالم، هل هذا منطقي في الواقع الذي نعايشه يومياً؟ ليس مطلوباً بأيّ حالٍ من الأحوال أو بشرط من الشروط الأساسية أن تظلَّ لوحات الغرافيتي تستندُ إلى الواقع المعيش وإن كانت تستمدُّ مادتها الأولى منه، هكذا تبدو حكاية إيكاروس الذي يقاسي من ظروف حصار الفايروس قابلة للتصديق، فالطيران وإعادة البهجة للأرض قادمةٌ بعد انحسار الوباء.
لو تأمَّلنا الصورة الفوتوغرافية لهذه اللوحة التي استندت إلى واجهة جانبية من مبنًى قديم، سنراها معلَّقةً فيها أسباب الحياة، الجمودُ تكسِرُهُ حمامةٌ تحمل في منقارها غصناً أخضر، رسالة تقليدية للسلام الغائب عن هذا العالم وإشارةٌ من الفنان إلى ضرورة غياب المؤامرات لننتصر معاً على الموت الذي يحاصر الجميع، لكنَّ البشريَّ الحقيقي في الصورة الفوتوغرافية يظهرُ مديراً ظهره للحكاية والأسطورة معاً، منشغلاً بسماع الموسيقى، واضعاً كل التدابير الوقائية أمام وجهه للنجاة.
الصورةُ الكاملة
إنَّ اختيار مكان لوحة الغرافيتي لا يأتِي مصادفة أو اعتباطاً، وإنما – في غالب التقدير – يخضعُ اليومَ لأسبابٍ عديدة يحاولُ من خلالها الفنان أن تكون لوحته العامة غيرُ منسجمةٍ مع المحيط، لتكون نقيضاً له، مشهدٌ ثابتٌ في صورةٍ متحرِّكةٍ يراها العالمُ جميعاً في لحظة الحصار.
فالتأملات التي يمكن استخلاصها من تجارب الغرافيتي المختلفة تبني واقعاً موازياً لأرقام الضحايا والإصابات والمتعافين معاً، خطٌّ بياني لا يمكن ضبطُهُ إلا بجمع كل اللوحات في كلِّ بلدٍ على حدة والعمل على تحليلها لنقرأ معاً وجهة النظر الغرافيتية بكلِّ جغرافية بخصوصيَّتِها وعموميَّتِها في وقت واحد، فالخصوصية تنبعُ من كونِ لوحة الغرافيتي انشغالا بالمحليِّ في خطوتها الأولى، لكنَّ ما يحدث مثلاً في ممرات البيت الأبيض الأميركي أو القصر الرئاسي الصيني قد نجد صداهُ على حائطٍ قديم في مدينة أفريقية أو أوروبية أو عربية. لوحاتٌ امتلكَ أصحابها الجرأة التامة للخروج إلى الفضاء وإعادة رسم مشهد الحياة التي حاصرها كورونا، فكانت لوحات ثابتةٌ في واقعٍ متحرِّك يتلمَّسُ الناجونَ فيه مواطئَ أقدامهم.