ازدهار الشعبوية
لا أعرف لماذا يبدو المثقفون وهم ممتعضون من صعود الشعبويين. الشعبويون ليسوا ظاهرة. هم مرحلة. ترك لهم المثقفون الساحة، فصعدوا بخطابهم واستحوذوا على آذان الناس ثم قلوبهم.
سيقول المثقفون أن الشعوبيين يعيشون بين الآذان والقلوب، ولكنهم بعيدون عن العقل. ربما كان هذا الوصف صحيحا. ولكن من قال إنه الأفضل لتوصيف الحالة التي نعيشها اليوم في عالمنا؟
لنقسم البلاد: فسطاط ديمقراطي وفسطاط ما تبقى.
في العالم الديمقراطي تراجع الفكر. ثمة الكثير من النتاج الثقافي والفني، ولكن التحدي الفكري في تراجع. فيما سبق، كانت الأفكار الليبرالية في مواجهة مجموعتين فكريتين بأذرع سلطوية. من جانب هناك فكر فاشي يميني قوي وصاعد، ومن جانب ثان هناك فكر ماركسي يريد أن يفرض المنظومة الشيوعية على العالم. المقارعة الفكرية كانت عميقة، ولكنها استلزمت حربين كبريين لكي تصل إلى نصر الفكر الليبرالي. هزمت الفاشية على يد الليبرالية والشيوعية معا في الحرب العالمية الثانية، ثم هزمت الشيوعية على يد الليبرالية في الحرب الباردة. بعد هزيمة الشيوعية، استرخى الغرب الليبرالي فكريا وإن استمر استنفاره سياسيا وعسكريا فيما يسمى الحرب على الإرهاب. “صدام الحضارات” هو مواجهة بين منظومات اجتماعية مختلفة، ولكن التشدد الإسلامي ليس تحديا فكريا بالنسبة إلى الغرب. مواجهة التطرف هي مهمة بوليسية في الغرب داخليا، وعمليات حربية خارجيا. لا يوجد مفكر غربي جاد يمكن أن يجلس ليكتب كتابا عن الرد الفكري الليبرالي على الموقف “الفكري” الإسلاموي.
هذا الانقطاع الفكري -أو الخواء الفكري إن جاز التعبير- خلّف فراغا. لا تستطيع أن تملأ حياة الناس بعدد لا ينتهي من المسلسلات الترفيهية والبرامج المسلية والتقنيات والمهرجانات. التمتع بالحياة شيء ضروري، ولكن في مجتمعات مركبة مثل المجتمعات الغربية، كان الناس على موعد مع من يقول لهم: ماذا بعد؟ هذا البعد لديه أوجه عديدة، بعضها عدواني موجه نحو الغريب والمسلم والمهاجر، وآخر يستهدف المنظومة السياسية التي أنتجت الخواء. وطالما لم يتم الاستثمار في الفكر، وصار ما أنتجه الغرب فكريا أشبه بالتراث، فإن العقل يتراجع ويترك المساحة للأذن ثم القلب. الحشود تحركها الكلمات والعواطف. ولأن المنظومة الغربية قائمة على الديمقراطية، فإن الحشود هي ما تعمل الفرق. الشعبويون خاطبوا الناس واستفزوا غرائزهم فتجاوبوا وذهبوا يصوّتون لهم. من الصعب أن تضع عقلانية لهذا الأمر لأن الغرب اعتبر أن العقلانية تحصيل حاصل للفكر الليبرالي، دون أن ينتبه أن أحدا لا يذكر بهذا الفكر بلغة عصرية مرنة تتجاوب مع التغيرات. الغربي كان يذهب إلى المدرسة لكي يتم تشكيله معرفيا. أما اليوم، فهو ابن اليوتيوب والتواصل الاجتماعي.
في فسطاط ما تبقى، كان الأمر سورياليا. في مرحلة ما بعد الاستقلال، برزت القومية كمنظومة حكم أكثر منها منظومة فكرية. لم تستمر طويلا، وأصيبت إصابة قاتلة في حرب 1967 ثم توفيت ودفنت في بغداد عام 2003. البديل الإسلامي رافقنا منذ يوم ارتحل جيش السلطان العثماني عن ديارنا. دعوات الخلافة والإمامة ازدهرت وأخذت أوجها إخوانية وسلفية وخمينية، ولكنها في القلب متشابهة. كلها تؤكد أن الحل موجود أمامنا، ولكننا لا نراه. ومهمة هذه المنظومة الفكرية هو تقديم خارطة الطريق للوصول إلى الحل. ولو استلزم الأمر هدّ المنظومة الاجتماعية أو السياسية على رؤوس الشعوب في الشرق الأوسط، فلا بأس طالما أن النتيجة إلهية وتنتظرنا.
وهذا ما حدث. فبدءا من الحرب العراقية الإيرانية مرورا بدخول العرب على خط الحرب الأفغانية وصولا إلى حرب الكويت ثم غزو العراق، كان التمهيد يجري للحروب الأهلية العربية الشاملة. حروب ساخنة كثيرة وحروب باردة أكثر. الرابح الأكبر من كل الحروب الجارية حاليا هو الخطاب الشعبوي المسلح بالدين. آذان العرب وقلوبهم تعمل منذ سنين في تحدّ لملكة العقل. وهذا قادنا إلى اللحظة الراهنة.
فيما عدا محاولات بسيطة وانطباعية، لا يوجد رد فكري عربي على الشعبوية، لا شعبوية الإخوان ولا شعبوية السلفيين ولا شعبوية الخمينيين. بل العكس. هذه الأوجه من الشعبوية الدينية استطاعت استقطاب المثقفين لجانبها ممن جاؤوا مختارين أو مجبرين في بيئة مستقطبة ما عادت تحتمل أيّ تنويعات. الفتح الشعبوي كان لا يقبل إلا دخول الناس فيه أفواجا. على المعترض البحث عن مكان يهاجر إليه أولا وأن يصمت عن مخاطبة الآخرين ثانيا.
في الغرب مثله مثل الشرق نقف حائرين. الشعبوية الغربية لا تزال في بدايتها ولا نعرف إن كانت الترامبية لحظة عابرة أم مؤسسة، أو يكون بريكست بداية الانشقاقات وليس خاتمتها. الشعبوية العربية تبدو راسخة، سهلة الفهم وعصية على الإدراك. في الحالين، هذه مرحلة قد تطول.