استحضار

السبت 2021/05/01
لوحة لهبة عيزوق

 حاول مرتين أن يخرج من ثقب الباب لأنه بقي محتجزا في الغرفة ثلاث سنوات ضوئية ولا يعلم الى حدود عام 2222 سبب احتجازه. ما يعلمه حقيقة هو أن ولادته الأولى كانت نتيجة تزاوج بين خلية دماغه وخلية حيوان الفيلامو الذي يقطن غابات أستراليا ويعيش على بقايا الغدد. لكن محاولته الثالثة في الخروج من ثقب الباب باءت بالفشل لأنه مُحتم عليه أن يقتات ولو القليل على غدده كي يسمح له دماغه بالتحرر والتسلل. صار كل تطلع أسفينا يتلخّص في كيفية عودته إلى القصر ويعيش بقية حياته آمرا ناهيا. حسب الرقم سبعين الذي وجده أسفينا على الحائط الأيمن فإن ما تذكره هو أن هذا الرقم تربطه به علاقة وطيدة حيث أن سبعين هو عمره الافتراضي الذي دائما يعتبره العمر الأكثر قدرة على اِستيعاب العالم والكون. نظر أسفينا من ثقب الباب فوجد أن حقل بصره قادر فقط على مراقبة مساحة صغيرة لا تكاد تسع زوجين من حيوان الغريباس الذي اِنقرض منذ سقوط نيزك ستيلا على صحراء ناميبا. لم يكترث أسفينا بذلك كثيرا لأنه يعتبر أنه حتى ولو كانت المساحة ضئيلة هذا لا يمنع من سيطرة بصره على جزء من هذا الأسر.

 رغب في إخراج رأسه من الفتحة ليرى أكثر ليس إلا. الباب موصد وقفله موجود لكنه لا يرى عندما تكون الرأس قريبة منه. ما تمكن من رؤيته هو آثار أقدام متوسطة الحجم على ما يبدو لشيخ تجاوز المئتي عام. فمقارنة بسنّه فهو يعتبر في مقتبل العمر يحلم بالخروج من غيهب أربعة جدران وسقف صنعت من مادة دهنية تتحجر عند مزجها بحصى الجرانيت. بينما هو يتأمل أثر القدم حتى تناهى إليه وقع ذاكرته التي أبت إلا أن تفوز بحيز لا بأس به. ذكره إصبع القدم الكبير بحادثة وقعت له في بداية القرن العشرين في مدينة مراكش المغربية حين استدعاه رجل من سكان الجبال إلى شرب كوب من الشاي من قبيل الضيافة والجود بكون أسفينا رجلا قادما من بلاد آسيا البعيدة. مزال يتذكر جيدا طعم الشاي أو الأتاي، كما ينطق به السكان المحليون، على حلمات لسانه ربما يرجع الأمر لتلك الأنامل الياقوتية التي تضيف للمشروب نكهة خاصة وخالصة. كان الحوار الذي دار بينه وبين الرجل، الذي نسى اسمه لطول المدة نوعا ما، شيقا وممتعا حيث تجاذبا أطراف الحديث حول الأسرار التي كانت ترداد جبل طوبقال والأساطير التي كانت تحاك حوله.

هل تعلم أيها الغريب، إن ما دعاني لدعوتك لشرب الأتاي في بيتي هو أن زوجتي تخلت عني بعد عامين من زواجنا.

عذرا. وما سبب ذلك إذا لم يكن سؤالي إحراجا وتدخلا في شؤونك الخاصة؟

لقد اشترطت علي أن أستدعي الغرباء في بيتي كل مساء سبت.

(ضاحكا) ولماذا اشترطت عليك هذا الشرط غير المألوف؟

إنها تعشق مجالسة الغرباء وعابري السبيل والتائهين.

لذلك قمت بدعوتي تلبية لرغبتها أم ماذا؟ لكن أين هي؟ لم أرها؟

ألم أقل لك إنها تخلت عني؟

لكنك لم تقل لي لماذا تخلت عنك؟

أدار الرجل الغريب وجهه وأخذ يعد أصابع قدمه اليمنى وكأنه يتفقد صلاحياتها أو هو يشك في عددها أصلا. بقي كذلك برهة من الزمن ثم نطق وكأنه لم يتكلم منذ مطلع القرن الحالي.

في الحقيقة لقد اشترطت عليّ يوم زواجنا أن أكون غريبا معها وأن تكون معاملاتي معها صادمة ومفجعة. ولكن!

لكن ماذا؟

عاهدتها أن أكون كما ترغب وتتمنى دون أن أسألها عن السبب لكني لم أفلح في ري عطشها للغرابة والخروج عن المألوف والعادة.

في الأثناء أخذ الضيف الغريب يتلمس رأسه وكأنه يريد أن يقول شيئا.

لقد بدأت رأسي تؤلمني

منذ متى؟

منذ أن ربتت علي كتفي الأيمن يد غريبة ودعتني إلى كوب….

الصداع يعرف طريقه إلى العادة…

هل تستطيع أن تكمل ما وقع مع زوجتك؟

أجل. لقد اعتبرتني خائنا للعهد لأني لم ألتزم بما جاء بيننا يوم حفل الزفاف.

(مستهزئا) وماهي معاييرها في الغرابة والعجاب؟ أريد أن أفهم. يبدو أن الخلل يكمن في شخصها.

رفع الرجل المستضيف رأسه إلى زاوية البيت وكأنه يستلهم منها قوة خبت جذوتها ولم تعد إلى سالف عهدها. ثم طأطأ رأسه ببطء ليسترجع ذكريات منها ما هو جدير بالتذكر وأخرى لا أحد يعلم لماذا نود أن نقصيها بينما هي تشكل البذرة الأولى لعملية النقاهة. بعدئذ بدا ينطق بعد ما شعر أنه تأخر في الإجابة.

سأخبرك ما فعلته أنا منذ اليوم الأول إلى آخر يوم من زواجنا.

هل قضيتما ليلة زفافكما خارجا تحت ضوء القمر؟

ماذا تهذي يا هذا؟

لقد أهديتها حلزون ذكر؟

(مستغربا) حلزون ذكر؟! وما المغزى من ذلك. أظن أنها تقززت عند رؤيته.

قطعا لا. لقد ابتهجت بالهدية إلى درجة أنها قامت بتقبيل مرفقي.

قَبَّلَت ماذا؟

مرفقي…لماذا أنت مستغرب؟

الصداع يقبض على رأسي كمشبك قديم. أريد أن أغادر حال سبيلي.

كيف لك أن تغادر وأنا ما زلت لم أسرد لك ما جرى؟

ماذا تريد زوجتك بالضبط ولمَ هي غريبة الأطوار هكذا؟

المشكل أنها لم تعد متحمسة لمشاعري الغريبة وتصرفاتي الشاذة وردود فعلي غير مألوفة.

هل هذا أثلج صدرها حين طلبت منك دعوة الغرباء الى بيتك؟

فعلا لا أعرف. ما أعرفه أنها طلبت مني أن أخرج مع الفجر وأجلب لها رجل القمامة حسوم.

وماذا حدث بعد ذلك؟

لقد رفض رجل القمامة حسوم القدوم معي لأنه طلب مني أن أبحث معه على تفاحة مقضومة من الجهتين في وسط النفايات علما وأني أخبرته أننا سنقدم له ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات إلا أنه أصر على التفاحة المقضومة.

رأسي تؤلمني.

انتظرني…سأجلب لك حبة الزراكسين لتخفيف الصداع.

لا عليك…أخبرني ماذا حدث بعد ذلك…

لقد قضينا الفجر كله في البحث عن التفاحة…لكن دون جدوى.

أعتقد أنك عدت بخفي حنين الى البيت…وغضبت منك زوجتك المصون.

وهو كذلك….لقد نمت بقية الليل تحت سور الحديقة.

لقد رفض حسوم القدوم معك ليس بتعلة التفاحة المقضومة من الجهتين وإنما بسبب آخر. من المؤكد…أني لا أعلمه…

كيف لامرأة ناعمة ورقيقة أن تعشق الخشونة والابتذال والقذارة من رجل النفايات والنهايات.

إنها تعتبر… ذلك من موضة العصر

إن رأسي تألمني.

هل تريد كوب أتاي آخر…أم ماذا؟

لا أريد شيئا…أريد أن أنصرف حال سبيلي.

مازلت لم أقص عليك ما وقع ليلة الخميس الحادي عشر من من شهر أيار عام 2080.

وهل مازالت غرائب وعجائب أخرى تنتظر القص؟

لقد خرجت القطة أسبيرينا من البيت ولم تعد فجن جنون زوجتي حينها.

فهي لم تغادر….فقد لاذت بالفرار…

لاذت من ماذا؟ فقد كانت تعيش كملكة بيننا.

يبدو لكم ذلك…لكن الحقيقة غير ذلك.

كيف ذلك…؟

تفاصيل عالمكم الغريب ليس بالضرورة يتماشى مع نمط حياة الآخرين بما يحمل من أهواء ورغبات وتفضيلات.

أنا أختلف معك في هذه النقطة. ما أدركه جيدا هو أن الانسان أو الحيوان إذا توفر لديهما أسباب الراحة فسيندمجان مع محيطهما بكل سلاسة ويسر لأن المهم قد توفر.

إن تفكيرك يجدف ضد التيار. التوافق والاِنسجام لا يستقيمان إذا لم يسبقهما توافق واِنسجام على مستوى الذات والمهجة. يعني على سبيل المثال. إذا وفرت لي كل ظروف الترف والراحة ربما لن أجد نفسي فيهما.

لوحة لهبة عيزوق
لوحة لهبة عيزوق

تجد ذاتك ضمن المجموعة…ليس بمنأى عنها…

رأسي….آه من رأسي…

أتريد أن ترتاح قليلا…أم…

أريد أن أغادر…افتح لي الباب…

باب ماذا…نحن لم ندخل من الباب حتى نخرج منه.

ماذا تقول يا هذا…وكيف ولجنا البيت إذا.

التفت الرجل الغريب أمامه ثم يمينا ويسارا…فلم ير بابا في الغرفة. فتعجب كيف دخل البيت.

لن أطلعك على السر طالما تريد المغادرة.

رأسي…آه من رأسي…

 أتعرف ان القطة التي خرجت من البيت قد عثرنا عليها بعد شهر من ضياعها؟

تقصد بعد شهر من فرارها؟

سيان…

لا… ليس سيان فالضياع عمل إرادي وواع أما الفرار فلا…

لقد بدأت في إثارة أعصابي…وأنا لا أطيق ذلك…

(مستهزئا) هل تريدني أن أكون نسخة مطابقة لك…مستجيبا سريعا لهواجسك وانفعالاتك وعقدك النفسية والمجتمعية؟

طالما ذاكرتي قوية ويعتمد عليها في القص واستحضار الأحداث والشخوص…يعني أن القوة لي…وبالتالي فإن نسختي هي الأصلية والمميزة.

ماذا تعني بهرائك هذا؟

أعنى أنك يجب أن تخضع لردود فعلي شئت أم أبيت.

أين الباب…؟ أريد أن أخرج…أين رأسي…؟

رأسك تقبع على كتفك…ألم تدركها بعد…؟

لقد كانت محقة زوجتك حين تخلت عنك.

أتشمت في…؟

من لا يبحث عن حقائق الأشياء…لا يستحق وهج الحقيقة.

حقيقة ماذا…أتعني حقيقة زوجتي أم حقيقة رجل النفايات أم القطة الفارة؟

إذا أدركت الحقيقة الأولى فستدرك بقية الحقائق حتما.

ما المطلوب مني حاليا؟

المطلوب هو أن تطلق سراحي وأن تنطلق فورا في رحلة البحث عن زوجتك…

وإذا…لم أجدها…كيف السبيل لإيجادك حينئذ؟

لم تبحث عني…؟

كي أقص عليك ما وقع في اليوم الخامس والعشرون من شهر أيار.

رأسي… أين رأسي …وأين الباب …؟ دلني على الباب.. بحق الأرض التي أنجبتك…

لقد جاءني أحدهم ذات يوم وأخبرني عن سبب سلوكيات زوجتي الغريبة.

ماذا قال لك…؟

قال لي إن هناك مورثا أو جينا من جيناتها مسؤول على هذا النوع من السلوك.

وما هو سلوكها بالضبط؟

إنها تتحكم في حركاتها وسكناتها ونشاطاتها وتصرفاتها وتعاملاتها معي من خلال جهاز التحكم عن بعد للحاسوب.

كيف ذلك؟

إذا كانت تريد أن تلتزم الصمت وتمتنع عن الكلام تقوم بالضغط على زر كتم الصوت. وإن كانت تريد أن تتذكر ما وقع في الماضي وتعذرت عليها عملية استرجاع أمرا ما تقوم بالضغط على زر العودة إلى الوراء. وإن كانت تريد أن تستعجل عملا ما تقوم بالضغط على زر المشير إلى الأمام. وهكذا دواليك.

هناك زر خطير لم تذكره…

ما هو؟

هو زر الإيقاف…انه من أخطر الأزرار على الإطلاق.

لا بد أنه لا يوجد على لوحة جهاز التحكم عن بعد.

بلى…يوجد…ربما قد نزعته من اللوحة.

لماذا قامت بذلك حسب رأيك؟

يمكن للمرأة أن تتحكم في كل بوصة من حياتها…لكن لا تستطيع في المقابل أن توقف تدفق حياتها. فهي تخاف هذه الأنواع من الأزرار.

لا أعتقد أن هذا الإيقاف دائم في الزمن.

حتى وإن كان بصفة وجيزة وعابرة. فمسألة إيقاف جزء من الحياة يعد ضربا من الجنون والخروج الطوعي من طائلة الحياة.

 طائلة الحياة مفهوم عصي عن الفهم والإدراك لا سيما عندما نلج الحياة من بابها الخلفي متخفين في أقنعة لا تغطي كامل الوجه وانما جزء منه وهذا وحده كفيل أن يُخضع الوجود الفعلي للذات الى فرضية الانكشاف القسري. أما في حال ولجنا الحياة من بابها الجانبي عراة الرأس والأقدام لأن العري هنا لا يتصل مباشرة بجسم معرض أكثر من غيره إلى لدغة عين الآخر دون سواها. هذا لا يهم إن كانت هناك مسألتي تخفي أو تعري فالمهم هنا هل مسألة التخفي تحيلنا مباشرة إلى مسألة العري أم أ عقلنا الواعي يعي فقط لحظة مشاهدتنا للآخر المتعري أو المتخفي؟ بمعنى آخر فإن الضيف الغريب الذي تعذر عليه رؤية الباب في الغرفة… لا يكمن المشكل في كون الغرفة ليس بها باب وإنما المشكل يكمن في قصور إدراكنا للأجسام المحيطة بنا. لذا وجب أن نفترض دائما أن هناك أربعة أبعاد لكل جسم يقابلنا عوض عن بعدين أو ثلاثة أبعاد. فأبعاد الطول والعرض والعمق لا ترتقي دائما إلى معرفة ماهية الأشياء طالما لم يتوفر بعد الانكماش أو التقلص ونادرا ما يحدث التبخر. لكن بعد الانكماش هو البعد الرابع لإدراك الأشياء البعيدة والقريبة ولا سيما البعيدة لأن أيّ جسم لا يتأثر إلا بوجود مسافة ما بين عملية النظر والجسم القابع أمامنا. أما من ناحية المسافة القريبة فمسألة الانكماش أو التقلص أو التبخر تنطبق بشكل شبه تام على جهاز التحكم عن بعد وعلاقته بجسد المرأة كموضوع.

 بعدئذ نهض الضيف الغريب من كرسيه دون أن ينبس ببنت شفة أو حتى أن يلتفت برأسه إلى ذلك المستضيف الذي اعترته الغرابة ليخرج من الباب الذي ولج منه. إنه الباب الذي لم يكن موجودا منذ أقل من ساعة. لحقه المستضيف على جناح السرعة ربما أراد أن يوصله إلى حيث التقيا. فالمكان الأول هو دائما محل شبهات لكلا الطرفين. بادر المستضيف الرجل الغريب بالحديث بعد انقطاع دام أكثر من دورة الشمس حول الأرض.

(بنوع من التأسف) لماذا استعجلت الخروج؟

لأن الساعة قد أزفت.

لم أكن أتوقع أنك ستعثر على مكان الباب.

عثرت عليه لآني أدركت.

لم تمنح لي الفرصة لأروي لك ما وقع مع زوجتي ثاني شتاء من زواجنا.

حين تلتقي ثانية من باب الصدفة يمكنك أن تقص لي ما شئت

أتسخر مني؟!

بعض الشيء لأنك أجبرتني على فعل الإصغاء. هذا الأمر لا أحبذه صراحة.

بعدما أقوم بتوديعك…سأذهب للبحث عن غريبا أخر يسمعني وينصت الي.

(بصوت خافت لا يكاد يسمع) من المؤكد أنك ستتصيد غبيا أبله.

هل قلت شيئا؟

لا لا شيء…كنت أفكر في رجل حجز في غرفة منذ أمد…إلا أنه لا يدرك الحرية إلا من ثقب الباب….يا لها من حرية…و يا لها من حياة…ويا لها من ذاكرة…ويا لها من غدد…

هل مازال رأسك يؤلمك؟

رأسي…ماذا تقصد؟

ألم تكن تشكو من رأسك طوال جلستنا؟

كنت صراحة أشكو من شيء آخر…فأردت أن أختصر الطريق وأقول ان رأسي هي التي تؤلمني.

يعني أنك تراوغ!

سأنصرف الأن…أن رأسي بدأت تؤلمني…

حذار من رأسك…. حين تعبر النفق…

غادر الاثنان في طرق متقابلة ومختلفة. تبدو طريق المستضيف شاسعة في المنطلق ثم تزداد ضيقا عند الوسط والنهاية. أما طريق الضيف الغريب فهي عكس ذلك تماما ربما لأن طريقة سير الخطوة الأولى هي الفيصل في تحديد الوجهة والتوجه وأحقية الرغبة في التحرر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.