الأحلام والأيديولوجيات والأشرار
تنظر الفلسفة وبخاصة الفلسفة الوجودية السارترية بأن الشخص مشروع، ولأن الشخص مشروع فإنه يغذ السير في الحياة من أجل تحقيق ذاته – المشروع . والمشروع هو ما لم يتحقق بعد، بهذا المعنى وبهذا المعنى فقط، فالمشروع هو الحلم. وكلامي ينصب على المشروع – الحلم بوصفه تصور الجماعات لعالم أرقى، مشروع الإنسان الذي يحلم بغدٍ أفضل، عن الجماعات التي تحلم بعالم سعيد، والمبدعون والمفكرون والفلاسفة والعلماء جميعهم يكتبون أحلامهم الكلية بوصفها أحلام الجميع. هذه الأحلام التي تتمنى عالماً أرقى هي أحلام يقظة، وكل أحلام يقظة هي في النهاية شكل من التفكير حتى لو كان بعضها غير واقعي، وأنا هنا أتحدث عن الأحلام التي تتميز بالواقعية، أحلام بواقع ممكن قابل للتحقق.
أتحدث عن أحلام اليقظة بوصفها أحلاماً واقعية، وليس عن الأوهام التي لا تربطها بالواقع أيّ روابط تذكر، والتي إذا ما تحولت إلى دافع للسلوك الجمعي أدت إلى دمار البلاد والعباد. إن الوهم لا يخلق إلا أحلاماً زائفة.
والأحلام الواقعية لا حدود لها، كم من الأحلام الواقعية صارت واقعاً، وأنجبت السعادة والفرح للبشرية كلها، فاكتشاف أدوية لمواجهة وباء السل والجذام، كان حلماً وصار واقعاً، والأمثلة أكثر من أن تحصى، ومعروفة للقاصي والداني.
وأعلم أيضاً أن الكائن البشري الخالي من القدرة على الحلم، كائن يفقد جوهر إنسانيته، بل إن تقدمنا الإنساني ما كان ممكناً دون الحلم، من أحلام البيت، الذي حمانا من عاديات الطبيعة، إلى أحلام الخيال العلمي.
والحلم مغامرة العقل، مغامرة العقل في ارتياد العالم والمجهول معاً، حتى ليمكن القول: إن أهم ما يميز العقل المغامر هو الحلم، والحلم هو ميزة العقل المغامر، العقل المغامر هو الذي يدفع الإرادة للفعل، فكل الإبداعات البشرية التي أمدتنا بالسعادة لم تكن سوى أحلام، العقل الفاعل هو العقل الذي كلما رأى الواقع المعيش بكل صوره، تصوّر واقعاً أفضل في مخيلته.
وإذا ما صيغت الأحلام بالكلام، وتمكنت من وعي الناس وصارت هدفاً يسعون إليه، تحولت الأحلام شيئاً فشيئاً إلى واقع، وإذا ما تحولت الأحلام إلى واقع فإنها تموت، وبالتالي تدفعنا لنعاود الحلم مرة أخرى غير مكترثين باتهامات العقل الكسلان، بل قل: إن هزيمة الأحلام وانكسارها أمر مضر بالنفس البشرية، أكانت نفساً فردية أو نفساً جمعية.
وعلينا أن نميز بين خيال الناس العاديين، وخيال الكائنات البشرية السامية، لا شك في أن أحلام الإنسان العادي محكومة بعالمه الذاتي الضيق، الذي لا يتجاوز مصالحه الفردية، ولكن من حقه أن يحلم حلمه الخاص.
وكم تكون خيبة الأمل عند الناس كبيرة حين ترى صاحب الأحلام العظيمة والخيال المبدع وقد تحول إلى كائن عادي. كم ستكون خيبة البشر مؤلمة وهي ترى كائناً جاء به خيال المبدع والمرتبط بهموم الناس إلى قوة القرار، وقد تنكر للناس الذين اقتنعوا بالأحلام التي ألهبت البشر، ودفعتهم للفعل، بل وللموت من أجل الحلم، وإذا ما أردت أن أعرّف الدولة الفاضلة فسأعرفها بتلك الدولة التي تحمي أحلام البشر، وتعمل معهم على تحقيقها، وتغذي، عبر اهتمامها بالناس، عقلهم بأحلام جديدة، بل إن الدولة التي تدمر أحلام الناس ليست دولة.
إن الأحلام العظيمة لا تنفصل على القيم العظيمة، فليس من الأخلاقي أن يكون حلمك على حساب أحلام الآخرين، وتدمير آمالهم، حتى الأحلام العلمية العظيمة يجب أن تكون على ترابط بحب أمنا الأرض، أما أن تكون هناك أحلام علمية دون السؤال عن مصير الطبيعة، فهذا يجعل من أحلامنا أحلاماً لا أخلاقية، فالحالمون باستعادة ماضٍ بائد، وحمل الناس على الخضوع لأحلامهم المستحيلة واستخدام العنف والإرهاب في سبيل ذلك، حالمون غير أخلاقيين.
تأسيساً على هذه المقدمة باستطاعتنا أن نعرف الإنسان في أحد تعيناته – دون أن يخالجك أي شعور بارتكاب الخطأ – بأنه – أي الإنسان – كائن حالم.
أجل في الحلم نتصوّر عالماً غير كائن، نتصوّر واقعاً نتمناه، نجعله هدفاً لحياتنا، الهدف الذي نضعه نصب أعيننا هو الذي يمنحنا معنى الحياة، وحين نمتلك معنىً للحياة تغدو الحياة سعيدة، حياتنا لا تستحق أن نعيشها دون حلم. غير أن هناك نفراً من المجرمين الذين لا يعاقبهم القانون على جرائمهم؛ إنهم أولئك الذين يصادرون أحلام ويقتلونها، ويرتاحون لليأس وقد أنشب أظفاره في نفوس البشر. يسألونك ما الذي تبقّى من الأحلام العظيمة؟
لكن من قال إن جيلاً يصنع الأحلام العظيمة يجب أن يرى تحققها أمام عينيه، وإلا لا بدّ من قتلها في نفوس الناس.
عندما يطرح البشر أحلاماً عظيمة، فإنهم يطرحونها أمام التاريخ لأنها تحتاج إلى تاريخ.
لماذا يجب أن أطعن حلم البشر بالحرية، إذا كنت أعيش خلف الأصفاد؟
لماذا عليّ أن أنال من أحلام البشر بحياة كريمة، إذا ما كنت أعاني من ذلّ المتجبرين؟
لماذا.. لماذا..؟
أعداء الأحلام هم قتلة الأحلام، نفر من المتحكمين الذين لا يرون الحياة إلا من زاوية المؤقت والمبتذل.
من ذا الذي يستطيع أن يفصل بين الحلم والحب؟ أن تحب الوطن يعني أن تظلّ حالماً بوطن يمنحك الحب والحرية، أن تحب الحياة يعني أن تحلم بحياة تمنحك الحب والحرية، أن تحب يعني أن تظلّ عائشاً في قلب الحلم. أن تعيش في قلب الحلم، يعني أنك تمتلك جناحين من أمل.
بكلمتين مثقف الهراء أحد قاتلي الأحلام الذين لا يُنتبه إليهم. والهراء لمن لا يعلم الكلام الكثير الفاسد الذي لا نظام له. ورجل هُراء إذا كان كثير الكلام هذَاء. أما المرأة فهراءة وهذاءة. أما الفعل فهو هرأ.. ومن معانيه أخطأ وقبح كلامه.
والمثقف الهُراء: هو ذلك الصنف من الكتبة اللذين يستعيرون فكرة من هنا وقولاً من هناك، ويقمشونها في جمل غير مفيدة ويتكئون عليها للدفاع عن الواقع البائس ومواجهة أحلام الناس.
إنه يتحدث دفاعاً عن الوقائع التي تحتاج الى نقد بلغة بلاغية ركيكة. مبتذلة، ويجمّل القُبحَ السائد بطريقة لا خجل فيها إطلاقاً .
امتهن النقد الشفاهي لأصحاب الاقلام المهمومة بقضايا الانسان وحريته، والمبدعة في الادب والفكر، ودون أن يؤلف جملة مفيدة يمكن أن تنسب إليه .
يهرب من مشكلات البشر الحقيقية بحجة نقده للأيديولوجيا، ومقصود الهروب من القول الحق والنقد البناء والانتماء للوطن، فيتحدث عن فقدان الامل بالناس ويلقي باللائمة على البسطاء، بوضعهم مسؤولين عن واقع الحال .
مثقف بين عالمين؛ تنظر الممثلة القديرة محسنة توفيق إلى علي البدري في مسلسل “ليالي الحلمية” وتقول في لهجة حزينة جداً: “يا عيني عليه، فتح عينيه على صورة عبدالناصر و صوت عبدالحليم”.
علي البدري يمثل شخصية المناضل المهزوم في مرحلة الانفتاح، لكنه ممتلئ بإرثه الناصري.. هناك جيل عربي من المثقفين مازال يحمل إرث عبدالناصر وصوت عبدالحليم حافظ.. كان عبدالناصر، ذلك العصر، ممثلاً للحلم العربي، الاستقلال عن الاستعمار الذي لم يمض على رحيله زمن طويل، معادياً لإسرائيل، مدافعاً عن وحدة العرب وتضامنهم وفق خطاب تلك الأيام الذي يتحدث عن عرب الرجعية وعرب التقدمية؛ عبدالناصر المعبر عن الفلاحين والعمال والشعب عموماً، المُدافع عن الاشتراكية، عبدالناصر هذا حتى في ظل هزيمته بـ حرب عام 1967 ظل أمل الملايين من الناس.
من الصعب على مثقفي الجيل الذي عاش الناصرية بكل آمالها وتجذرت في وجدانه أن يتحرر من الحلم الناصري.. الحلم الذي مازال حتى الآن حلماً.
وفي الوقت نفسه كان عبدالحليم بصوته وألحان موسيقييه وكلمات شعرائه المعبر الفني عن رومانسية تلك المرحلة، سواء الرومانسية الثورية الفنية بصورة الأغنية السياسية، أو الحب الرومانسي المعبر عن العشق والدموع والقلب المهجور ..إلخ.
أجل لقد عاش جيل ذلك العهد من الناس والمثقفين، والذي مازال جزء كبير منه باقياً على قيد الحياة، مرحلة الحلم الرومانسي بالعالم، الوعي الذي ينظر إلى مستقبل زاهر، إلى الحلم العربي الذي رسمه عبدالناصر و عبر عنه بالأغنية عبدالحليم.
لا شك عندي أن بعض مثقفي المرحلة الرومانسية، الذين مازالوا متمسكين برومانسيتهم ،على قدر كبير من النزاهة الأخلاقية والصدق، لكنهم لم يُطوروا أدوات تفكيرهم، ومفاهيمهم المطابقة لمرحلة مختلفة كل الاختلاف عن المرحلة الناصرية.
ومازالت صورة المستبد البطل مطبوعة على قلوبهم وأذهانهم، حتى عند أولئك الذين راحوا يتحدثون عن الديمقراطية نظاماً للحكم المنشود.
ولكن ما يُحزن المرء حقاً أن يجد فئة من المثقفين والسياسيين تعلن انتماءها للناصرية ولكنها تقف ضد ثورات الربيع العربي بحجج واهية، وتنظر إلى إيران على أنها قبلتها، وتشيد بحزب الله رغم ما يرتكبه من مجازر بحق الشعب السوري الذي يكافحون أجل الحرية .
والحق إن موت الأحلام لا يقود إلى نسيان الحلم كقوة تفكير تجاوزيّة.
فحين ماتت الرومانسية الثورية وثقافتها الفنية والجمالية، حل محلها عن الكثيرين عقل بليد وقلب جاف، وثقافة سياسية فقيرة، وروح بلا أحلام.
ترى ماذا يعني أن تكون ناصريا وتهزك أغنية “صورة صورة ” لعبدالحليم وتكون فاقداً في الوقت نفسه للإحساس بآلام الملايين المعذبين الحالمين بعالم من الحرية؟
ماذا يعني أن تكون منتمياً إلى رومانسية ثورية وأنت غارق في وحل الميليشيات الطائفية المدمرة للانتماء الوطني والقومي العربي؟ أجل ماذا يعني هذا؟
إن هؤلاء خونة الأحلام، ومتحالفون مع قتلة الأحلام.
منذ زمان قريب، قريب جداً، تقاسم التياران القومي واليساري الشيوعي أو الماركسي ولاء أغلب النخب الثقافية العربية. بل إن أكثر المثقفين والكتاب العرب شهرة حتى الآن هم بالأصل خريجو مدرستي القومية والشيوعية، وقد نالوا أفضل العلامات وأرفع الشهادات من هاتين المدرستين.
وصاحب العقل الطليق الذي تحرر من الفكرة المقدسة، وانتمى إلى أهداف العرب الكبرى، يعود اليوم إلى التجربة الماضية ناقداً مجدداً دون أن يتزعزع انحيازه إلى الأهداف السياسية والأخلاقية والاجتماعية والقومية والوطنية. لكن اللافت للنظر أن نفراً من يساريي الأمس وقومييه راحوا تباعاً يعلنون التوبة على الطريقة الدينية. وهذا النفر المشار إليه كان بالأصل يؤمن إيماناً دينياً بالقومية والشيوعية. ولهذا ترى أشد الناس نكوصاً اليوم هم الذين كانوا أشد الناس تعصباً.
التائبون يسيرون تماماً على طريق التوبة الدينية. يبدأ التائب بالندم على الوهم الذي كان يعيشه، وعلى التاريخ الطويل الذي قطعه وهو يسير أعمى دون أن يأخذ بيده أحد إلى النور. تاريخه الكفاحي نوع من الرذيلة هكذا يرى، والفسق، أفكاره جملة من المعاصي، إنه يعترف أمام الكهنة الجدد بكل أخطائه.
ولأن التوبة ـ توبة مناضلي الأمس ـ تتم وهم في سن الحكمة ورشد الشيوخ، والزمن قصير لإنجاز مهمة التوبة، فإن هؤلاء يستعجلون إعلان التوبة دفعة واحدة، كما يعملون على إشهارها في الصحف والتلفزيون والمذياع والاحتفالات، والسفر إلى الخارج وإصدار التصريحات. إنه يصرخ صدقوني: أنا لم أعد معادياً للإمبريالية أنا ابن العولمة، أنا لم أعد مستلباً في القومية العربية والعروبة، أنا ابن القطر أولاً، أنا لست معادياً لإسرائيل، فقد تخليت عن العنتريات القومجية، فإسرائيل وجود يجب أن نتعايش معه، إني أعتذر من الاستعمار الذي شتمته، الاستعمار الذي كان يمكن أن يكون خلاص هذه الأمة وتحديثها.
أنا أعلن أن الصراع الطبقي مؤامرة، وأن الفقراء هم من سيدمر الحضارة.
ولأن هذا الاعتراف لا يشفي غليله، لا يني يكيل الشتائم علناً على ماضيه وماضي رفاقه، بأسلوب تفوح منه رائحة الحقد. ويعلن بقول واحد: ها أنا متحرر من اللغة الخشبية. لغة الوحدة والقومية والعدالة والحرية والوقوف ضد العدو وأميركا.. إلخ.
ولكي تكتمل التوبة فإنهم يحجون إلى عواصم الغرب فلا تكتمل التوبة إلا بالحج.
تلاحق التائب القومي واليساري عقد الذنب. وسؤاله الدائم ترى هل نُسي ماضيَّ عند من يجب أن ينسى؟ هل صورتي الجديدة قد أتت على صورتي القديمة؟
لكن الفرق بين التوبة الدينية الحقة والتوبة على الطريقة الدينية عند هؤلاء هو أن الأولى ناتجة عن الخوف من غضب الإله في الآخرة، وأن الأفعال التي ارتكبها كافية لإغضابه، ولهذا فهو يتوسل الصفح والعفو صادقاً من كلي القدرة، أما توبة بعض قوميينا ويساريينا فهي توبة من أفكار التنكب لها تغضب الأكثرية وترضي الأقلية وتقف وراءها أهداف ذاتية محضة أو حالة نكوصية شبه واعية.
أمر طبيعي أن يتغير وعي الإنسان بالعالم، ومن الطبيعي أن تتغير آراؤه حول الخير والشر والماورائيات والأهداف الدنيوية وقضايا الوطن والناس والصراع.. إلخ. وفي حالنا من غير الطبيعي أن يبقى القومي متمترساً في خطابه القديم دون تجديد وفق تغير الأحوال. وأن يبقى الماركسي أو اليساري عموماً متمسكاً بالقديم من الآراء. من الطبيعي أن نتعلم من أخطائنا فنصوّبها، ونعمّق حقائق ما بإغنائها. لكن للتوبة شأن آخر. إنها فعل لاأخلاقي بامتياز في الحال الذي نتحدث عنه، عكس التوبة الدينية الحقة فهي عودة إلى عالم القيم الإيجابي.
فأن يصبح بعض القوميين كلاب حراسة عند سلطات منبتة يدافعون عن التجزئة وميليشيات الوسخ التاريخي وينالون من أحلام الناس وأهدافهم الحقيقة فهذا فعل منحط من الناحية الأخلاقية فضلاً عن أنه موقف قوامه الكذب الصُراح.
أن يتحول بعض مناضلي الأمس إلى بوق دعاية لضرورة الاعتراف بواقعية الكيان العنصري الاستيطاني الإجلائي الصهيوني اليهودي دون أن ترف لهم جفون رافعي شعارات العقلانية والواقعية فهذا موقف منحط وطنياً وقومياً وأخلاقياً.
إنه لا يختلف عن موقف ذاك الذي يريد تحرير فلسطين من البحر إلى البحر وهو ينعم بالرفاه على حساب المناضلين الحقيقيين الذي يتضورن جوعاً.
أن ينبري بعض اليسارييّن لتبرير احتلال الولايات المتحدة للعراق فهذا هو اللامعقول بحد ذاته. سيقال لنا إنكم تعودتم على لغة خشبية. نعم. . إذ للمرة الأولى التي يُطلب فيها علناً ألا نخوّن خونة الأحلام .
خونة الأحلام يقولون: كلّ يحب الوطن بطريقته وأن الأمور نسبية، وهذا قول زائف بالمرة.
لا يمكن الاختلاف في حب الوطن إلا في الشدة والكيف. ولا يمكن أن يكون هناك تناقض في حب الوطن. فالذي يجري أن هناك تناقضاً صارخاً بين موقف هو مع تقدم الوطن ورفعته ووحدته وحريته، وديمقراطيتهم جهة وموقف ممن هو مع استعماره وجهله وتجزئته.. ثم إن القول بأن لا حقيقة مطلقة ولكن هناك نسبية مطلقة قول يجعل من النسبية مطلقة، وهذا يعني زوال المعايير بين الحق والباطل بين الحقيقة والتزييف بين الوطنية والخيانة.
نعم هناك طرق لحب الوطن ولكن يجب أن يكون الحب للوطن أولاً ثم اختيار الطريق لتعيين هذا الحب ولكن من يحب طائفته ويتعصب لها أولاً ويعتبر ذلك حباً للوطن فهذا نوع سخيف من المسخرة.
يطرح علينا الحديث عن خونة الأحلام سؤالاً مهماً: إذا كانت أحلامنا بالأصل قد أخذت طابعا أيديولوجياً، وتعينت بأيديولوجيات قد انهزمت، فهل يقودنا هذا إلى إعادة إنتاج الأيديولوجيات المهزومة؟
بالطبع لا، فالأيديولوجيا التي تموت لا تستعيد حياتها أبداً، فتجاوز هذه الأيديولوجيات يتصلب صياغة أحلام واقعية تتجاوز الواقع بلا أيديولوجيات.
لقد عاش أغلبنا في أحضان الأيديولوجيات المهزومة، وفي الأوهام السعيدة ،لكن التحرر من هذه الأحضان الباردة، والأوهام السعيدة لا يعني التخلي عن الحلم – المشروع. فحياة بلا مشروع لا تعني سوى تحول البشر إلى أشياء ذات هوية دائمة، هوية أشياء بلا إرادة.
ففكرة قيام دولة في الوطن تتجاوز واقع دولة السلطة، فكرة واقعية وضرورية ولا يمكن العيش في ظل دولة سلطة تدميرية للبلاد.
وفكرة حرية الإرادة الإنسانية، حلم ضروري للتحرر من كل ما يعيق التفكير العقلي الذي لا معنى للإرادة الحرة بانفصالها على العقلانية.
وفكرة فصل الدين عن الدولة حلم لا يصيبه البِلى إلا إذا تحقق في الواقع، وقد دللت التجربة المعيشة على خطر الأيديولوجيا الدينية السلطوية. ولا يمكن تحويل التسامح من قيمة أخلاقية إلى التسامح بوصفه دولة التسامح دون هذا الفصل.
كيف لنا أن نتجاوز شرور الدكتاتوريات والأصوليات وأشكال العبودية الناتجة عنها دون أحلام.
فأعداء الأحلام وخونتها، هم أنصار الشر الواقعي بلا منازع.