الأشياء وقيمتها وثقافتها
إذا قررت يوما زيارة الفاتيكان فنصيحتي أن تزوره بصحبة مرشد سياحي. المرشدون السياحيون في الجولات التي تنظم لمشاهدة النفائس الفنية يحوّلون الزيارة من فرجة إلى اطّلاع ووعي بأهمية ما أمامك من أعمال نحتية ولوحات. سيركز المرشد على التماثيل في مطلع الجولة، وهي في أغلبها رومانية ولا تنتمي كثيرا إلى الفن المسيحي. لكن عندما تصل إلى كنيسة سيستينيا وتنظر إلى اللوحات التي رسمها مايكل أنجلو على جدرانها وسقفها، وينبهك المرشد إلى التشابه الكبير بين التماثيل الوثنية والشخوص الذين يجسدون أجزاء من لوحات سقف الكنيسة، مثل “خلق آدم”، أو جدارها، مثل “الحساب الأخير”، تصبح اللوحات حكاية، وليست مجرد إبداع لفنان من عصر النهضة. مايكل أنجلو كان يمر يوميا على قاعة التماثيل قبل أن يصعد السقالة ويبدأ الرسم على السقوف والجدران. عيناه كانتا تلتقطان المشاهد، لتجد تفاصيل العضلات والأرجل والسيقان والوجوه طريقها إلى رسومه. هذه حكاية مختلفة عمّا يحاول مايكل أنجلو أن يرويه من قصص لأنبياء وشخوص في لوحاته. وعينا بهذا مهم لأنه يمثل انتقالة من النظر للأشياء بتبسيط، إلى التمعن فيها بعمق.
هذا مثال على المحتوى الثقافي المحيط بالأشياء. الأشياء تكتسب قيمة أكبر (ليست بالضرورة مادية) عندما نعرف حكاياتها. يمكن القول إن هذا ما جعل الغرب متميزا على المستوى الفردي عندما تتعلق الأمور بالأشياء.
خذ مثلا النظرة إلى الخمر بين عالمنا والعالم الغربي. في عالمنا، وباستبعاد التحذيرات الدينية لأن هذا ليس مكان مناقشتها، يبدو الخمر قيمة ساذجة لمشروب مسكر. ليس من باب المصادفة أن ما يعرض في حانة أو بار في فندق من الخمور في عالمنا العربي محدود. الخمر مهمة وليس ثقافة. في الغرب الشيء يختلف. الخمر حكايات. حكاية سنة إنتاجه، وحكاية جغرافيته، وحكاية صاحب الكروم وقلعته. لو تصفحت دليلا عن الخمر، وعادة ما يكون مجلدا ضخما، ستجد الكثير من التفاصيل المحيطة بكل قنينة تجدها على رفوف متجر أو حانة. من يجمع الخمر في الغرب، يخصص لها غرفا في فيلّته. هذا أحمر معمر يخزن مائلا وبرطوبة معينة، وذاك أبيض لا معنى لأن يكون معتقا ويجلس في ثلاجة. هذا من جنوب إيطاليا حيث الشمس القوية، وذاك من العالم الجديد في أميركا الشمالية أو الجنوبية، أو من تنويعات الكروم في أستراليا ونيوزيلندا. الخمر صار ثقافة.
لدي صديق محام بريطاني لا يسكن بعيدا عن داري. انتبهت في أيام الآحاد أنه يتجول بسيارة سيتروين قديمة. السيارة التي تقف أمام داره عادة مرسيدس من الموديلات الحديثة. لكن اكتشفت أن الكراجين الملحقين ببيته يختزنان سيارتين سيتروين “فينتج”، أي قديمة وليست أثرية (لا توجد سيارات أثرية أصلا). اكتشفت أيضا أنه استأجر أكثر من مرآب في بيوت قريبة لا يحتاجها أصحابها، وقام بتخزين المزيد من سيارات سيتروين الفرنسية. كلها قديمة وبحال تبدو وكأنها خرجت بالأمس من المصنع. صديقي يخصص الكثير من الوقت للعناية بسياراته. اختار مجموعته بعناية، ولديه حكاية يرويها عن كل موديل من هذه السيارات. هو لا يجمعها لأنها جميلة أو لأنه يفكر في بيعها في يوم من الأيام. هذه مجموعته الخاصة بحكاياتها التي بحث عنها واستمتع بها، وبحكاياته معها. هذه السيارات لم تعد مجرد سيارات، بل جزءا من ثقافة اقتناء السيارات.
أسواق الأنتيكات في الغرب، وفي بعض الدول العربية، هي أسواق للحكايات. ثمة الكثير مما يقال عن قطع الأثاث والمزهريات. المكتبة الغربية مليئة بمجلدات تروي قصص كل قطعة أثاث أو مجموعة أطباق وسكاكين وملاعق وأشواك. برامج التلفزيون التي تواكب مزادات الأشياء، هي برامج ثقافية بامتياز. خبراء يجلسون وهم يتحدثون عن كل قطعة معروضة وحكايتها. القيمة المادية مهمة بالطبع وينعكس هذا على أثمان الأشياء، لكن مع القيمة المادية ثمة قيمة معرفية. هذه الأشياء أو الأنتيكات تروي تغيرات العصور وتطور الصناعة أو الحرف.
فكرة الاقتناء، أو تكوين المجموعات الفردية للأشياء، هي عالم ثقافي من نوع خاص لا علاقة له بالأدب والسينما والمسرح والنقد كما نفهم الثقافة في عالمنا. لسنوات، كان هناك اهتمام بموضوع المجموعات الخاصة من المقتنيات في العالم العربي. ثمة من يجمع اللوحات أو السجاد أو الأثاث. آخرون يجمعون كتبا نادرة أو حتى صناديق أعواد الثقاب. البعض قد حرص على تدوين بعض المعلومات عن مجموعته محاولا تسجيل حكاياتها، لكن بالتأكيد لم نجد جهدا معرفيا متكاملا لرصد تلك القصص. مرات كنا محظوظين فنجد كتبا تاريخية أو كاتالوغات لمجموعات طوابع كتبها غربيون عن البريد في عالمنا، فاستزدنا معرفة. أذكر مرة قرأت كتابا جميلا أعدته معمارية عراقية عن حكاية الملابس في الإمارات. لكن تبقى محاولات متفرقة تحتاج أن تجد اهتماما أكبر من الأفراد. تلك الحكايات عن الأشياء هي ثقافة من نوع آخر لا يقل أهمية عن كلاسيكيات الثقافة العربية.