الأمل مقروناً باليأس

صورة الرجل في سرد المرأة
السبت 2021/05/01
لوحة: وليد نظامي

مؤخرا تعددت الأصوات الروائية النسائية البارزة التي تمتلك حساسية خاصة تجاه الرجل، كما تؤشر خطابات هذه الأصوات ونصوصها إلى أنها ذات موقف مغاير ورؤية ربما جديدة للرجل وكذلك القدرة على توظيفات أكثر ثراء واختلافا لوضعية الرجل وصورته على المستويين الجمالي والدلالي، وهذا أمر طبيعي وممتد في كافة العصور، ولكن بافتراض أن الخطابات الأدبية بشكل عام يمكن أن تكون كاشفة عن أنساق حاكمة للعقل المنتج لهذه الخطابات. ويمكن أن تكون ساحة لأن تتكشف فيها ملامح العقل الإبداعي أو ربما العقل الجمعي أيضا، إذ أن الأدب كثيرا ما يكون عاكسا لموقف المجتمع أو لتطوراته وتحولاته في كافة الأبعاد الحياتية، ومن هذا المنطلق حاولنا في هذه القراءة رصد ملامح الرجل وصورته وتوظيفاته وموقف الخطاب الروائي منه في ثلاث روايات حديثة.

في رواية “أسامينا” للروائية العمانية هدى حمد الصادرة عن دار الآداب بيروت 2019 نجد أن الأب يأخذ وضعية المفارقة وصورة النقيض من الأم، هو الرجل الطليعي المجدد المفعم بالأمل والحب والرغبة في التحديث والتطوير، يمنح ابنته العدل ولا ينبذها مثلما تفعل الأم وتميز بينها وبين أخيها الذكر أو أختيها الأصغر منها، ولهذا يأتي موته أو فقده موتا للشخصية الرئيسة ونهاية مبكرة لها، فتكون حية ولكنها أقرب إلى أن تكون بلا روح.

وهي رواية نفسية بامتياز لاشتغالها بدقة على مقاربة التكوين النفسي الأعمق لبطلة الرواية وأثر الأب والأم فيها، أو بالأحرى تصارع الأثرين واختلافهما أو تناقضهما، الأب الذي يغيب عنهم لأوقات كثيرة للعمل في مسقط، يبدو غير عابئ كثيرا بالعادات والتقاليد والموروثات البالية، يركز مع حياته وزوجته وابنته ويحتفظ بالذكريات الطيبة ويسجلها ويكون ولعا بالتصوير ولا يخشى من أن يبعث بابنته إلى المدارس مثل كثيرين من الأهالي الآخرين الذين يرسلون البنين إذا أرسلوا وبعد توصيات من الحكومة أو رجال جاؤوا من العاصمة لينصحوهم.

تبدو سمات الأب أو هذا النموذج للرجل على قدر من الاستنثائية، فهو ليس النموذج الغالب على الحياة، بل يبدو مثل مارق أو متمرّد وخارج على القوانين والأطر وربما تسبب هذا الخروج في كافة الكوارث واللعنات التي عاشتها هذه الأسرة بعد ذلك وإن لم يكن بشكل مباشر يمكن أن يكون لأسباب ميتافيزيقية خفية، وهذا ما يمثل هاجسا ممتدا لدى الشخصية الرئيسة. فالتسمية كانت لعنة جرّت عليهم الموت وصنعت الوحدة وأنتجت الألم، في حين أن الاسم حين انعدم أو تأخر كانت الحياة طبيعية وكانت النجاة.

في هذه الرواية المشوقة المتناغمة بين عناصر حكايتها ومفردات عالمها وتكوينه نجد أن الرجل برغم قلة مساحة حضوره في فضاء الحكاية وخطابها عن الأم يكون الأكثر جوهرية والأكثر تأثيرا في صناعة التحول أو يرتبط بعمق المأساة، فهو حتى مع غيابه يبدو فاعلا أو حاضرا لأنه قابع في الذاكرة والذكريات دوما، وحين تفتش الشخصية الرئيسة دائما عن أزمتها أو سبب كل شقائها فإنها لا تجد إلا هذه الاختلافات التي صبغ بها الأب حياتهم منذ البداية وجعلهم مختلفين عن بقية الناس من حولهم ومنحهم الأمل في حياة متميزة لكن الأمر انقلبت إلى النقيض. فهو يعمل بالتصوير ويلتقط الصور للأولاد والرجال ويحفز النساء أيضا على هذا، ويجلب الأفلام المصرية ليشاهدها مع زوجته في الإجازات حين يعود من العاصمة، ويصبح مغرما بسعاد حسني وهكذا تغار منها الزوجة وتسمّي نفسها سعاد كذلك، وتفعل أشياء غريبة عن البيئة أو الثقافة وهو ما يسبب الهجرة أو الانتقال إلى العمة ذات الفصّ منبع الحكمة والعطاء.

 وهكذا فإن كل فكر أو ذكريات أو خواطر لدى الشخصية الرئيسة حين تتأمل ماضيها أو حياتها السابقة تجعلها دائما تعود إلى شخصية الأب واختلافاته التي هي مزيج من الجمال والأمل والسعادة والرغبة في الحياة، بالإضافة أيضا إلى ما فيها من المأساوية والمعاناة والفقد والموت.

كتب

يبقى الأب من بداية الرواية حتى نهايتها عنوانا للرحمة والأمل والمحبة والعدالة والمساواة والتمرد على العادات والتقاليد البالية والرغبة في حياة جديدة، فيكون مقابلا للأم التي هي أقل حيلة وأضعف وأكثر تبعية واستسلاما للقدر واتباعا للخرافات والعادات والإيمان بها. فيشكل مع الأم قطبين كبيرين لمفارقة تمتد من البداية إلى النهاية أو تشكل شعرية النص الروائي وتبرز التناقضات في الحياة واختلافاتها أو تنوعها المثير للشجن.

على أن صورة الرجل في الرواية ليست مقصورة على شخصية الأب برغم ثراء هذه الشخصية، فهناك أشكال أخرى لحضور الرجل بصورة خلاف هذا الأب، فهو نموذج للزوج الراغب بكل قوة في الأولاد وبخاصة الذكور ولا يتوانى في اتباع السبل التي تجعله قويا بعزوته وأولاده، ويظهر هذا من خلال شخصيات ليس لها حضور مباشر في الرواية، ولكنها تحضر في الخلفية معبرة عن الإطار الاجتماعي المتسيّد أو المهيمن على الحياة في ذلك السياق الثقافي الذي أجادت الرواية في رسمه ومزج الحكاية الخاصة به، ونجد هذا متحققا في زوج الخالة صاحبة القطط الذي هجرها وتركها مع قططها لكونها لم تنجب له الأولاد، أو في زوجات النسوة الشابات الصغيرات المتدربات في صالة الأيروبك أو صالة الرقص من أجل إسعاد الزوج أو الحفاظ على أجسادهن لأجل الرجال وليس لذواتهن.

وهو ما يعمق الفجوة بين بطلة الرواية أو الشخصية الرئيسة فيها صاحبة الصوت وبين الرجال ويزيد من عقدتها أو أزمتها مع الزواج. فكأن كافة العلامات الدالة التي تَشَكَّل منها خطاب الرواية تتضافر فيما بينها لتنتج القيم الدلالية الأساسية لهذا الخطاب في نوع متقدم من الاتساق والتكامل والتناغم بين كافة عناصر العمل، وهو في الواقع تناغم نابع من كون الحكاية مرتبطة بسياق ثقافي هو المشكل الأساسي لمرجعية هذه الحكاية ومازالت أنساقه فاعلة في بنية الحكاية أو ممتدة فيها، فالعادات والتقاليد والمفاهيم السائدة عن الرجل والزواج مهما حدث لها من خلخلة أو انزياحات بفعل التطور والتقدم تبقى مهيمنة بدرجة ما ولو بصور مغايرة أو مختلفة عمّا كان في الماضي.

توظيف رمزي

في رواية “مستر نون” للروائية اللبنانية نجوى بركات الصادرة عن دار الآداب كذلك في العام نفسه نجد أن صورة الرجل تدعو إلى مزيد من التأمل، ذلك لأن الخطاب السردي وظف الرجل توظيفا رمزيا خاصا؛ لأن مستر نون هو بالأساس ليس مجرد شخصية روائية في تقديرنا وقراءتنا، بل يزيد عن هذا لأن يصبح رمزا لتخبط العقل العربي أو الإنسان العربي بشكل عام بعد مروره بقدر كبير من العذاب والظلم والقهر والاستغلال الممتد عبر قرون كما توحي بذلك الرواية عبر عدد من علاماتها الدالة. الروايتان فيهما انتحار، وبينهما روابط ما برغم الاختلاف الكبير بين الحكايتين وعوالمهما وشخصياتهما، رواية “أسامينا” انتحرت فيها بطلة الرواية الابنة التي فقدت أباها ولم تجد من أمها إلا الظلم والنبذ والتنكر والتمييز بينها وبين بقية إخوتها.

في رواية “مستر نون” انتحر الأب الذي لم يقدر على تحمل ظلم الحرب الأهلية وآثارها النفسية الممتدة بداخله، وظلم الأم المتعالية الجميلة من أصول تركية أو أرستقراطية ولا يعجبها انكساره وضعفه أو كونه طبيب الفقراء يخصص لهم يوما ليعالجهم مجانا. انتحار الأب بحسب علامات خطاب الرواية بسبب عدد من العوامل، ربما يكون منها خيانة الأم أو عدم قدرته على جعلها تقتنع بطريقته في الحياة أو لأسباب كثيرة، والحقيقة أن هذا الانتحار هو جوهر الخلل في حياة مستر نون لأنه فقد به السند والدعم وتكاثف به في نفسه الظلم والغبن والجور. وقد يرمز الأب هنا إلى التاريخ العربي القديم الذي انفصل عنه الابن الممثل لواقع الإنسان العربي وراهنه، والحقيقة أن هذه الأبعاد الرمزية للحكاية تعطي الرواية قيمة مضاعفة لأنها تربط العام بالخاص أو تجعل الحكاية الخاصة أو الشخصية تخرج عن إطار الفردية أو الذاتية المغلقة لتكون نموذجا تتم عبره مقاربة ما هو أوسع وأكبر.

يتخذ مستر نون من شخصيات أخرى بدائل لأمه يلعبن دورها الغائب ولو بشكل حتمي أو غريزي وفطري، فهو يلجأ إلى الخادمة ماري التي لم تتزوج ولم تنجب ويتمنى لو يكون لها ابنا، يطلب منها دائما مطالب قد لا تكون ضرورية ويتحجج بأسباب مفتعلة حتى تهتم به. أو تلمس مربعه السري السحري في الظهر، وهو مربع الأسرار والغرفة العجائبية التي تصبح اختزالا لكافة الأوجاع والآلام وكل ما في الذاكرة، وكأن هذه المربع هو كامل الشخصية، والحقيقة أن خطاب هذه الرواية أجاد في توظيف تلك العلامات الدالة والتكوين الجسداني في إنتاج تكوين إنساني يتسم بالكثافة والعمق والتدرج من الظاهري المادي إلى الداخلي النفسي الناعم والخفي، فكان تكوين مستر نون متدرجا ومتفاوتا ويتجاوز السطحية ليصبح نموذجا روائيا خاصا ومغايرا ويبقى حضوره في ذاكرة المتلقي طويلا.

يمثل مستر نون كافة القيم الدالة على البطالة والتعطل والعجز والحرمان والخمول وكثير جدا من القيم السلبية التي تتصارع عليه، هو ليس مجرد مريض نفسي في الحقيقة يعاني من اختلاط العقل أو الذاكرة وبعض الهلاوس أو الاضطراب في الإدراك، ولكنه يتجاوز ذلك إلى صورة كلية دالة على رومانتيكية سلبية وغير عملية، يبدو هو الأذكى في التعليم لكن أمه لا تعترف به أو تستكثر عليه تفوقه وتتمناه لأخيه الأكبر سائد الذي هو بالنسبة إليها الابن الوحيد المعترف به، فكأننا هنا أمام رمزية أكبر تشير إلى ثقافة واحدة أي منبعها الأم ذاتها، هي الثقافة الإبراهيمية وتحدث مقارنة بين إسرائيل/التي يرمز لها الأخ سائد، بتفوقها في مقابل التراجع العربي أو ضعفهم حضاريا إذا كانت هذه القراءة الرمزية مقبولة، ذلك لأن مستر نون إن كان دالا على الحالة العربية العامة، فإن سائد يدل على حال من التفوق والهيمنة والقوة والانطلاق والثقة في النفس، هو تربى مع ثريا التي تمتدحه دائما وتمنحه الثقة بالنفس والإقبال على الحياة ليحصل منها على كل ما يشاء، في حين لا يجد مستر نون غير حضن ماري الخادمة الريفية الحنون التي لا تمنحه إلا حكاياتها الخرافية وأساطيرها الدينية، فكأننا هنا أمام نموذجين متناقضين في كل شيء وبخاصة في التكوين الذهني والنفسي بين العلمي والعملي والمادي بالنسبة إلى سائد وبين الخرافي والنفسي والميتافيزيقي بالنسبة لمستر نون.

كتب

في حياة مستر نون شخصيات أخرى مهمة كان يحاول أن يلتمس فيها البديل والتعويض عن حنان الأم ودورها المفقود، ليست فقط ماري الخادمة، ولكن الشخصية الأهم بعدها هي شايغا التي أحبها وحققت وجوده وبخاصة الجانب الذكوري، ولكنه أخفق في حمايتها أو استثمار حضورها، مثلما أخفق في كل ما مضى به من اختبارات أو تحديات.

تصبح الشخصيات الأخرى من الرجال في هذه الرواية أشبه بأن تكون مرآة تتضح فيها معالم الضعف والصفات السلبية في شخصية مستر نون، بأدوائه وأزماته وإشكالياته المتفاوتة، ما بين ترهلات الجسد أو غياب البعد العملي والعيش على الميراث القديم أو أن يكون عمله مجرد أشياء شفاهية بعيدة تماما عن الأمور العملية التي تحقق الربح والمكانة. ليس سائد فقط هو الذي يمثل مرآة تتضح فيها أبعاد مستر نون، بل نجد ذلك في شخصيات أخرى مثل لقمان الدال على التفوق والذكورة والهيمنة، والأمر نفسه بالنسبة إلى مستر جو الذي يعذبه ويلقنه الدرس الأخير ويقتل حبيبته.

الرواية فيها جوانب كثيرة مهمة، لكن وضعية الرجل فيها تحتاج إلى تأمل كبير ذلك لأنها كما ذكرت تتجاوز النموذج الفردي إلى دلالة رمزية أكبر وأوسع ولكون هذا النموذج للرجل يرتبط بسياق عام أكبر هو حال من التردي الحضاري والإنساني والانهزامية المتجذرة فيه منذ الطفولة، حال من اليتم الذي لم يقدر مستر نون على التغلب على آثاره أو تبعاته، ويتبدى التهدم الحضاري عبر علامات كثيرة منها القمامة والعشوائية والرشاوى وغياب التنظيم والعدالة ورغبة كثيرين في الهجرة والفرار نحو الغرب أو البحر بشكل عام، وكأن الهجرة إلى البحر هي نوع من الانسلاخ عن الذات والماضي والتاريخ ولكنه يصبح أمرا حتميا مثلما تقفز الفئران من السفينة.

تقارب الرواية نماذج أخرى كثيرة من الرجال غير مستر نون، والجميع يتبدى في تكوينها وصورتها هذا النوع من الانهزام المتفاوت في درجته أو مدى قسوته، نماذج كثيرة من الشباب الذين يهاجرون أو يبيعون أنفسهم لسيدات عجائز أكبر منهم من أجل الحصول على الجنسية. شباب ورجال آخرون يضيعون في متاهات الإدمان وتعاطي الحشيش أو التعصب الطائفي والتشنج المذهبي والأيديولوجي بكافة أشكاله، حتى ولو كان لفرق رياضية.

مجتمع ذكوري

في رواية “سبيل الغارق” للروائية المصرية ريم بسيوني الصادرة عن دار نهضة مصر 2020 نجد أن حضور الرجل فيها يتسم بكثافة خاصة ودلالات عديدة، ومن شخصية الرجل وأنماطه العديدة ينتج الخطاب الروائي أبرز مقولاته وأفكاره ويشكل عالمه ويحدد ملامحه ويحقق ديناميكيته وحركيته أو أبعاده الدرامية وأشكال الصراع فيه. فالمجتمع الذي تصوره الرواية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هو مجتمع ذكوري ويهيمن عليه الرجال بشكل كامل، وبرغم كونها فترة تحول وبحث عن الذات أو الهوية بالنسبة إلى المجتمع المصري الراغب في التحرر من الاستعمار أو الباحث عن حريته وحقه في الحياة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المرأة المصرية، فهو برغم هذا يتشكل بشكل كامل من أفكار الرجال وأدوارهم المتفاوتة، وهي وضعية ليست سلبية بشكل كامل أو إيجابية تماما بحسب المتحقق في خطاب الرواية، بل تتنوع وتختلف كثيرا عن بعضها، والأهم أنه يتم توظيفها جماليا ودلاليا على أكثر من مستوى وجانب.

الشخصية الأبرز في هذه الرواية من الرجال بالطبع هي شخصية حسن عبدالموجود أو ومرآته أو مرجعيته الأسطورية التي يتطابق معها شخصية الشاطر حسن الذي أحب ابنة السلطان، والحقيقة أن هذه الشخصية على قدر عظيم من الثراء ويمكن بحثها من أكثر من جانب، فأولا هو نموذج له عمق تاريخي كبير، وهذا واضح ليس فقط من مطابقته مع شخصية الشاطر حسن الذي عاش في زمن سابق والاثنان تقريبا لهما الذاكرة والذكريات نفسها والشعور ذاته بالهزيمة والانتصارات وكذلك فكرة الحلول أو تناسخ الأرواح التي أوحت بها الرواية. ولكن أكثر من هذا أن كثيرا من العبارات المنطوقة على لسان الشخصية وكذلك الأحلام والأفعال أو السمات النفسية تجعل شخصية حسن نموذجا دالا على الإنسان المصري بعمقه التاريخي عبر كافة العصور، فهو صاحب علم غريب وغير تقليدي، هو علم الخبرة والتجربة الراسخة.

شخصية غرائبية أو أسطورية في أبرز جوانبها، له سمته الواقعي أو الطبيعي نعم لكنه يتراوح بين التكوينين أو الجانبين بكل أريحية ويتبدل بينهما بسهولة استثنائية، هو الشخص صاحب العلم اللدني أو المعرفة الروحية الغنوصية التي يقذف بها الله في قلبه دون معلّم من البشر أو بوسيط ورسالات سماوية رمز إليها الشيخ الزمزمي أو رسائل تاجر البندقية فهو مرتبط بعلم عجيب وغير تقليدي، معرفة لا تفرق بين الإسلامي والمسيحي، وترى الحق دون حدود أو قيود. يتسم بالقدرة على التحمل والقدرة على الثبات على المبدأ والعطاء والمعاندة في أخذ الحق والإصرار على المجازفة والإيمان بذاته وأرضه.

شخصية حسن عبدالموجود الخادم أو العبد الذي يتزوج من ابنة سيده أحمد بك ثابت ويكون محل ثقته ويظل أمينا عليها وعلى المال ويكون مخلصا في عشقه هي شخصية جديرة بكثير من التأمل والبحث، هي شخصية ذات أبعاد أسطورية ورمزية وذات طابع صوفي وتكوين يجمع بين الميتافيزيقي والفيزيقي، بين المادة وما وراءها وبين الواقعي وما فوقه، لكن حتى في جوانبها الواقعية أو الإنسانية العادية هو بالثراء ذاته، وبخاصة في إطار أفعاله وسماته المرتبطة بالعشق أو قصة الحب وعلاقته بالمرأة أو طريقة مقاومته للإنجليز أو فكرة المحتل الطامع بشكل عام، المغتصب لحقه.

كتب

في هذين الجانبين يمكن أن نستكشف سمات النموذج المثالي للرجل في الخطاب السردي لريم بسيوني التي تصبح ذات قدرات روائية خاصة بها وتجعلها واحدة من أبرز الأصوات الروائية في مصر وفي الرواية العربية على الإطلاق منذ نجيب محفوظ، ذلك لأنها تمنح الشخصية أبعادا أخرى تتجاوز كثيرا سماتها الفردية أو دلالتها على ذاتها، وذلك لأنها عبر حساسية خاصة تشكل قصة ذات منعطفات كثيرة وتحولات عديدة فتكون قصة مقصورة عليها أو غير قابلة للتكرار وتصبح علامة على صناعة ريم بسيوني وبصمتها الأدبية.

قصة الحب الاستثنائي، الحب المستحيل بحسب ما جسدت ووصفت وصورت وشكّلت ريم بسيوني في خطابها الروائي هي من القصص العصية على التكرار أو صناعة مثلها، وهي أقرب إلى نماذج أو وحدات المخيلة الجمعية والقصص الشعبي التي حدثت لها تطويرات وترميمات عديدة حتى تسد كل ثغراتها فتكون نموذجا مثاليا يبقى إلى أمد بعيد ويتم الاحتفاء به أو حكايته واجتراره على مدار قرون وزمن طويل والحقيقة هو طابع ريم بسيوني في تشكيلها لقصص الحب وتكوين شخصية الرجل وما توافر لموهبتها من القدرة التخييلية والسردية الفارقة على الإحساس بالرجل ودراما العشق وتحولاته بينه وبين المرأة، فهي من علاقة قطبين تتسلل بالتدريج إلى نفسيهما تصنع حالة سردية على قدر كبير من المتعة والتشويق ومليئة بالتحولات والشد والجذب والقوة والضعف والالتحام والفتور وغيرها الكثير مما يشكل ملامح حالة العشق والحب الاستثنائي أو المثالي عبر امتدادها في الزمن.

نعم لشخصية الرجل لديها أبعاد رمزية، وإذا كان حسن بطل الرواية دالا على الإنسان المصري في امتداده التاريخي وفاعليته في الحاضر واحتماليته في المستقبل لكن هذه الشخصية تتجاوز في قيمتها هذه الرمزية إلى عناصر أخرى كثيرة، من حيث التفاصيل والسمات وبالقياس على المستوى الواقعي الطبيعي أو غير الرمزي والأسطوري هو نموذج الرجل الحقيقي، الصادق القادر على إنفاذ وعوده والقادر على أن يكون عاشقا وحاميا بحق، إنه خلاصة معنى الرجولة، إنه النموذج الخيالي أو المشتهى أو المثالي الذي تطمح إليه مخيلة كل امرأة أو أنثى. لقد أشبع حسن في شخصية جليلة حبيبته وزوجته كل شهوة وحقق كل أبعادها، حقق لها الأنوثة والأمومة وجعلها سيدة محترمة، حقق لها الحماية والسند وساعدها على العلم.

إنه أشبه، برغم كل هذه الواقعية أو تأسيسا على هذه الواقعية، ببطل أسطوري خارق، إنه الرمز للفارس المثالي الذي تنتظره كل فتاة ليختطفها على حصانه الأبيض ولكن بتجاوز كبير لسذاجة هذا النموذج الذي يبدو ضحلا، فقد طرحته ريم بسيوني بشكل فني يتناسب وطبيعة العصر وطبيعة الذهنية الحالية للمرأة العصرية، ولهذا نجد أن قصة الحب تتعرض لكثير من المخاطر والأزمات بل إنها تمر هي ذاتها بكافة مراحل التكوين الطبيعي والاكتشاف.

وتبدو سمات البشر أو النموذجان سمات بشرية طبيعية، فيها كثير من القلق والاستكشاف والحيرة والتخبط والثقة تارة وعدم الثقة ومتى تأتي الحقيقة واليقين بين العاشقين ومتى يكون بينهما اللبس والخوف والغيرة والشك في النوايا أو رغبة طرف في إذلال الآخر أو أدور العناصر الأخرى من مشكك أو عزول أو وسيط أو دور الأم والأخت، وغيرها الكثير، لتتحقق كافة مفردات قصة الحب على نحو يجعل المتلقي مؤمنا بالحكاية وفي أقصى درجات الاندماج فيها بناء على معطياتها وتفاصيلها التي تمت مقاربتها عبرها، فضلا عن العنصر الأهم وهو التسلل النفسي ومقاربة تحولات النفس العاشقة وتموجاتها.

هذه الدراما بين الرجل والمرأة وفق هذا التكوين السردي تجعل سرد ريم بسوني ذا طابع إنساني عام، صحيح أنه يستخلص ملامحه من راهن ثقافي معين ومن محددات واقع بعينه، لكن العنصر الإنساني الثابت يبدو واضحا ويجعل الحكاية قابلة للقراءة في لغات أخرى دون أن تفقد شيئا من قيمتها فهو سرد أقرب إلى ذاك الذي نجده في الأعمال العالمية العظيمة مثل ألف ليلة وليلة أو أدب شكسبير أو غيره من وحدات الأدب العالمي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.