الأنثى، الفلسفة والحياة
ليس من الغريب، بل ومن الطبيعي جداً، أن بدأت الفلسفةُ ووُلِدَت في أثينا، أثينا مهدُ الآلهة الأنثى، فحيثما فرعنت فكرةُ الأنثى، برمزيتها للجمال والحب، وبعيداً عن تحجيمها وتكبيسها بنمط لبسٍ أو بمهمة إنجاب، ستُولد الفلسفةُ حتماً، وإذا ما اجتمعت الأنثى والفلسفة في زمان حلَت الفنون وسادت الحضارة، فالأولى هي لبُ الحب والجمال، والثانية هي أم العلوم، وما الحياةُ الدنيا سوى الكثير من الفنون والجنون، وبعض من العلوم.
ولا أتحدثُ هنا عن شرط أن يكون هناك فلاسفةٌ نساء، بل أن تكون الأنثى مُحركاً لكل ما هو حي، للفنون، للتعدد، للجمال، للآراء، للشعر، للمسرح، وللرقص والتعبد، عندها نكون وصلنا إلى المعنى الحقيقي للفلسفة، فتحُ باب الاحتمالات، ومن هو الأقدرُ على ذلك من الأنثى، وهي مَن كانت في جميع الحضارات رمز التغيير والحياة.
من المهم عند الحديث عن تطور صورة الأنثى منذ القديم، ملاحظة أنه لم يكن من العيب البوحُ والتعبير عن الحب بأكثر الصور جرأة، حيث يخبرنا المؤرخ وباحث الآثار السوري سعد فنصة ومن خلال مقالين مطولين منشورين على موقع “بلا رتوش” بعنوان “قراءة جديدة للآلهة الأم”، أنه في قراءة لعملٍ نحتي اكتُشِفَ في منطقة شاتال هيوك جنوب الأناضول من الألف السادس قبل الميلاد، والذي يمثل امرأة عارية تتربع على عرشٍ ذي مسند من الجانبيين، يمثلان نمرا وأسدا، والمرأة في حالة وضع، حيث ينسلُ من بين فخذيها رأسُ طفلٍ وليد، أما تحت قدميها فيمثل النحات جماجم إنسانية، وبحسب شرحه، يرى فنصة، أنَ هذا التمثال لا يدعُ مجالاً للشك في سيادة المرأة الآلهة الأم، باعتبارها خالقة وسائدة وخالدة، وأيضاً مثيرة للشهوات الحسية وكذلك خَصبة، أي أنها باختصار إلهة هذه الرموز مُجتَمِعَة.
مازالت المرأة تُشير إلى هذه الرموز، لكن ما اختلف في الوقت الحالي، هو الجرأة في البوح والتعبير عن الحب وعن هذه المكانة، حيث تبدلت الجرأة والتفاخر ليحل محلها العيب والميل للخفاء والتستر في البوح بذلك.
الحب هو فلسفة الشعر، الحركة، الجمال، التعدد، التنقل، الخيارات، والمسرح كذلك، ولا أقصد الحب الشخصي هنا، بل حالة المجتمع العامة بكل تجليات الحب في فنونه ومسرحه وشعره وتفاصيل علاقاته، وذلك انعكس حتى في الأديان، ففي المسيحية مثلاً نُلاحظ أن فكرة الإله المُحب والله هو المحبة، أساسُ هذه الديانة، وبالتالي كانت أقلُ تشدداً وحدودها أكثرُ اتساعاً في التفكير، فالله هو ثالوثٌ مقدس وليس واحداً أحد.
أما العقل فهو فلسفة التحليل، النقل وليس الخَلق، فالخَلق لا يمكن أن يُصار من مجتمعٍ جامد لا روح فيه، لا تعددية، وأيضاً ليس القصدُ بالعقل المنطق هنا، بل هو تنحيةُ القلب بكل ما يكتنفه من عواطف وخيال، فيأتِ المُنتَج ناقصاً وغير كافٍ لتضمين صورة الحياة البشرية، التي أساسها قلبٌ وعقل، ولا يجب أن تمشي دون أحدهما فتكون عرجاء.
استوقفتني نقطة مهمة في مقال السيد فنصة والتي أتت على جزأين بتفاصيلَ غنية، أنَ بعضَ علماءِ الآثار ربطوا بين علم الآثار وبين التحليل النفسي الذي ابتدعه فرويد، فإذا كانت العودة إلى المس السنين الأولى تكشفُ لنا سر الشخصية الإنسانية، فالعودة إلى مُقدسات ورموز تلك العصور، تكشف لنا سر الحضارة الإنسانية، وفي هذا مقولةٌ هامة لعالم الآثار جاك كوفان “إنَ الضيق الذي يصيب العالم الثالث، المُقتَلَع من جذوره ومن ماضيه الخاص، يقدم لنا في أيامنا هذه تصويراً هائلاً عن ذلك، ولهذا يمكننا البحث عن عُصاب يخص البشرية الحديثة برمتها عندما لا نقوم في المظهر سوى بتذكر طفولة حضارتنا”.
تواجدت النساء الفلاسفة بقوة ونشاط في ساحة الفلسفة اليونانية، ولعبنَ دوراً جوهرياً في تطور الفلسفة المبكرة، وهو ما تؤكده الباحثة ماري إيلين، بدءاً من زوجة فيثاغورس، وأثر المدرسة الفيثاغورسية عموماً، وليس انتهاءً بأسماء كثيرة طرحتها ماري.
لم تولد الفلسفة اليونانية من فراغ، بل أسست لها الميثولوجيا التي سادت قبلها وحلت الأخيرة بديلاً لها، احتلت فيها الآلهة الأنثى المركز المُتسيِد، فخلق ذلك حرية التفكير واللاحدود فيه، مُطلِقةً العنان ليأتِ فيلسوفٌ/ةٌ ما ويروضه، في المقابل، انحسارُ دور المرأة، والذي بدأ مع بداية التشريع ونصوص حمورابي وتحول دور المرأة من الدور السيادي والألوهي إلى دورِ التابع المُمتَلَك، أذهبَ معه تلك الحرية التي هي روح الحياة، مما أغلق باب الاحتمالات، وبالتالي أغلق باب المنطق الفلسفي. فغياب المرأة عن الحياة، ظهر تجليه في الفلسفة، ليس بين النساء كمُنتِجات للفلسفة فقط، بل كمحركٍ للرجل أيضاً.
إنَ الفترة التي عاشتها المرأة كتابعة، أفقدتها إحساسها بذاتها، بقدرتها ورمزيتها، وبداية أخذ المرأة لدورها من جديد هي استعادتها لحبها لذاتها وتعلية هذه الذات على أيّ ذاتٍ أخرى، فالرجل مُتقبل لذاته، ويعيش برغباته، أمَا الأنثى مازالت تقمع رغباتها وطبيعتها الأنثوية لإرضاء الرجل تحديداً، فلا يمكن أن تستوي هكذا علاقات إن لم تحب الأنثى ذاتها وتُعليها عما حولها من ذوات. ورغم أن الرجل في العالم الشرقي يكبت رغباته ويحاول أن يجمِل من طبيعته، ليس إرضاءً للأنثى، بل ادعاءً للتدين والأخلاق، الذي يريد أن يفرضه على الأنثى.
فلا بد من خلق حالة توازن في محبة الذات بين الرجل والمرأة، حتى نعوِل على تطوير وخلق مجتمعٍ تنويري، حتى لو وجدنا تنويرياً مازال حاضراً حتى وقتنا هذا في ترسيخ مبادئ مكانة المرأة وحقوقها كابن رشد، لا يمكن لرجلٍ أن يخلق عالمَا منيراً تحتل الأنثى مكانتها الطبيعية فيه، فالرأي عن المرأة في الفلسفات عموماً لا يفترق عن آراء الحركة النسوية في الوقت الحالي تجاه الرجل، فكلاهما ناتجٌ عن تجاربَ شخصية ورداتِ فعلٍ انفعالية، لا ترقى لأن تكون صورةً حقيقية، فشوبنهاور عادى المرأة بسبب فجور والدته، كما أرسطو تماما فيقول “إنَ المرأة لم تُخلق لا للعلم ولا للحكمة، وإنما لإشباع غرائز الرجل، وكذلك ذهب نيتشيه، ولكن السؤال هو: لماذا تستسلم المرأة أو تُتحَدَد بنظرة الآخرين إليها! لا بد من تجاوز هذه النظرة والالتفات إلى عملها.
حين كتبَ كانط كتابه عن الأنوار قال “إنَ بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان عن القصور الذي هو مسؤولٌ عنه، وإنَ المرءَ نفسه مسؤولٌ عن حالة القصور هذه عندما يكون السبب في ذلك ليس نقصاً في عقله، بل نقصٌ في الحزم والشجاعة في استعماله، ليُلَخِص قوله: كُن جريئاً في استخدام عقلك.
فالكسلُ والجبنُ هما السببان في أنَ عدداً كبيراً من الناس يُفضلون البقاء طوال حياتهم قُصَّراً، بعد أن حررتهم الطبيعة منذ أمدٍ طويل من أي توجيهٍ خارجي، وهما السببان أيضاً في أنه من السهل على الآخرين أن يُنصّبوا أنفسهم أولياءً عليهم”.
رغم أن كانط لم يشمل المرأة في خطابه هذا، بل خاطَبَ الرجل وحده، باعتباره الوحيد الذي يملك عقلًا ويستطيع أن يفكر، لكن دعونا لا نهتم بمُراد كانط ونركز على فكرته، وهي باختصار والواقع الحقيقي، فإنَ الرجل لا يفكر بكِ، بل أنت من يجب أن تفكري في نفسك، المعضلة، أنَ الرجل يفكر في نفسه، والمرأة تفكر في الرجل!
هناك أفكارٌ تُطرح ويتم ترسيخها فقط لأنَ قائلها ذو سِيط، أو مكانةٍ أدبية أو فكرية ما، ثم تتحول هذه الفكرة إلى صورة ومن ثم مرجعية لتفسير الكثير من القضايا، وفجأة تنقلب فتصبح حقيقة أو من المُسَلَمات.
مثلاً، تقول الكاتبة إيزابيل الليندي في كتابها “روح المرأة” الصادر عام 2020، ترجمة مريم ناجي، “أن تكوني امرأة، يعني أن تعيشي حياتك خائفة، الخوف من الرجال موجودٌ في الحمض النووي لكل امرأة”، يا لهذه الصورة السيئة، لماذا، وكيف نؤسس لهكذا صورة!
على مبدأ أننا نقول الفكرة حتى نصدقها، لماذا لا يتمّ التأسيس لفكرة عدم الخوف وعدم الكره، وفي المقابل عدم الشفقة كذلك على الرجل، لماذا لا نُخصي المشاعر السلبية القائمة على الإنكار لطبيعة، من الأحق علينا أن نحترمها، دون أن نخضع كنساء لسطوتها.
برأيي هذه من الأفكار التي يقولها البعض فيصدقها الكل، فلماذا نخاف من الكائن الأكثر خوفاً، ربما المشكلة مشكلةُ تحليلٍ فعلاً، فالذين يحللون يحاولون تغطية خوفهم بعكسه على الآخر، وربما كانت تجربة الفلاسفة الذكور كذلك، أي تحليلهم للمرأة والذي اتسم إلاَ فيما ندر أنه ضدها وتقليلٌ منها، هو نتيجةُ خوفهم هم، لأنهم يدركون أنَ المرأة هي محور لهم، وأنهم خائفون وعاجزون دونها، أمَا الرجل وبحكم فطرتها، فهو ليس محور اهتمامها، وإنما هي مَن جعلته كذلك، حتى بكفاحها للتخلص من سطوته، جعلته معياراً لهذا الكفاح، وأعني هنا فيما يخص النِسوية، وقد قالها الكاتب إدوارد غاليانو “في النهاية، خوفُ النساء من عنف الرجال، ما هو إلاَ انعكاسٌ لخوف الرجال من النساء المُتحررات من الخوف”.
وإذا أردنا جواباً ما هو أساسُ هذا المزيج المُتفجر من اشتهاء النساء وكراهيتهنَ، فأقول: لا يمكن أن يحبَ شخص من يتحكم به، من يمسكه من جرحه، من نقطة ضعفه، فهو بالتأكيد لا بدَ أن يكرهها، ولكن من منبع ليس أنه يحتاجها فقط، بل أنها مركزه وفي فُلكها يدور. وهذا محورٌ آخر لاستواء العلاقة بينهما.
كذلك وفي ردها على قول سيلفيا بلاث “إنَ مأساتها الأعظم أنها وُلِدَت امرأة”، تقول الليندي “في حالتي أنا كانت نعمة، حظيتُ بفرصة المشاركة في ثورة النساء التي تُغير الحضارة، كلما عشتُ أطول ازددتُ سعادةً بجنسي”. وتضيف الليندي أنَ جزءاً من سعادتها كان بولادة أبنائها، الولادة التي يعجز الرجل عن تجربة شعورها، برأيها، ورغم أنِي أختلف معها في نقطة عدم تجربة الرجل للولادة فهي برأيي نقطة لا تَذر ولا تُضيف، ولا تخلق فارقاً،، فكفى للرجل أن يكون مُحدداً، كما أنِي ماذا لو لم أُنجب، سأبقى سعيدة بجنسي، وهذا ما يهمني، هو النظر بسعادة للجنس الأنثوي، لأسبابٍ كثيرة.
فمثلاً، الطبيعة الفطرية للأنثى، هي سبب جوهري لا بدَ وأن يجعلها تشعر بالسعادة، وحيث أننِي ربما لا أعترف بفارق شدة الرغبة الجنسية بين الذكر والأنثى، إلاَ أنَه من المؤكد أنَ الأنثى غير مُحتَكِمة لسطوة هذه الرغبة كما الذكر، فتنوع السطوة التي تحتكم إليها الأنثى، يجعل الواحدة منها أقلَ وطأةً، بمعنى أنَ سطوة جميع الحاجات أو الرغبات، هي تنوع وبالتالي هي الحياة وبالتالي حرية وانعتاق أكثر.
نعم أشعرُ أننِي أكثرُ تحرراً من الرجل، وهذا الانعتاق بالفطرة الأنثوية، يجب أن تكون له انعكاساته، إلاَ أنَّ تخلي المرأة عن فطرتها أو عدم إدراكها أهميته، جعلها تنطوي باختيارها تحت السطوة المُنطوي تحتها الرجل بفطرته.
أن تعودَ المرأة إلى ممارسة سطوتها كرمزٍ للجمال وباعثٍ له ومحرك، دون خجل ودون مفهوم العيب، وكذلك الإشارة للأنثى بغض النظر عن لباسها وشعرها أو حجابها، إذ كفانا اختصاراً للأنثى بمظهرٍ معين، فالمقصد هو الأنثى كفكرة، كأرضِ الخصوبة، وليست خصوبة الأطفال فقط، بل خصوبة كل ما هو حي، كل ما هو جميل وبهي، أن يعود الإنتاجُ بشرياً وإنسانياً، فيكون حضارياً، بعيداً عن المُستهلَك اليومي.