الإقامة في جغرافية المتاهة
I
لا تتوقف الثقافة العربية عن طرح الأسئلة. وهي غالبا أسئلة كبيرة وباهظة، لكونها في كل مرة ومع كل نقاش فكري أو جمالي تطال مرة واحدة الأفكار والمصطلحات والقضايا ومشكلات جمة تتصل بالعملية الجمالية والمغامرة الفكرية والإبداعية من جهة، ومن جهة أخرى بمستويات تطال مجمل المنظومة المعرفية وعلاقة المجتمع بالثقافة والثقافة بالمجتمع والتاريخ.
ولكن هل ازدحام الأسئلة وتكدّسها وتحوّلها في ذاتها إلى مشكلة عويصة في حياة المثقفين والمبدعين، هو أمر طارئ على الثقافة العربية أم هو علة كامنة في صلب هذه الحركة لأسباب اجتماعية وتاريخية ماتزال لم تظهَّر جميعها، وتحتاج إلى درس متعمق من قبل المؤرخين والمفكرين وأهل القلم؟
من تجاربنا في الحياة العربية نرى أن ما من نقاش في قضية مهما صغرت أو كانت جزئية، إلا ويقود إلى شبكة من الأسئلة الكبرى المعقدة المرجأة والمراوحة، كما الحياة العربية المرجأة والمراوحة في أمكنتها، بل والناكصة المتقهقرة إلى ما دون السؤال والجواب معا. وهو ما ظل يضع الجميع أمام جدار عال يسد السبيل على السائل والمتسائل ومعهما جمهور عريض من الأحياء المنتظرين عند فتحة النفق، إن لم يكونوا من الذين احتلوا لقرن من الزمن رقعة المتاهة العربية.
***
المثقف العربي أثبت أنه لا يستطيع أن يكون واقعياً أكثر مما تتيح له دراما الحياة اليومية المتفاقمة والتي تحمّله أكثر مما يحتمل كائن نسبة إلى قدراته.
لطالما كان السؤال عن الفرد وإمكاناته ودوره في المجتمع حاضرا في المناقشات التي ما برحت تدور في المتاهة الثقافية العربية. لكن هذه المناقشات كان مصيرها غالبا أن ترجئها وقائع داهمة سيرجئ النقاش فيها ومن حولها انهدام وتقهقر جديدان، إلى أن وجدنا أنفسنا أخيرا في قلب الحريق الكبير.
وبدلا من أن يهتدي العرب إلى الأسئلة المفاتيح ومنها إلى مخارج تنقذهم أفرادا ومجتمعات، إذا بالمتاهة العربية تتسع أكثر فأكثر وتطبق عليهم بل وتتحول إلى جغرافيا أسطورية مقيمة داخل جغرافية الحاضر العربي.
***
لن يهتدي العرب إلى أبواب المستقبل ما لم يهتدوا إلى أنفسهم أولا. ولن يهتدوا إلى أنفسهم كجماعة، قبل أن يهتدوا إلى قيمة الفرد منهم، ليس بوصفه واحداً في قطيع يرعاه راع يسوق القطيع حيثما شاء من وهم إلى وهم ومن كارثة إلى كارثة، ولكن بوصفه كينونة قائمة في ذاتها مصونة الحقوق صائنة للواجبات، في علاقة خلاقة للفرد بالجماعة تطلق طاقاته المبدعة، جاعلة من الفرد أسوة منظورة من بقية الأفراد. ولأجل ذلك لا مناص أمام سليلي الحضارة العربية من أن يستلهموا ما أنجزته الحضارات فلا تتقوقع جماعتهم ولا تنغلق على نفسها، لا سيما في حاضر عالمي متصارع نعم، لكنه متصل ومترابط ولا سبيل لازدهار جزء منه بعيداً عن بقية الأجزاء.
هنا في صورة الفرد وعلاقته بالمجتمع وصيرورة العلاقة بينهما يتراءى السؤال الأول وحجر الزاوية الرئيس في نهضة المجتمعات وخلاصها من النكوص والتقهقر الحضاريين.
فلنفكر بالفرد، فليتفكر الفرد بنفسه، فلنكن أفراداً أولاً قبل أن نكون جموعاً، أفراداً أحراراً ولهم كرامات، كيانات وكينونات ثمينة. وهو بالضرورة سؤال فاتح يقود إلى أسئلة العلاقة لهذا الفرد بالمجتمع والحضارة.
هذا هو السؤال الأكثر جوهرية، عندما يأتي زمن يركع فيه الفرد ويعطي رأسه ليصبح مجرد عنق تجزها السكين.
فلنردد إذن مع ابن عربي:
أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
II
الحياة الحرة أقوى من كل الأفكار، أعمق من كل ما نفكر فيه بينما نحن نعبر مفردين في الجموع. بينما نحن نعبر ويهيأ لنا واهمين أننا بتنا أنفسنا. ذلك يحدث بفعل تلقين لئيم يحتّم علينا أن نكون أسوياء مندرجين في السوية الاجتماعية، وقد خسرنا أغلى ما نملك أنواتنا العميقة؛ سجيّتنا الخالصة صاحبة الأنا الحرة. ذلك هو الخضوع، نخضع لهذا التقليد ونخضع لتلك الفكرة، ونصبح عبيداً في هيئة أحرار.
لوحة: فادي يازجي
أن يعيش المرء حقاً، أن يكون فرداً وأن يظل عابراً حراً في العالم.. تلك هي القصيدة.
***
الشعر سؤال، والأسئلة هي المفاتيح. وما ولع الشاعر بالأسئلة سوى استجابة لمغامرة البحث عن اللغز. الشاعر المبتهج بغرابة وجوده هو الشاعر الذي يهتف: أنا جاهل كبير.
***
كل قصيدة يكتبها الشاعر، وهو فرد ثائر في جماعة، هي جملة في رسالة تودّع العالم بينما هي تستقبله، وإذا كان عمل الشاعر مع الكلمات هو عمل في المستقبل، ومع المستقبل، فإن فكرة الوداع نفسها تصبح التباساً كبيراً.
***
مهما كانت قصيدة الشاعرة موارَبة في قصدها، وفي زينتها ولعبها، فإن طاقة الحدس والخبرات الشعورية العميقة التي تبني الرؤى الشعرية إنما أورثت شاعرها منذ أقدم الأزمان الحس الفادح بالفقد، بالهارب من الزمن، والهارب من الجمالات، وإذا كان الشاعر هو ذلك الطفل المغترب أبداً في مرايا العالم، فإن أساه الحقيقي يبدأ عندما يكتشف أن شغفه الذي لم يتوقف في البحث عن خيالات طفولته يواجه بنصال الزمن والمواضعات اليومية المعادية لكل ما هو طفولي في مجتمعات لا تدين للسجيّة الإنسانية، ولا للفردي، أو للعفوي، بمقدار ما تدين للقناع الاجتماعي وأعماله الشريرة.
***
عندما تتجلى القصائد في خيالات أقرب إلى الكوابيس والهواجس منها إلى بستان الألوان الضاحكة في وجود ضاحك، إذ ذاك ننفذ من قشرة الوجود إلى لبّه نحو الأعمق في الكينونة.
والشعر الذي يطلع من الأعمق هو شعر جارح ويائس وحزين بالضرورة. وما قصائد الشعراء، التي يمكن للمستقبل أن يعتدّ بها، إلا نداءات يائسة، صرخات أناس في عالم يغرق. الشعر هو الصوت الحقيقة الذي اغتيل في الإنسان، في عالم مُرهق من ألم الخيانة والجريمة، فهل بقي له إلا أن يُضاء بالكوابيس؟
***
الشعر هو الشعلة الكونية والشعراء رسل أبطال في مارثون العالم. هو الروح الكونية الكبرى التي اقتسمها الشعراء وأضاؤوا بها وجودهم ولغاتهم. لذلك لا شعر وطنيا في كتاب الشعر. أسوأ الشعر هو الشعر الوطني.
III
مسألة قلما ناقشها الشعراء العرب، قلما بذلوا جهدا في تأملها وأعني بها علاقة الشعر بالفلسفة وصولا إلى ما يمكن أن نسميه فلسفة الشعر.
هل يمكن لنا أن نتخيل شعراً ذا قيمة عالية لا ينتج رؤاه ولا يبلور أسئلة من خلال علاقة الشعر بالرؤى الكونية، وهذه بالفلسفة؟ ولا يغامر ليكون له موقف من العالم والوجود.
القصيدة أولا وأخيراً موقف فلسفي من العالم، وموقف رؤيوي من الوجود. جدير بالشعراء أن يتساءلوا عن السبب الجوهري لهذا الإهمال في ثقافتنا الشعرية المعاصرة. أهو ضعف في الشعر، أم ضعف في ثقافة الشاعر ووعيه بظاهرة الشعر وبالصنيع الشعري وموقعه هو من هذه الكينونة المتصلة وأسئلتها الجوهرية.
يخيّل إليّ أن القصيدة التي لا تنتج رؤيا خاصة بها هي قصيدة ولدت بلا رأس. قصيدة مقطوعة الرأس.
***
منذ سنوات قال لي شاعر من جيلي كنت أحب شعره: ما هذا الشيء الغريب الذي تكتبه؟
قلت ما هو الغريب في ما أكتبه؟ قال هل تعتبره شعراً ؟ قلت ماذا تعتبره أنت؟ قال لا أعرف. قلت أنا أيضا لا أعرف!
وهكذا سكت بيننا كل كلام في الشعر، وكل سؤال.
ومذ ذاك وأنا ألجأ من عقد شعري جديد إلى عقد شعري أجد، متخذاً مكاني بين شعراء شباب وافقوا على اعتباري واحداً منهم. شعراء صار في وهمهم أن زمنهم لم يأت بعد. فلأكن إذن واحداً من هؤلاء.
***
يقول الشّاعر العاشق للكلمات أحبّ أن أكون شاعرا غير متحقّق لأعيش طويلا وأغامر على أمل أن «أتحقق»، وبمناسبة أنّني أريد أن «أتحقّق»أخدع خاطف الأرواح وأرسل روحي على ميل آخر، لأعيش أكثر.
***
ويقول الشاعر: كنت أحبّ أن أموت شابا لتكون لي أسطورة ما، والآن، فلأمت متى ما متّ ولكن هل من أمل أن يبقى شعري نضراً ووسيما كشاب لعوب؟!
تلك أنانية من لم يمت شاباً. على أن كل شيء في النهاية هو عبث وجودي خالص، ما دمنا نحن الشعراء لا نكف عن الجري وراء ذلك الضوء الغريب الذي يشبه ضوء نجم محترق منذ ملايين السنوات يلمع لأعيننا المشدوهة ويختفي، ونحن نطارده ونسمّيه الشعر.
IV
الشعر زائغ مراوغ متغير أبداً لا يقرّ على حال، ولا ينتهي إلى تجلّ إلا ليفارق تلك الصورة ويتحول إلى تجلّ آخر، ربما بحثا عن جوهر ما، ومعنى ما، إنما من دون صورة سبقت إليها العين.
لذلك فإن الشعر في العالم يأس خلاق؛ نبش وراء أمل ما يفضي بشاعره إلى يأس آخر. وقد يبدو ضربا من العبث.
«كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء»، كم أحب هذا السطر الشعري.
وبينما كثرة من النقاد تستدل به على البساطة الفاشلة والسذاجة لدى شاعر أعتبره من أطرف وأجمل أبيات الشعر العربي.
فلنتأمل مليا ومديدا، ولنتخيل الصورة والطلب الذي طلبه الشاعر من الصورة التي صوّر، وهو يصطاد صورته الشخصية بين صور من جلسوا. المفتاح هو في كأننا. التي تفتح أبواب الزمن لتكون صورة اللحظة، هي الصورة التي هربت، وها هو الشاعر يستعيدها.. في زمن مراوح. عاشها ورآها هاربة واستعادها، في كأننا. لم يقل إننا. ولكنه اقترح «كأننا» المخاتلة.. وليست الكاف هنا مجرد أداة تشبيه.
eأولم ير كثيرون في هذا البيت الشعري ضرباً من العبث الذي لا يقول شيئاً.
***
هل الشاعر عبر التاريخ إلا فشل ذريع دائم في اصطياد الطريدة الكبرى؛ الجمال النهائي، أوليس هذا الفشل الرائع هو الذي ظلّ يحبل بالشعراء ويلدهم في كل عصر؟
أخيراً، ما سلف تأملات تصل الأسئلة ببعضها، الجارح منها واللطيف، وتنفتح بالشعر على السؤال الإنساني، فالشاعر الذي تحدّر إلينا من وادي عبقر، ليس نبياً في كهف، إنه مواطن في مدينة بوظيفة نبيٍّ. هو سارق النار الملعون، وهو راء، وصاحب سؤال.
لندن في أواخر يوليو 2016