الإنتاج الدلالي الممتد في مجلة "الجديد"
ينطوي بيانُ مجلة “الجديد” التأسيسي على وعي مبكرِ للعتبة الزمنية الفاصلةِ بين ما قبل الربيع العربي وما بعده. حيث تنبأ البيان حينها، بأن القضايا التي ستطفو على سطح الحوار الثقافي بعد تجاوز هذه العتبة الزمنية ستكون حاسمة، ليس فقط عربيا بل عالميا أيضاً. وهو تنبؤ لا يبتعد مطلقاً عن حقيقة ما أفرزته الفترة اللاحقة لثورات الربيع العربي، من زلزال فكري وذهني وفلسفي وديني وسياسي وثقافي، هزّ الشارع العربي عن بكرة أبيه، وأدى ترافق أحداثه مع حضور ظاهرتي السوشيال ميديا والهجرة القسرية، إلى توسع ارتدادات اهتزازات هذا الزلزال العنيف وإفراز أبعادٍ وحقولٍ دراسيةٍ وبحثيةٍ جديدةٍ لدى مراكز البحث العالمية، لا تبتعد بفحواها العلمي عن الفحوى الثقافي والفكري الذي تعمل عليه مجلة “الجديد” طيلة مسيرتها في النشر وحتى هذه اللحظة.
انشغلت مجلة “الجديد” بثيمات بارزة من مثل: مفاهيم الهوية، الذات، الآخر، الشعبوية، العقلانية، نقد الأبوية في حقول الأدب والمجتمع والسياسة، العولمة وتأثيرات ما بعد الترامبية الفكرية، إفرازات الربيع العربي الكتابية والسياسية والفكرية والفلسفية، المستجدات فيما يخص التفكير والتكفير وخلفيات هذين المفهومين في الفكر الديني الإسلامي والإسلاموي، بالإضافة إلى مراجعة وتأصيل مفهوم التاريخ والتأريخ في الذهنية الجديدة.
غير غائب عن بال القائمين على المجلة، محاورةَ مفكرين بارزين، عاصروا التقلبات السياسية التي شهدتها المنطقة، لتكون هذه الحوارات بمثابة منارات رؤيوية شاملة، تسلط الضوء على مراحل تاريخية وسياسية وثقافية مرت بها منطقة الشرق الأوسط سابقاً وربطها بما نعاصره حاليا من أحداث، وتهدف هذه الحوارات من ضمن ما تهدف إليه إلى وضع القارئ في سياقات تاريخانية اللحظة المعاصرة وامتداداتها العميقة زمنياً. نالت تلك الحوارات مزيداً من الاهتمام من قبل هيئة تحرير المجلة عندما فتحوا الباب لمناقشتها من قبل قراءٍ كتابٍ آخرين، مما جعل السير والمقولات المذكورة في تلك الحوارات حية بالتفاعل.
حرصت مجلة “الجديد” مثلما هو حال معظم المجلات والمنابر الإعلامية على استقطاب أسماء مهمة للكتابة على صفحاتها، دون أن تجعل في ذلك الاستقطاب احتكارا ودائرة مغلقة، فنرى بين الفينة والأخرى أسماء جديدة تظهر وأخرى تغيب. والأمر يعود في رأيي إلى طبيعة المجلة الشهرية مما لا يسمح للكثير من الأقلام بالكتابة في المجلة، على عكس كثافة الضخ في الإصدار التي تشهدها المواقع الإلكترونية اليومية والأسبوعية. دون أن ننسى أن اشتغال المجلة على محورية الملف يجعل موضوعات النشر منمذجة مسبقا، فارضة قضية التخصص في الكتابة تبعاً لما يقتضيه محور كل ملف شهري.
تسهب مجلة “الجديد” بتخصيص الكثير من صفحاتها لفنون الكتابة والأدب فهي روح المجلة ونسغها، فلا ارتواء ولا حيوية إلا بالولوج إلى المسرح، السينما، الشعر، الرواية، القصة القصيرة وفن المقالة. ذلك الإسهاب يغتني بعناوين وأطر معرفية ووجدانية تكترث أيضا في كثير من الأحيان لطروحات ما بعد العتبة الزمنية للربيع العربي وتداخلاتها مع الفنون والأدب.
الكتابة والأثر وهي
منذ أن عرفت صناعة الأثرِ بالرسم والكتابة، طريقها إلينا نحن البشر، عرفت أيضاً قضايا التمييز الجندري طريقها إلى هذه الصناعة، مما اضطر كاتبات كثيرات إلى الكتابة بأسماء رجال من مثل ماري آن إيفانس (جورج إليوت) و أليس برادلي شيلدون (جيمس تبتري) وأمانتين أورو لوسيل دوبين (جورج ساند) وغيرهن كثر. تضمن البيان التأسيسي للمجلة في خطابه ضرورة الانتباه إلى أهمية التمثيل النسائي ليس فقط من خلال حضور المرأة الكاتبة في صفوف كتّاب المجلة بل أيضاً من خلال طرح قضايا الكتابة والمرأة بشكل متتالٍ في ملفات الجديد. ومن خلال تتبع إصدارات المجلة يلحظ القارئ نسبة إصدار ملف رئيسي على الأقل في كل عام محوره الأساسي المرأة والكتابة. وبالطبع يبقى الطموح كبيرا والرغبة أكبر في إتاحة المزيد من مساحات التعبير للنساء الكاتبات، بوصفه طموحاً وشاغلا أساسياً من شواغل صناع الثقافة والفكر التنويري فيما بعد ثورات الربيع العربي، وأحد أوجه التمرد على كل ما أفرزته أنظمة القمع من طرق تهميش للإنسان وحرياته، وتشويه لمفهوم العدالة الجندرية على كل الأصعدة بما فيها الصعيد الفني والأدبي والفكري.
الجماليُّ المنتِجُ
الجانب الجمالي شكلانيا وبنيويا للمجلة لا يغيب عن بال المطلع على إصدارات “الجديد” وصيرورتها. يشغل العنوان الكلي على غلاف المجلة موقع المنتج الدلالي لمحاور موضوعات المجلة. فانسجام تكوين المجلة في جوانبه المتعددة، محتوىً وفنا، هو أحد ما أتابعه أنا شخصياً. إن عناصر البنى الفنية من أشكال ورسوم وألوان وكيفية تقاسمها نص العنوان في العتبة الأولى للمجلة؛ عتبة الغلاف، يولّد صيغة مميزة من التشكيل اللوني واللغوي، بقدر ما يوحي بالتماسك والقصدية بقدر ما يعلن عن بنى نصية متفجرة الدلالات. وبالتالي ظهور تأويلات ومعانٍ جديدة إلى سطح القراءة لا تنتهي بمجرد إغلاق المجلة بل تمتد دلالاتها في ذهن القارئ مثل ألوان اللوحات المضمنة بين دفتيها إلى أن تستقر في منطقة الذاكرة!
امتازت مجلة “الجديد” على غيرها من إصدارات ما بعد الربيع العربي بكونها مجلة ورقية وإلكترونية في آن معاً، وبالرغم من أن معظم عملي البحثي والأكاديمي منخرط بالعالم الرقمي من خلال قراءتي الظواهر الثقافية والاجتماعية ضمن المسارات الرقمية، إلا أنني ما زلت من جيل الورق، الجيل الذي اعتاد أن يلمس الورق بأصابعه ويشم ألوان الطباعة أثناء تقليب الصفحات. وهو ما أفتقده منذ أن بدأت مظاهر كوفيد تنتشر في العالم وبات العالم الرقمي أكثر طلباً وانحسر التداول الورقي حتى لمجلة “الجديد” ذاتها وهو ما آمل أن يعود قريباً.
أتمنى كل التوفيق لجميع القائمين على مشروع مجلة “الجديد” الفكري، وانشغالهم بالحفر الهادئ المنظم لعاملي الطرح المبتكر والجودة الفنية في إصداراتهم المتتالية.