البحث الاجتماعي في الدراسات الثقافية
لا يخفى ما للنقد الأدبي في العالم اليوم من مكانة تعكسها مؤسسات ومراكز بحث تصل أهميتها إلى مستوى صنع القرارات الاستراتيجية لمختلف القطاعات الحياتية السياسية والدولية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والبيئية وغيرها. وممّا عزز فاعلية هذه المؤسسات النقدية وزاد في أهميتها ووسّع مجالات عملها ما تشهده ميادين الفكر والمعرفة من تعابر في التخصصات (Trans specialty) فيها النقد متداخل ومتجاور مع بقية فروع الفنون والآداب والعلوم على اختلافها وتنوعها. وواحدة من تجليات هذا التعابر التخصصي تداخلا وتعددا وتنوعا الدراسات الثقافية التي وسعّت نطاق العمل النقدي سواء في معاييره المقنّنة أو في مفاهيمه ونظرياته، جاعلة منه فاعلية ثقافية لكن بالتقنين المعياري ذاته وانضباطية مفاهيمه النظرية نفسها وبما يحفظ للنقد هويته ويمنع تلاشي وظائفيته أو فقدان أهميته المعرفية. وما ظهور أنواع من النقد “جديدة” كالنقد الثقافي والنقد المعرفي والنقد البيئي والنقد النسوي والنقد التاريخي وغيرها سوى أنماط من تلك الفاعلية الثقافية التي أضفتها على النقد الأدبي الدراسات الثقافية بوصفها فرعا من فروع النقد الأدبي تعزز من صلاته المعرفية وتساهم في تطور آفاقه وتنوع أمدائه. فغدا الناقد مثل الطبيب يجمع إلى تخصصه الأول تخصصا آخر إذا كان هذا التخصص الآخر متجاورا ومتداخلا مع تخصصه الأول مشتركا معرفيا معه بمشتركات صميمية.
انعكست بعض صور التعابر النقدية على نقدنا العربي المعاصر، وظهرت دراسات ثقافية متداخلة التخصصات وبعضها كان موجودا من قبل أن يُنظِّر له الغربيون لكنه لم يكن يحسب مع النقد الأدبي كدراسات نازك الملائكة الثقافية وكتابات علي الوردي حول الظواهر الاجتماعية والنفسية، ولا ننسى الأبحاث القديمة ككتابات الجاحظ. أما الدراسات الثقافية العربية التي تبنت الطروحات الانفتاحية ما بعد الحداثية في تحليل قضايا الأدب والثقافة فمالت إلى توصيف نفسها في الغالب بأنها نقد ثقافي.
وكان كتاب الدكتور عبدالله الغذامي “النقد الثقافي قراءة في أنساق الثقافة العربية” الصادر في طبعته الأولى عام 2000 ذا تأثير في أن يشيع مسمّى النقد الثقافي على حساب مسمّى الدراسات الثقافية. وقد اختلفت الدوافع وراء هذه الإشاعة فمن الانبهار بالدراسات الثقافية الغربية إلى التفلت من معايير النقد وخصوصية مناهجه واصطلاحاته بحجة أن النقد الأدبي صار عاجزا لا يؤدي مهامه وأنه وصل إلى طريق مسدود وأن لا حاجة جمالية تقتضي وجوده.. إلى آخره من التقولات التي سوّغت ذاك التفلت، وما عاد عمل الناقد يرتهن بأي مواضعات أو اشتراطات. وصار النقد الثقافي وسيلة بها يسبغ أنصاف النقاد قيمة على كتاباتهم، مغطين على ما لديهم من نقص معرفي وضعف منهجي وقصور احترافي.
فكثر كتّاب المقالات الإنشائية والتعبيرية الظانين أنفسهم نقاداً ثقافيين. وأنّى للمزاجية أن تكون نقداً وأنّى للنقد أن يكون مستسهلاً بلا أدوات نظرية ولا عُدد منهجية وحصافة مهنية حتى غدت محصلات ما أُنتج تحت مظلة النقد الثقافي مخيّبة للتوقع، فلقد طفت إلى السطح كثرة كاثرة من النقاد الساعين بمحمومية – وكأن في أفئدتهم غلاً من النقد الأدبي – إلى تدبيج كتابات بلا منهجية علمية ولا رؤية اصطلاحية. وحجتهم أنهم يكتبون نقدا ثقافيا ولا يهم بعد ذلك إن كانوا مستلين من هذا أو ساطين على ذاك ولا عابئين بتمييز غث النصوص وهجينها ولا هم مدركون كوع النقد من بوعه ولا حابله من نابله، لجهلهم النقدي وضعف أذواقهم وأدواتهم وإمكانياتهم.
وبدلاً من أن يكون للتعدد في التخصصات والانفتاح في الدراسات الثقافية خير على نقدنا الراهن فإنه كان وبالا عليها، على عكس النقد الغربي الذي ساهمت دراساته الثقافية في فتح آفاق معرفية مستحدثة في مجالات الأدب والفكر والجمال.
من الجدير بالذكر أن استشراء الكتابات الإنشائية لا يعني أن النقد الانطباعي انتعش لكون ممارسة هذا النقد تحتاج موهبة هي بمثابة بوصلة تعين الناقد على فرز النصوص الأدبية وتحليلها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن للنقد الأدبي أن يستعيد رصانته ويصد غلواء التطلع والتنطع غير المشروعين لكتّاب وأدباء يهوون ممارسة النقد ولا يسعون لامتلاك أدواته ولا يتعبون أنفسهم في تهيئة عدته وعتاده وفي الوقت نفسه يعزز هذا النقد مسار الدراسات الثقافية داخله وبما يساهم في تنوع آفاقه وتوجهاته؟
بالطبع يمكن للنقد الأدبي أن يحدَّ من هذه الظاهرة لو كانت له مؤسسة تضبط العمل النقدي وتسمح بممارسته من لدن من تزوّدوا في الأقل بأبجديات النقد التي تؤهلهم لاكتساب معارفه والتفقه في نظرياته ومدارسه. لكن غياب هذه المؤسسة لا يعني أن النقد الأدبي بلا حماية أو رقيب، إذ تظل البراعة فيه والاستزادة منه إبداعا وتناميا معلومة لدى القراء من المتخصصين والمتابعين، والناقد الأدبي الأصيل دال على أصالته من دون حاجة إلى أيّ دليل خارج متونه النقدية.
ومن العلوم التي جُمعت في الدراسات الثقافية، علم اجتماع الأدب وفيه يتجاور المنهج الاجتماعي في النقد الأدبي مع طرائق البحث الاجتماعي الإجرائية والأكاديمية. وسيكون هذا النوع من الدراسات الثقافية مثالا تطبيقيا على ما ذكرناه من الظاهرة آنفا، راصدين المساحة المتاحة للدراسة الثقافية من جراء التداخل المعرفي بين النقد الأدبي وهو يعتمد على منهجية اجتماعية والنقد الأدبي وهو يعتمد على مواضعات علم اجتماع الأدب.
الاجتماعية منهجاً.. الاجتماع علماً
تحلَّى النقد الأدبي منذ الثورة الكوبرنيكية بالعلمية التي استمد أصولها من مناهج منضبطة في أطر نظرية وبمرجعيات ذات أبعاد فلسفية وبحواضن فكرية شتّى. وظلت هذه المناهج في حالة تغير وتوسع مستمرين. ومنها المنهج الاجتماعي الذي بدأت بوادره تظهر في القرن التاسع عشر من خلال الاهتمام بدراسة الأدب كظاهرة فنية في نطاقها البيئي وتفسيرها في ضوء المعطيات الشخصية للأديب وبيئته في العصر الذي عاش فيه. ويعد كتاب مدام ديستال “الأدب في علاقاته بالمؤسسات الاجتماعية” الأول في تطبيق هذا المنهج ثم شاع في نقد الروايات الواقعية. وما أن ظهرت البنيوية حتى خفتت حدة هذا المنهج وتراجعت. وغدا النقد البنيوي مهيمنا بتنظيراته النصية لكن سعي بعض منظري البنيوية إلى التوفيق بين النصية البنائية والسياقية الاجتماعية للأدب أدى إلى أن يستعيد النقد الاجتماعي بعض أهميته وكانت حصيلة التداخل بين المنهج الاجتماعي والبنيوية المنهج السوسيونصي على يد لوسيان غولدمان.
ومع ظهور نظريات الانفتاح ونظريات ما بعد البنيوية تزايد التداخل في التخصصات والمنهجيات بين المناهج والعلوم في مرحلة ما بعد البنيوية وتوسعت الدراسات أكثر فتعدى النقد الاجتماعي منطقة المنهج والوظيفة ليكون علما قائما بذاته سُمّي علم اجتماع الأدب.
وأول دراسة بشّرت به كانت لشوكينغ في كتابه “سوسيولوجيا الأدب” عام 1931 أما غي ميشو فكان أول من أطلق علنا فكرة السوسيولوجيا الأدبية في كتابه “مدخل إلى علم الأدب” عام 1950 [1]. ثم تجلى هذا العلم واضحا في منتصف القرن العشرين مع لوكاش ولويس ألتوسير ثم لوسيان غودلمان وكتابه “المنهجية في علم الاجتماع الأدبي” وبيير ماشيري وكتابه “نظرية الإنتاج الأدبي” وبيير زيما وكتابيه “النقد الاجتماعي” و”نحو علم اجتماع للنص الأدبي” وبيشوا وكتابه “التاريخ الأدبي الفرنسي” فضلا عن دراسات أخرى كثيرة لكودويل وتيري إيغلتن وإدوارد سعيد وفرديك جيمسون وجان ماري كاريه وهنري بير وتيبوديه وروبير إسكاربيت.
وقد حظي هذا العلم بالاهتمام عالميا وعربيا وغدت مفاهيمه واصطلاحاته توظف في نقد النصوص الأدبية على اختلاف أجناسها. وصار الباحثون الاجتماعيون ودارسو الأدب على بينة من مواضعات الدراسة الاجتماعية العلمية للأدب التي هي مختلفة عن مواضعات النقد الاجتماعي.
وإذا كان المنهج الاجتماعي قد شاع تطبيقه في نقدنا العربي من لدن أغلب نقادنا المعاصرين ومنهم فاضل ثامر ورئيف خوري وعمر فاخوري وشكري محمد عياد، فإن المنهج السوسيونصي عرفه كثيرون أيضا وطبقوه على نصوص شعرية وسردية وعلى وفق سياقاته الموضوعية، وطبقه باحثون جامعيون مثل الدكتور حسين الواد في أطروحته “البنية القصصية في رسالة الغفران” وطاهر لبيب في أطروحته “سوسيولوجيا الغزل العربي الشعر العذري أنموذجا”.
أما علم اجتماع الأدب فلاحت بوادره الأولى في كتابات بعض المفكرين الذين تمتعوا بحس نقدي ثم أخذت تظهر دراسات جامعية عربية تطبق التداخل المعرفي بين النقد الأدبي وعلم اجتماع الأدب الذي غدت مفاهيمه واصطلاحاته توظف في نقد النصوص الأدبية على اختلاف أجناسها. وصار الباحثون الاجتماعيون ودارسو الأدب على بينة من مواضعات الدراسة الاجتماعية العلمية للأدب التي هي مختلفة عن مواضعات النقد الاجتماعي.
وأولها كتاب المفكر السيد ياسين “التحليل الاجتماعي للأدب” عام 1970 الذي يعد رائدا في تطبيق علم اجتماع الأدب ثم توالت الدراسات مثل كتاب “السوسيولوجيا والأدب” لقصي الحسين وغيره كثير.
والفروق في التحليل النقدي كبيرة بين تبني المنهج الاجتماعي وبين العمل على وفق مواضعات علم اجتماع الأدب والأسباب متعددة، منها:
1- أن مقولة “الأديب ابن بيئته” هي عامة وبديهية في المنهج الاجتماعي بناء على معادلة هيبوليت تين (العرق/البيئة/الزمن) ومحصلتها علاقة انعكاسية ثنائية بين الأديب ومجتمعه، يسعى الناقد إلى تحديدها وهو يحلل سيرة الأديب ويشرح مضامين نتاجه الأدبي ويفسر أثر المجتمع فيها بينما يرتكز علم اجتماع الأدب على علاقة ثلاثية الأطراف هي “الأديب/النتاج الأدبي/القارئ” وبما يجعل تأثير الأدب في المجتمع متجسدا من خلال تأثير المجتمع في الأدب.
2- أن الاجتماعية كمنهجية محدودة التطبيق بينما الاجتماعية كعلم قائم بذاته هي متشعبة تمتد إلى حقوق المؤلف وعلاقة نتاجه بالجمعيات الأدبية والجمهور الثقافي وطرائق التمويل والتسويق وسياسات الكتاب والسمات الثقافية.
3- يحتل المؤلف المحور في النقد ذي المنهجية الاجتماعية بينما يكون النتاج الأدبي هو محور الدراسة الاجتماعية للأدب من ناحية عدد صفحات النتاج ومدى انتشاره وتأثير مضمونه على المجتمع وحكم الناس على قيمته وإقبال القراء عليه واستهلاكه وتعديه الحدود الجغرافية التي طبع فيها لينتشر خارجها فضلا عن محددات ثقافية تتمثل في انتماء الكاتب إلى قطاع أو جماعة أدبية وحدود هذه الجماعة وهل هي محدودة تدور في نطاق طبقة المثقفين مثلا أم إنه ينتمي لجيل أدبي ترك أثرا وارتبط بظواهر اجتماعية معينة [2].
4- كل أديب صالح للنقد الاجتماعي لكن ليس كل نتاج أدبي صالح للدراسة الاجتماعية للأدب إذ لا بد من أن يكون له تأثير اجتماعي في الناس به تتوكد أطراف علم اجتماع الأدب أي الأديب ونتاجه الأدبي والجمهور القارئ.
وإذا كانت الدراسة الاجتماعية للأدب مستجدة بالقياس إلى النقد الاجتماعي، فإنها مع ذلك أقوى منه فاعلية من خلال هذا الاهتمام المتزايد بالدراسات الثقافية من لدن الباحثين وفي مختلف أصقاع العالم.
وعلى الرغم من مضيّ زمن ليس بالقصير على الدراسات الثقافية التي فيها يتداخل النقد الأدبي بعلم اجتماع الأدب، فإن بعض الباحثين الاجتماعيين ومعهم بعض النقاد ممن تحجرت أدواتهم فاعتقدوا أن المنهج الاجتماعي هو نفسه علم اجتماع الأدب أو تصوّروا أن الدراسة الاجتماعية للأدب جديدة.
وليس أدل على هذا الأمر من مرجعياتهم التي تقف عند حدود علماء الاجتماع كماركس وفيبر وغيرهم ممن عنوا بالوجود وظواهره الكونية، متصوّرين أن هؤلاء هم أنفسهم منظرو “علم اجتماع الأدب” وليس خافيا ما للمرجعيات من أهمية في الدراسات الثقافية إذ بها يوطّد الباحث الاجتماعي تحليلاته النقدية ويقوّي مقارباته. وليس حال الباحث الاجتماعي المتأخر عن ملاحقة ركب الدراسات الاجتماعية إلا كحال الناقد متحجر المنهجية، فكلاهما يدّعي في العلم باعا وهما ليسا كذلك.
وكثيرة هي الدراسات الثقافية التي حاولت دراسة واقعية الرواية العراقية دراسة اجتماعية لكن بعضها قام بها باحثون مؤرخون ومحللون اجتماعيون. وقد تفاوتوا في تحليلاتهم النقدية سواء باتّباع المنهج الاجتماعي أو باتّباع علم اجتماع الأدب. وسنأخذ رواية “جلال خالد” مثالا روائيا لعينتين: الأولى وظفت المنهج الاجتماعي فاتصفت بالمكنة النقدية، والأخرى وظفت علم اجتماع الأدب فلم توفّق فيه.
المنهج الاجتماعي والمكنة النقدية
مدَّ النقد الأدبي الحديث صلاته مع الفلسفات الواقعية مستمداً منها “منهجه الاجتماعي”، ووظفه في تحليل النتاجات الأدبية من ناحية تأثير المجتمع فيها. وقد شهد هذا المنهج رواجا كبيرا مع تصاعد الدعوات الإصلاحية الثورية والواقعية الاشتراكية. وصار النقاد الاجتماعيون يهتمون بالمضامين على حساب الأشكال وفنية بناها الداخلية.
ومن الدراسات الثقافية التي اتسمت بما تقدم وهي تتناول رواية “جلال خالد” دراسة المؤرخ الاجتماعي السياسي “حنا بطاطو” المضمنة في القسم الثاني من كتابه “العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية”.
وقد عبّر بطاطو عن وعي نقدي وهو يحلل ظواهر المجتمع. وابتدأ في مستهل كتابه آنف الذكر بتأكيد أهمية المرجعيات ولاسيما آراء كارل ماركس وماكس ويبر بالنسبة إلى الباحث الاجتماعي، رافضا ما قيل عن عدم إمكانية تطبيق التحليل الطبقي الاجتماعي الكلاسيكي على المجتمعات العربية [3]. وقد خصص لرواية “جلال خالد” مساحة نقدية وافية وظف فيها المنهج الاجتماعي فكان ناقدا ثقافيا بناء على المناحي الآتية:
1- جمع بطاطو بين التاريخي والنقدي مفكرا في النتاج الأدبي كوسيلة ثقافية، واهتم بطبيعة التجنيس الأدبي لـ”جلال خالد” وإذا كان مؤلفها محمود أحمد السيد (1903 ـ 1937) قد عدها قصة، فإن النقاد عدوها رواية ووافقهم بطاطو “ظهرت الرواية بعد مرور فترة قصيرة على الأحداث التي ذكرناها وكانت هذه الرواية وهي الرواية العراقية الأولى مبنية على وقائع حقيقية ولقد استخدمت كوسيلة لترسيخ معتقدات جديدة ولعبت دورا في التشكيل الأيديولوجي للشباب العراقي. وكان جلال خالد بطل الرواية نوعا من خليط غير مميز من الرحال والسيد ولكنه يحمل ملامح لا يمكن تجاهلها من طباع الثاني المهتزة والرومانسية” [4].
2- ارتكازه المنهجي على سيرة الروائي جعله يخالف الرأي القائل إن جلال خالد هو المؤلف نفسه ـ مما كان قد ذهب إليه عمر الطالب وغيره [5] ـ بل وجد أن البطل جلال خالد هو حسين الرحال صديق الروائي “أول روائيي العراق ولكن ما لا يعرفه إلا القلائل هو أن الأفكار الجديدة لصديقه الرحال أسهمت في إيقاظ مواهبه الأدبية ولا بد لنا من الإشارة فورا إلى أن هذه المواهب لم تكن ذات شأن كبير، بل من المشكوك فيه إمكانية اعتبار روايته جلال خالد أو قصصه القصيرة أعمالا فنية ومع ذلك فقط نجح السيد وإن عن غير وعي إلى حد ما في رسم الصعوبات والحيرة التي كان يعانيها أبناء جيله وفي إضافة شيء ما إلى معرفة العراقيين بأنفسهم” [6].
3- ما كشفته له نزعته التحليلية من أن فنية الرواية لم تكن تناسب مضامينها الاجتماعية، بمعنى أن كاتبها لم يعط للجانب الفني اهتماما بقدر ما أعطى للجانب الفكري “كان لرحلة قام بها إلى الهند عام 1919 أن تفتح أمامه آفاقا جديدة وثرية ولكن أفقه الذهني بقي أكثر اتقادا وتهورا.. كان يستسلم بسهولة لنوعية جمالية الكلمات أكثر مما يفعل بالنسبة إلى محتواها الفكري. وكان التصاقه بالشيوعية عبارة عن عاطفة أكثر منه قناعة” [7].
4- عدم الاقتصار على دراسة سيرة الأديب الاجتماعية وإنما أيضا شخصياته وموقع كل شخصية في السلم الاجتماعي للمحيط الأدبي وطبيعة مواردها الاقتصادية التي تحدد لنا مستواها الاجتماعي. فحلل بطاطو شخصيات الرواية في ضوء الحدث الاجتماعي الكبير المتمثل بثورة العشرين ومنها شخصية البطل الذي فسر بطاطو سبب فشله بما كان يسود المجتمع العراقي آنذاك من مشاعر الخيبة “يسقط جلال في غياهب الخيبة واليأس فعزل نفسه عن العالم واستسلم للكتب وأدار الأصدقاء له أذانا صماء فيصرخ: هكذا لم تكن حماستكم إلا فقاقيع تنفجر في الهواء. ويبكي شاعرا بألم عميق وتنتهي الرواية عند هذه الفكرة المرة” [8]. كما حلل شخصية الفتاة اليهودية ذات الجمال الأخاذ وكيف أن لها تأثيرا كبيرا على البطل جلال خالد “حرّك فيه الانتماء إلى الإنسانية” ثم حلل شخصية الثوري الهندي سوامي وقد التقى به جلال خالد مصادفة في أحد فنادق كالكتا.
5- الارتكاز على قاعدة علمية ذات مرجعيات تاريخية في تحليل ظاهرة الرواية في المجتمع العراقي التي بدأت مع مطلع القرن العشرين، مفسّرا أسباب نموها والعوامل التي ساهمت في هذا النمو. وأهمها نشوء أولى التنظيمات الماركسية التي معها نشأت حركة أدبية واقعية في العام 1924 فلقد أدى حدث صغير إلى خلخلة روتين الحياة اليومية في بغداد يتعلق بجمعية سرية اسمها “الحزب السري العراقي” [9]. تضم أناسا غير معروفين ومنهم أرسين كيدور الأرمني البغدادي ومعلم التاريخ في المدرسة السلطانية وكان فيها يدرس أحد التلاميذ الذي ما زال صبيا في الحادية عشرة وسيكون أبرز مفكري العراق المعاصر وسيسمّى قاسم أمين العراق هو حسين الرحال أول ماركسي في العراق [10].
6- استند بطاطو إلى معايير اجتماعية وهو ينتقي عيناته الأدبية أو مجموعاته الجيلية فيخضعها للدراسة، فوسع مثلا ميدانه الاجتماعي إلى التاريخ والميثولوجيا والاقتصاد والبيئة كما تماس مع التاريخ السياسي في العراق آنذاك والتطورات الفكرية التي طرأت على مثقفيه ووجهت أساليبهم توجيها أدبيا وصحافيا. فبين أن الرحال/جلال خالد كان يملك صحيفة اسمها “الصحافة” تأسست عام 1925 وأنه كان يملك وعيا فكريا “إن حسين الرحال الذي أصبح في هذا الوقت طالبا في مدرسة الحقوق في بغداد شكل في العام 1924 ما كان بالفعل أول حلقة دراسية ماركسية في العراق أو أنه بث بالأحرى أول العناصر الماركسية في تفكير جماعة أدبية لا رسمية كانت موجودة قبل ذلك التاريخ.. وكان من بين أعضاء الجماعة محمد سليم فتاح ومصطفى علي وعوني بكر صدقي ومحمود أحمد السيد الذي كان أبرز من في الجماعة بفارق كبير” [11]، وليس غريبا بعد هذا كله أن يكون حسين الرحال بطلا من أبطال أول رواية عراقية.
7- قابل بطاطو بين ما في الرواية من أحداث سردية متخيلة وما في المجتمع من وقائع تاريخية، ولم ينشغل بسيرة المؤلف “محمود أحمد السيد” حسب وإنما انشغل أيضا بالدلالات الرمزية للرواية في إسناد البطولة إلى شخصية جلال خالد التي هي واقعيا تشير إلى حسين الرحال “هي رواية كتبها محمود أحمد السيد وتعتمد في بعضها على تجربة الرحال هناك إشارات متكررة إلى تبادل البطل في الهند للأفكار والمشاعر مع صحافي هندي ثوري” [12]. ومما أكده تاريخيا هو أن حسين الرحال سافر فعلا إلى الهند عام 1921 عبر البصرة مع صديقه “محمود أحمد السيد” وتوجهت بهما السفينة إلى كراتشي وهناك بقي الرحال سنة وقيل إنه احتجز لأسباب غير معروفة. وأورد بطاطو معلومات شخصية كثيرة عن الرحال فهو من عائلة عراقية ميسورة وكان لها أسطول من السفن يتاجر عبر أنهار العراق والخليج والهند وقد تلقى تعليمه الثانوي في ألمانيا وإنه كان على ثقافة عالية ومن الثائرين على التخلف والحانقين على العادات البالية والداعين إلى تحرر المرأة وكان يكتب مقالات تنويرية يعرض فيها مسائل فكرية كالحتمية في المجتمع وتحرير المرأة.
8- قارن بطاطو بين تجربة البطل جلال خالد السردية وتجربة حسين الرحال الواقعية “يظهر جلال خالد في مطلع الرواية شخصا موزّعا وغير منسجم ويقال لنا بأنه شخص تسيطر الكبرياء عليه وينظر إلى رفاقه من عل. وكان جلال خالد الرواية يختال بثياب مكلفة وينفق الكثير من وقته في صالات بغداد الكبرى. وبالرغم من ذلك فإنه كان يشعر في قرارة نفسه مع المحرومين والمضطهدين ولكنه لم يكن يستطيع فعل الكثير من أجلهم ولذلك استسلم لليأس وكان يتذبذب بين المشاعر الإنسانية الحائرة والتدين المقيت والمتزمت والقومية المتطرفة” [13]. واستشهد بمقاطع من الرواية مؤكدا أن في الإحباط والمرارة اللذين يتخللان الصفحات الأخيرة من رواية “جلال خالد” انعكاسا للمشاعر التي كانت تسيطر على الرحال وجماعته “كانت الجماعة في الواقع قيد التفكك ولا يصعب معرفة بعض الأسباب التي تتلخص بالقيود المفروضة من قبل الحكومة والتفكير الذي ما زال قويا للتقليديين، وبلادة القسم الأكبر من الناس ولا شك في أن كل هذه العوامل ثبطت حماستهم. وهناك أسباب أخرى لما حدث قد تفهم من الصورة الذاتية التي تبرع الرحال برسمها إذ قال كنت هاويا فقط وإلى هذا كنت دوما أكثر اهتماما بالنظرية وبالخطوط الرئيسة للأمور” [14].
9- لم ينس بطاطو المسائل الفنية، فالتحولات النفسية الداخلية التي طرأت على جلال خالد ساهمت في تصاعد الحبكة السردية وجعلت البطل في تنازع مع محيطه الخارجي “عندما غادر بلده التعيس والمستعبد وفي قلبه غصة في مطلع العام 1919 وكانت تجربته الأولى قد بدأت على متن السفينة التي نقلته إلى الهند ويبدو أن قدره العابث أراد أن يسخر من آرائه التي تخصه وحده والتي مضى عليها الزمن” [15]. ومحصلة ما انتهى إليه بطاطو هو أن مصير البطل جلال خالد هو نفسه مصير حسين الرحال “شوهد حسين الرحال وهو يستحث مشاعر المتظاهرين عند طريق جسر الخير حيث بلغ الهيجان ذروته ووجد رجال الشرطة صعوبة في الصمود أمام الضغط الغاضب المجيش وهذه آخر صورة توفّرت لنا عن الرحال كثوري لأنه بعد حل نادي التضامن في أعقاب هذا الحادث وباستثناء ما أفيد عن مراسلاته مع العصبة المضادة للإمبريالية والقمع الاستعماري مال الرحال إلى الراحة واستسلم كليا لحياة كسولة وروتينية” [16]. ومن المحصلات الثقافية التي توصل إليها حنا بطاطو في بحثه الاجتماعي لهذه الرواية: إن الاختلاف والانقسام أمر مألوف جدا في الحياة العربية وأن الكواكبي كان قد شخص هذه الحالة قبل هذه الرواية بزمن إذ كتب في العام 1900 يقول “أصبح كل منا أمة قائمة بذاتها” [17]، وأن في التقارب العائلي سببا في انتشار الأفكار، فمحمود أحمد السيد ابن عم لإخوة مثقفين هم يوسف إسماعيل وشقيقه عبدالقادر إسماعيل أحد مؤسسي صحيفة الأهالي الاشتراكية وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي 1959 ـ 1960 ورئيس تحرير اتحاد الشعب ثم عبدالفتاح إبراهيم ابن عم محمود السيد وكان زعيما لحزب الاتحاد الوطني الماركسي 1946 ـ 1947.
علم اجتماع الأدب وقصور الأداء النقدي
على الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت اجتماعية الرواية العراقية، فإن المجال يظل متاحا لإعمال النظر الدائم في هذه الرواية من هذه الزاوية خصوصا أن أكثر ما قيل في واقعيتها الاجتماعية وفي تحديد بداية كتابتها متوافق حول حيثيات، بدت من كثرة تداولها كأنها ثوابت أو بديهيات. وهو ما يقتضي ممّن يتصدى إلى قراءة خارطة السرد العراقي خلال مئة عام أن يعيد التفكير مفككاً تلك الثوابت والبديهيات، بحثا عمّا هو مخزون في ذاكرة القصة والرواية من خفايا وأسماء وتجارب قصصية امتلكت طاقات غفل عنها النقد العراقي أو أهملها ولم يعرها بالاً.
وإذا كانت المؤسسة الرسمية قد اعتبرت المئة العام المحصورة بين 1921 والعام 2021 مناسبة وطنية تستدعي الاحتفاء على مختلف الصعد والمجالات ومنها السرد الذي كان ضمن مساعيها الاحتفائية أيضا. فسعت المؤسسة الثقافية إلى تكليف من رأتهم مناسبين ليساهموا في مشروعها الذي وصفته بـ”الغوص عميقا بمئويات العراق لاستخراج الدرر المهمة التي أسهمت بصناعة هذا البلد” [18].
وكانت مهمة التكليف مسندة إلى د. لاهاي عبدالحسين فألفت كتابها “من الأدب إلى العلم دراسة في علم اجتماع القصة والرواية العراقية للفترة 1920 ـ 2020” [19]، وفيه حاولت وضع دراسة ثقافية توظف فيها علم اجتماع الأدب.
وارتباطا بالقسم الأول من بحثنا هذا سنأخذ عينة من الكتاب وهي رواية “جلال خالد” ونحلل الطريقة التي بها طبقت المؤلفة ـ كما قالت ـ مفاهيم علم اجتماع الأدب أو لا؟ ولكن قبل ذلك علينا أولا أن نحدد خمس مسائل لا بد لمن يطلع على هذا الكتاب من أخذها بعين الاعتبار وهي:
1- لم تذكر المؤلفة المعايير التي استندت إليها وهي تحدد المدة الزمنية بين 1920 ـ 2020 والظاهر أنه تحديد مرتبط بالمناسبة المراد الاحتفاء بها وهي حدث مرور مئة عام على قيام الدولة العراقية ولا علاقة لهذا التحديد بالأرشفة والتوثيق الإحصائي الكمي أو النوعي لما نُشر من منجز سردي عراقي من البواكير إلى ما انتهى إليه اليوم.
2- عدم الاكتراث بتوظيف أيّ مفاهيم نقدية لها صلة بمساقات السرد واصطلاحاته، وأول دليل على عدم الاكتراث هو اختيارها سبعة أدباء قررت دراستهم. والسبب برأيها أنهم عاشوا خارج العراق وبعضهم مات خارج العراق، وهو سبب لا علاقة له بالقضايا الأدبية ومسائل الفن والإبداع كما أن لا مسوغ علميا له من الناحية الاجتماعية.
3- لا وجود لأيّ فصل أو تمييز فني أو جمالي بين أجناسيتي القصة والرواية، ومن ثم خلت التحليلات على طول الكتاب وعرضه من التأشير النقدي على مناح جمالية لها صلة برصد عناصر البناء السردي وطبيعة الوظائف والمساقات التي يتبعها السارد وأنماط هذا السارد وعلاقة السرد (ساردا ومسرودا ومسرودا له) بالقارئ.. إلى آخره من العناصر التي على وفقها يحدد الباحث ما في حبكات القصص والروايات من متانة نسج أو عدمه ومن ثم يقف على حقيقة قدرة الكاتب الفنية في التعبير عن أفكاره وفاعلية ما يوصله من رسائل إلى القراء.
4- الخطل المنهجي الخطير بين ما تصوّرت المؤلفة أنها تتّبعه وهو علم اجتماع الأدب وبين ما اتبعته وهو المنهج الاجتماعي والذي هو الآخر ما استوفت أبعاده ولا وظفت مفاهيمه، فكانت اغلب تحليلاتها تصب في باب الكتابة الإنشائية والتعبير الأدبي بعيدة لا عن ساحة الدراسة الاجتماعية للأدب الذي “يستبعد حكم القيمة الجمالي ويطور نظريات جمالية تستعين بالمفاهيم الاجتماعية..” [20]، بل عن ساحة النقد الاجتماعي نفسه.
5- ومن تبعات عدم الدراية بالمنهج الاجتماعي وافتراقه عن علم اجتماع الأدب ـ وبسببها وقع الكتاب في هفوات كثيرة بالعموم ـ إهمال المؤلفة ما تراكم حول المنجز السردي العراقي من نقود اجتماعية. وقد مارس بعض السراد العراقيين النقد جنبا إلى جنب الكتابة السردية. ولا يمكن لأيّ دارس لمنجزنا السردي أن يتغاضى بأيّ حال من الأحوال عمّا تراكم من هذه النقود الاجتماعية التي كُتبت على طول مسيرة السرد العراقي منذ الثلاثينات والى اليوم لاسيما إذا كان هذا الدارس مهتما بمناحي السرد الواقعية والاجتماعية. وإلا كيف له أن يعرف أن قصة ما أو رواية نالت من الدراسة الاجتماعية أكثر من غيرها أو بالعكس تنوسيت ولم تنل اهتماما ومن ثم يكون للدارس قصب السبق في نفض الغبار عنها وإظهارها إلى النور.
هذه هي المسائل الخمس التي نضعها في اعتبارنا ونحن نقف إزاء الطريقة التي اتبعتها المؤلفة في تحليل رواية “جلال خالد” وطبيعة ما فيها من ظواهر المجتمع وقضاياه.
وبدءا نقول إن الباحث الاجتماعي الذي ينوي دراسة رواية مثل “جلال خالد” لن يرتكن إلى تخصصه وحده كي يقدم مادة بحثية تتوازن فيها كفتا الميزان البحثي بين منهج هو اجتماعي وموضوع هو أدبي سردي. أما إذا ارتكن الباحث إلى تخصصه الذي لا يفرّق فيه بين أمر النقد بمنهج اجتماعي وأمر النقد المتحايث مع علم اجتماع الأدب، فإنه بالتأكيد سيقع في مطب انفراط حبل الموازنة؛ أولا لانفلات المنهجية وثانيا لعدم اكتمال أدوات النقد وثالثا غياب الفرضيات المرسومة. وفي مقدّمة ما نرصده من مطبات انفراط حبل الموازنة عند المؤلفة هو أنها لم تضع في حسبانها جماليات الشكل ولا خصوصية التجنيس، بل كان جل عملها موجها نحو البحث عن المضامين وحسب وهي “الخذلان/هل تهجر الوطن/أفكار التقدم والاشتراكية/مفهومات وقضايا جديدة: القناعة/ الإخوة/موقفه من المرأة/العصبية العشائرية والفقر في الريف العراق”، مع الافراط في ذكر نصوص الرواية التي فيها ترد تلك المضامين أو ما يقاربها. وهو أمر داومت على اتّباعه في تحليل قصص محمود أحمد السيد الأخرى ورواياته وكذلك مقالاته فضلا عن أنها اتبعته أيضا في تحليل الأعمال الأخرى المدروسة في الكتاب.
وقد ابتدأ بحثها عن المضامين بذكر سيرة القاص كما ثُبتت في أعمال محمود السيد الكاملة التي جمعها د. علي جواد الطاهر ود. عبدالإله أحمد من دون أيّ وصل بين هذه السيرة وانعكاسات أثرها في المضامين.
واعتبرت المؤلفة بطل الرواية هو صديق محمود أحمد السيد ولم تحدد اسم هذا الصديق لكنها ذكرت أنه كتب مذكراته ومنها استقى السيد هذه الرواية بعد أن استأذنه في ذلك.
ولا يخفى أن البحث في سيرة الكاتب وسياقات حياته وأسرته وعلاقاته هو جزء من المنهج الاجتماعي الذي يصفه بيير زيما بالحساسية “تجاه الشكلية ولا يهتم أبدا بالبنى الدلالية والسردية وهو عاجز عن تعريف الأيديولوجيا” [21]، فالمنهج الاجتماعي يوجه اهتمامه فقط إلى الوعي الفردي في توظيف المضامين القصصية وصلتها بظواهر المجتمع التاريخية وما فيه من أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية إلى جانب الارتكان إلى معايير الجماعة الاجتماعية وقيمها ومحرّماتها وقوانينها مما يتعلق بالأخلاق والأيديولوجيا والاستلاب وغيرها.
أما ما كتبه النقاد عن واقعية رواية “جلال خالد” والرؤية الاجتماعية لكاتبها فلم تولها المؤلفة اهتماما كما لم تول عناية إلى ما ذهب إليه بعض الدارسين من أن محمود أحمد السيد قلّد فيها بعض القصص المترجمة الأجنبية.
ولا مناص لأيّ دارس يهتم برصد المضامين القصصية والروائية من أن يختبر فاعليتها الشكلية من خلال الوقوف عند الأساليب السردية التي اتبعها الكاتب وجماليات ما أسفر عنه استعماله لها وأثر ذلك في سائر منجزه القصصي والروائي من جهة وأثره في الجيل الذي ينتمي إليه أو الأجيال التي بعده من جهة أخرى. وهو أمر ليس سهلا على الدارس القيام به ما لم يكن قد فحص المنجز السردي بكليته، أي من أواخر القرن التاسع عشر إلى العقد الأول من القرن العشرين. وإذا كانت رواية “جلال خالد” تصب في باب الواقعية الاجتماعية، فإن مراجعة ما تراكم عن دراسات حولها ستسفر حتما عن كمّ من المضامين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والتربوية والدينية التي تصورت المؤلفة -لعدم رجوعها إلى ما تراكم من نقود حول هذه الرواية – أنها تكتشفها لأول مرة.
فلم تكترث باشتغالات المخيلة السردية، بل ظلت في حدود رصد المضامين التي كانت شغلها الشاغل حتى أنها عدت رواية “جلال خالد” وثيقة “يسجل السيد في هذه القصة لمرحلة مهمة من تاريخ العراق الحديث” [22]. وكثيرا ما كانت تغالي في الإشادة بما يطرقه محمود أحمد السيد في قصصه من مضامين، فمثلا عدته أول من تطرق إلى المعنفات من النساء مع أن قبله عشرات الكتّاب والشعراء الذين ظهروا في عصر النهضة وعرفوا بمواقفهم التحررية والتنويرية في الدفاع عن المرأة ناهيك عن الشعراء المجايلين له ممن اهتموا بالمرأة وتعليمها مثل الزهاوي والرصافي والقصاصين الذين عاصروه أو جاؤوا بعده مثل عبدالمجيد لطفي ولطفي بكر صدقي وسليم بطي وذنون أيوب وعبدالحق فاضل وشالوم درويش وجعفر الخليلي.
ليس ذلك حسب، بل اقترحت “أن تصبح قراءة قصص محمود أحمد السيد المدرس البغدادي لازمة لطلبة القصة والمهتمين بالتاريخ الاجتماعي الحديث للعراق” [23].
وقد يعتذر للمؤلفة أنها ليست ناقدة وإنما باحثة اجتماعية حددت في المقدمة غاياتها وتتمثل في مسألتين هما: تأثير المجتمع في الرواية والقصة وانعكاس المجتمع في ما يكتبه القاص والروائي من أدب.. بيد أن المؤاخذة تظل قائمة إذ أن من يخلط في منهجيات تخصصه الأساس والأصلي لن ينجو حتما من هفوات التخصص الذي يريد أن يجاوره أي “النقد الأدبي” لأنه فيه مجرد هاو يمارسه باجتهاد شخصي، غير متمتع بالعدة النقدية الكافية، واضعا نفسه في مرمى سهام الاعتراضات التي سيسددها له النقاد والكتّاب على حد سواء. أما ريادية محمود أحمد السيد في هذه الرواية – التي سبقتها رواية عراقية كتبها سليمان فيضي هي “الرواية الإيقاظية” ونشرها عام 1919 – فلم تنشغل المؤلفة بالبحث في أسباب ريادتها بل سايرت الكلام المعتاد في أنها دارت “حول الانطباعات التي تركتها ثورة العشرين في نفس مواطن عراقي مثقف” [24]. لكن ماذا عن رواية أخرى لمحمود احمد السيد كتبت في عام الإرهاص بالثورة أيضا وتحمل مضامين اجتماعية كثيرة هي “في سبيل الزواج” وهي أيضا محملة بمضامين اجتماعية لكن المؤلفة لم تهتم برصدها؟
السبب بالطبع هو تقليدية النظر إلى هذه الروايات من الناحية الاجتماعية والغفلة من الناحية النقدية، ولو اتبعت المؤلفة أسلوب الدراسة الاجتماعية التي فيها تتحايث البنية الاجتماعية اللغوية للعصر مع البنية السردية للنص الروائي لاستمدت من علم اجتماع الأدب ما مكّنها من الولوج إلى خفايا جديدة ولتوصلت إلى استنتاجات حول أسباب عدم عد “الرواية الإيقاظية“[25] رائدة مع أن كاتبها لم يكن ساذجا وهو يستند إلى تراكمات ما تضمنه السرد العربي القديم من موضوعات وأساليب واستمد من فن المقامة ما يمكّنه من اكتشاف ما في القاع المجتمعي وتحتياته الغائرة من أسرار لا تظهر إلى السطح إلا بعين سارد خبير عليم أو ذاتي.
وتجدر الإشارة إلى أن د. عمر الطالب كان قد أكد أن حسين الرحال ذهب إلى أن “الرواية الإيقاظية” هي رواية وذلك “في المقدمة التي كتبها لرواية في سبيل الزواج لمحمود أحمد السيد وإلى هذا الرأي ذهب محمود أحمد السيد نفسه أيضا في كتابه السهام المتقابلة الصادر عام 1922 حيث قال: أما الروايات وهي أهم ما يكتبه الكاتبون في العصر الحاضر فقد قيل ان بعضهم كتب شيئا من نوعها بيد أننا لم نر إلا ‘الرواية الإيقاظية’ لسليمان فيضي الموصلي التي طبعت أخيرا” [26].
وإذا كنا لم نأخذ على حنا بطاطو مسألة تركه الخوض في الريادة فلأنه لم يكن معنياً برصد السرد العراقي في مئة عام لكننا نؤاخذ المؤلفة لاهاي عبدالحسين التي كان من المهم لها أن تعطي رأيا في إشكالية الريادة ولماذا هي تحددت في “جلال خالد” وليس في “الرواية الايقاظية”؟ وما ملابسات التاريخ الأدبي حولهما؟ وألا يجدر بالسرد العراقي أن يتصدر الأدب القصصي والروائي العربي؟ أليس في إعادة قراءة موضوعة الريادة ما يفتح طريقا للحقيقة وقد يرفع الحيف ويؤشر على ما قد نسيه مؤرخو الأدب العربي والعراقي؟
ختاما.. فإن سعة المنهج الاجتماعي الإجرائية في تحليل النصوص الأدبية، تدلل على أن تطورات كبيرة في الدراسة الاجتماعية حصلت على يد منظري الأدب الواقعي ومنظري البنيوية فكان علم اجتماع الأدب حصيلة طبيعية لذلك التطور الذي تجلت أمداؤه في الاهتمام المادي الجدلي بالبنى الدلالية والسردية معا من دون فصل بين الذات والموضوع أو الوعي والعالم وجماليات التلقي والقراءة.
ومن الدراسات الثقافية التي دارت حول السرد الروائي وفيها تلاقى النقد الأدبي بعلم اجتماع الأدب دراسة حنا بطاطو لرواية “جلال خالد” وفيها اعتمد على المنهج الاجتماعي في رصد تأثير المحيط الاجتماعي في هذه الرواية موثقا بعضا من سيرة الروائي”ولد محمود أحمد السيد من أب عربي وأم هندية أفغانية. ووالده كان إمام جامع الحيدر خانة”. ثم حلل الرواية من دون أن يجعل الاجتماعية تغلب النقد ولا النقد يمحو الاجتماعية بعكس تحليل د. لاهاي عبدالحسين لهذه الرواية وفيها حاولت اعتماد علم اجتماع الأدب لكنها تطبيقيا اعتمدت المنهج الاجتماعي فلم تستطع تجاوز تخصصها كمحللة اجتماعية وهو ما جعل دراستها تُقصِّر نقدياً في بلوغ مرادها الاجتماعي.
الهوامش:
[1] سوسيولوجيا الأدب، روبير اسكاربيت، ترجمة آمال أنطوان عرموني، منشورات عويدات، بيروت، 1978، ص 34.
[2] ينظر: المصدر السابق، ص 26.
[3] العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية العراقية( الكتاب الأول) حنا بطاطو، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، القاهرة، ط2، 1995، ص 21.
[4] العراق، الحزب الشيوعي (الكتاب الثاني)، حنا بطاطو، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، القاهرة، ط2، 1995، ص 49 ـ 50.
[5] يقول “يسبغ السيد على بطل الرواية جلال خالد صفاته الخاصة وتلتقط مخيلته من مجرى حياته موضوع الرواية” الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث الجزء الأول الرواية العربية، عمر الطالب، ص90. ويعد عمر الطالب أول من بحث في الرواية العراقية ودرس واقعيتها الاجتماعية.
[6] العراق، الحزب الشيوعي (الكتاب الثاني)، ص 43.
[7] المصدر السابق، ص 44.
[8] المصدر السابق، ص 51.
[9] المصدر السابق، ص 39.
[10] المصدر السابق، ص 40.
[11] المصدر السابق، ص 43.
[12] المصدر السابق، ص 41.
[13] المصدر السابق، ص 49 ـ 50.
[14] المصدر السابق، ص 51 .
[15] المصدر السابق، ص 50.
[16] المصدر السابق، ص 49 وذكر أنه الرحال عمل إلى ثورة 1958 سكرتيرا عاما لمجلس إدارة السكك الحديدة العراقية.
[17] ينظر: المصدر السابق، ص 52.
[18] من كلمة دار الشؤون الثقافية على جميع مطبوعاتها المؤلفة ضمن سلسلة “مئوية العراق” وبأغلفة موحدة ـ على شاكلة ما فعلته هذه الدار في سلسلتها “بغداد عاصمة الثقافة العربية” عام 2013 ـ والغرابة هي في ما في ورد في هذه الكلمة من تناقض، فالفقرة الأولى تقول “ولادة العراق الحديث وتشكله المعاصر من الدولة والتحولات والديكتاتوريات والانقلابات والحروب والحصارات” ثم تنقض الفقرة الثانية ذلك “ان العراق الحديث لم تصنعه الحروب والصراعات إنما صنعه الفن..”.
[19] من الأدب إلى العلم دراسة في علم اجتماع القصة والرواية العراقية للفترة 1920 ـ 2020، لاهاي عبدالحسين، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2021.
[20] النقد الاجتماعي، ببير زيما، ترجمة عايدة لطفي، دار الفكر للدراسات والتوزيع، القاهرة ، ط1، 1991، ص 41.
[21] المصدر السابق، ص 143.
[22] من الادب الى العلم دراسة في علم اجتماع القصة والرواية العراقية للفترة 1920 ـ2020، د. لاهاي عبد الحسين، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2021، ص 71.
[23] المصدر السابق، ص 107.
[24] المصدر السابق، ص 35.
[25] لم يكن سليمان الفيضي جاهلا وهو يصف عمله بالرواية مما لم يفعله محمد حسين هيكل في ( زينب) التي عدت أول رواية عربية مع أن كاتبها لم يضع اسمه عليها بل كتب فلاح مصري كما لم يكتب على غلاف طبعتها الأولى المنشورة عام 1914 كلمة رواية وإنما كتب قصة.
[26] الفن القصصي في الأدب العراقي الحديث، الجزء الأول، ص66ـ67