البحث عن موت مغاير
الفعل، في كل أشكاله، عملية توريط للذات في أشكال الاختبار التي تقود إلى بناء الهياكل (الفرضيات) التي تؤدي إلى قيام الرؤى. والسؤال هو: هل تورطنا في أفعال صحيحة طوال عمر البشرية السابق؟ كل ما تورطنا فيه هو شؤون جانبية فعلاً، أقصد فلسفياً طبعاً، في حين أن ما كان علينا التورط في فعله هو البحث عن – كحد أدنى طبعاً – شكل موت مغاير لما ألفناه، ومنذ نهاية آلاف السنين الأُول من حياة البشرية.
لماذا شكل موت مغاير لما ألفنا؟ لأن شكل الموت الذي نعانيه الآن هو صيغة غبية جداً وغير هادفة طبعاً؛ غير هادفة لا لنا ولا لمشروع الحياة، بل ولا حتى لصيغة إنهائها ككل، أقصد في نهاية مشروع الحياة الفاشل الذي نعيشه، منذ لحظة سقوطنا من حفافي نهر العسل، كما تقول الأسطورة التي بين أيدينا، وحتى هذه اللحظة من حياتنا.
تثبت لنا عملية ازدراء الجسد، في تحليلها النهائي، أنها ليست سوى عملية إمعان في الحط من كينونة الذات الإنسانية التي وجد عليها ومن خلالها، وعملية تتفيه لمسعاها في البناء الذاتي وحريته وشعور تفوقه في هذا الوجود، بصفته الكائن الأكثر نضجاً وتفوقاً من بين الكائنات التي تشاركه الحياة على هذه الأرض.
تصر جميع الأيديولوجيات الدينية، وتشاركها في هذا بعض الفلسفات أيضاً، على أن الإنسان وجود غير فعال بذاته، وإنه ليس سوى أداة تافهة بذاتها، تستخدمها قوة كبيرة لصالحها، رغم عدم وضوح هوية هذه القوة ومكانها ولمس وجودها ومكانتها المتفوقة. وقد كرس طول مدة هذا التثقيف شعوراً قوياً من تفاهة الذات ومحدوديتها، وأنها لا تصلح لأن تكون أكثر من مفعول به لغرض آخر، غير ما تحسه من سبب لوجودها، رغم عدم رؤيتها لهذا الغرض (المسبب) وصفة سموه وتفرده.
الإنسان، وفي أوقات توقده الذهني وتألق وعيه، يشعر شعوراً مؤكداً أنه أكبر من مجرد شيء، وعليه فإنه يقاوم وباستماتة، فكرة مسخه وتتفيهه بأن يكون ضحية للقدر وأن يكون مجرد شيء ملعوب به ويقاد إلى حتف أو نهاية أكثر تفاهة من تفاهته الذاتية وتفاهة وجوده.
إن نزعة مقاومة الإنسان لقضية موته، التي يراها جائرة وغير هادفة، بحد ذاتها، بدأت مع بداية وجوده في الحياة، وهو من تلك اللحظة عمل على إثبات ذاته والرفع من شأنها، فكرياً عن طريق التفكير وإيجاد وسائل إغناء الذات معنوياً، وعملياً عن طريق العمل، وتحويل هذا العمل إلى منجز إبداعي، عن طريق العلم، إلا أن سيطرة الاتفاق البورجوازي (لنختصره بشكل الدول وسلطاتها القاهرة) أو سيطرة التافهين على سلطات العالم وصناعة القرار الدولية أيضاً، كما يسميها الفيلسوف الكندي ألان دونو وعملهم على تحويل الآخرين من البشر إلى مجرد تروس في ماكنة الإنتاج الاقتصادي التابعة أو المملوكة لشركة الإدارة (الحكومة أو الشركات الكبيرة التي تقترب من شكل الدولة)، التي حلت محل مفهوم الدولة الراعية، حال دون تحقق جزء من الهدف (طاقة العلم والفلسفة والفكر والثقافة) إلى مجرد تابع لنظام الشركة الكبيرة التي لا يهمها غير الربح المادي، والذي جاء على حساب الإنسان في ذاته، تتفيهاً لها والحط من أهدافها السامية (غير المادية) لأنها لا تصب في تعظيم موارد الشركة المادية ومكاسبها.
إن استمرار الموت على ممارسة إرادته القمعية، تقول للإنسان في ذاتيته، إن معركتك مع الوجود، العالم، والحياة، خاسرة في كل حال ورغم كل إنجاز تحققه، لأنه في النهاية، يأتي – الموت – ليصادر كل جهودك ووجودك وينفي ذاتك إلى مجهول أعمى لا عودة منه، ويقول لك: أنت مجرد رقم على سبورة الحياة وها أنا أمسحك بخرقة صغيرة وإلى غير رجعة. لماذا، وما قيمة الحياة التي ضيعتها في العيش وبناء الحياة إذن؟
لماذا هذه النهاية الغبية القاسية؟ لماذا هذا الموت الوحشي؟ لم لا يكون الموت أنيقاً ولطيفاً و(نظيفاً) على الأقل، بمعنى ألا يكون بخسارة الإنسان لذاتيته وطمسها بهذه الطريقة الغليظة البغيضة؟
منذ بداية وجود الإنسان على الأرض وهو مقتنع ويصرخ أن الموت ليس هو الحل لمعضلة وجوده في حياة هذا العالم؛ وهذا لا يعني تمسكه بنظام الحياة الذي يولد فيه بالضرورة، ولكنه يرى، ومقتنع تمام الاقتناع، أنه مادام قد ولد في الحياة فإن الموت ليس هو الحل المناسب لإشكالية هذه الولادة، التي لم يخترها. ما هو الحل إذن؟ للإجابة على هذا السؤال يتحتم علينا تحديد شكل المشكلة وسببها: أين تكمن مشكلة وجودنا؟ لماذا نحن هنا ولأيّ هدف لتنهى حياتنا بهذا الموت الرخيص البشع؟ إن كان لا بد من إنهاء حياتنا، ونحن لا نعرف لمَ ولأيّ غرض تنهى، فلمَ لا تنهى بطريقة جميلة وأنيقة وشفافة، لا تخلف الألم والحزن؟ (سأذكر هنا، ودعماً لفكرة عدم نظافة الموت، أن الدين الإسلامي يفرض على المسلمين الاغتسال عند ملامسة الميت، وطبعاً للتطهر)، فلماذا نموت بطريقة (وسخة أو لنتحول إلى نجاسة)، إن كان لا بد من موتنا؟
لماذا علينا أن نموت لنتحول إلى جيف نتنة؟ إن كان لا بد من عملية إنهائنا وإخفائنا، فلمَ لا نعود من حيث أتينا؟ ثمة من سيتذمر الآن ويقول إن هذا تبسيط ساذج وغير معقول، فما المعقول في تعقيد صورة الموت الحالية، على من يموت وعلى ذويه ومن يحبونه وسيفقدونه ويفتقدونه، وخاصة إذا ما جاء الموت بعد صراع قاس مع المرض؟ الموت عملية قهر لذات وإرادة الإنسان، لمَ هذا القهر غير الرحيم؟
لمَ لا يكون حل التخلص من الإنسان بطريقة الإخفاء المفاجئ الذي لا يسبب ولا يخلف ألماً؟
الموت صيغة عدم احترام للإنسان وعبث لامبال بذاته؛ معاملة بمنتهى القسوة تدلل على الاستخفاف والامتهان والحط من قيمة الإنسان… لماذا ولصالح من؟
إن الموت عملية تحطيم وسحق عنيفة وغير مسؤولة لذات الإنسان؛ والغريب أنها لا تُقبل من قبل الإنسان لأخيه الإنسان ويجرِّم عليها مرتكبها، ويعاقب عليها القانون بأشد العقوبات، الموت المقابل، فلمَ تقبل بخنوع من إرادة الموت الخارجية أو من مصدر (الألم الميتافيزيقي)، بتعبير كولن ولسن وعلم النفس الوجودي؟
وبالنسبة إلى الإنسان، وفي أغلب أوضاعه الفكرية والنفسية والأيديولوجية، باستثناء الأيديولوجيات الدينية، فإن الموت مبني على حالة من سوء الفهم من قبل الطبيعة، والذي لا بد من إزالته، وهذا ما عملت عليه ومن أجله معظم الفلسفات، ولكن سوء الفهم والتخلف والخوف دفعا الغالبية من البشر للاستسلام لجبروت الموت، بعد أن سوقته الأيديولوجيات الدينية على أنه أمر طبيعي وخلاص ميتافيزيقي يقود إلى نعيم سرمدي؛ وأنه بديل منطقي للحياة بقصورها وجفافها وحرمانها. وهنا يأتي السؤال، بأبسط صور التلقائية: مادام الموت هو مرحلة أو طريقة انتقالية لحياة أجمل وبلا معضلات وهموم، فلمَ لا يكون أنيقاً وجميلاً ومفرحاً، بدل موت التعفن والتفسخ والاندثار؟ وهنا علينا أن نُذكّر أن جميع الأديان لم تقدم أيّ تفسير مقنع للموت، كآليات اشتغال وأسباب، وبدلاً عن هذا التفسير انشغلت بمطالبة الإنسان بالتطهر والنقاء الذي يؤهله لدخول عالم الموت، من أجل الفوز بجائزته التي يختزنها له.. والنقاء الذي تطالب به الأديان هو الالتزام بتعاليمها، بالدرجة الأولى، وليس معياره القيم والمعايير الأخلاقية، وهي، وعلى أساس تعاليمها الخاصة، تجرّم وتكفّر الآخرين وأنظمة قيمهم وتحرمهم من نعيم الجنان، وليس بموجب المعايير والقيم الأخلاقية، غير الدينية. وطبعاً من لا يلتزم بتعاليم الأديان سيكون موته شنيعاً، قبل أن يلاقي أهوال العقاب، أثناء موته ومن جرائه، إضافة إلى عقاب يوم إدانته وحسابه. وأغلب صور العقاب التي توردها الأدبيات الدينية، هي تكرار عملية الإماتة لأثر أهوال العقاب بالحرق بالنار. ومن هنا يكون جلياً لنا أن الموت، بحد ذاته هو عقاب، بل وأشد أنواع العقاب.
من نافلة القول أن نذكر هنا أن كل دين يحتكر الصلاح لقيمه ونظمه الأخلاقية، فلماذا يموت صالحو جميع الأديان إذن؟ وهذا ليس تشكيكاً منا بصلاح الأديان، بل هو خطوة لإكمال دائرة الجدل أو إيصالها إلى نهاية دورتها، وفقط لتتضح الصورة، في شكلها الجدلي النهائي، باعتبار الفلسفة، في وجه من وجوهها، مشروعاً من مشاريع النقد.
الموت مصير الجميع، ولكن ليس حسب رؤية (بلينيوس الأكبر) التي تقول “(ليستِ الحياةُ أمرًا مرغوبًا به حتّى يُزاد في أمدها بأيّ ثمن. كائنًا مَنْ كنتَ، فإنّ موتك مُؤكّد، وحتّى لو كانت حياتُك مملوءةً بالرّجس والإجرام. أهمّ العلاجات بالنّسبة إلى عقلٍ مضطربٍ ومهمومٍ هو ذاك الشّعور بأنّه من بين جميع النّعم الّتي تُغدقها الطّبيعة على الإنسان، ليس هناك أعظم من الموت الّذي يكون في محلّه. والأفضل من ذلك، أنّ الجميع يُمكنهم أن ينتفعوا بهذه النّعمة”، بل لأننا مازلنا في طور الخروج من محنة التأرجح التي وجدنا فيها، بسبب رداءة أدواتنا، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن الموت مشكلة غير مفهومة ويرى الإنسان أنه لا يستحقها، بل يراها جائرة واعتداء غير مبرر على وجوده الذي هو كل ما يملك، لأنه يصادر أو ينفي كينونته وكيانه إلى عدم لا يرى له قرارا.
الموت شعور بالاندحار، شعور الإنسان بأنه لا يملك السيطرة على مصيره، أو أنه لم يكن سوى آلة صغيرة تافهة تلعب بها جهة ما بلا هدف واضح؛ ويتجسد هذا الشعور بأوضح صوره، في حالة الهرم الطويل غير المنتج أو مرض ما قبل الموت الممض، والذي يحوّل الإنسان إلى ضحية لشعور أنه كان يجذف في جدول ضحل من مياه الأمطار، والذي سرعان ما جف ليجد الإنسان نفسه يحك بطنه على صخور قاسية ويضرب كفيه بأكوام من النفايات الأكثر قسوة، وأن كل ما مر به أو عاشه لم يكن سوى حكايات طيبة عبثية غير هادفة. وبتشبيه أكثر دقة، فإن أمر الحياة – عندما يقترب الموت – يبدو أن التألق والعظمة لم تكن بأناقة بدلة أو فستان من ماركة عالمية وتناول وجبات الطعام في المطاعم الفخمة، إنما في مكان وقضية أخريين تماماً، وإن (سن التقاعد من الحياة، بسبب الهرم أو المرض) أوضح أن كل ما مر لم يكن سوى ضرب من العبث السخيف الذي لا طائل منه غير حفرة القبر الأكثر سخفاً.
الموت عمل شاق، كما يقول الروائي خالد خليفة، شاق مجازاً وفعلاً؛ شاق لمن يوقعه ولمن يقع عليه؛ وهو بهذا المعنى يكون الطريقة الأكثر سذاجة والأكثر فشلاً للخروج من حالة الفوضى التي يسببها فعل الحياة.. وبهذا فإنه يبدو حالة من القسوة الشاذة وغير المبررة والتي تعوزها الأناقة. وعليه، وإن كان لا بد أو لا مهرب من الموت بشكل نهائي، فليكن على الأقل أنيقاً ناعماً، إن لم يكن مسلياً، مادام هو في النهاية، الطريق الأسرع إلى الجنة التي حلمنا في تحقيقها هنا – في هذه الحياة – وعجزنا… أو منعنا مانع قوي أو إرادة كبيرة عاتية من تحقيقها.
نحن بالنسبة إلى مصير الموت ونهايته المفزعة، كثيران الساقية أو خيول جر العربات، نبذل الجهد لكي نواصل الحياة في العذاب والألم لنصل، في النهاية، إلى موت أكثر قسوة، يرمينا كجثث عفنة تثير الفزع، بعد مصادرة كينوناتنا وذوات وجودنا، في حين أن الإنسان يقضي حياته على أمل أن تكافئه الحياة في النهاية بما يعوضه عما هدره في ممارسة الحياة اليومية العقيمة.
وإذا ما استعرنا تشبيه الناقد البريطاني فورستر حول رواية “عوليس”، لدقة تعبيره، فإن الحياة لا تتكشف في نهايتها، إلا عن محاولة خبيثة لإغراقنا في الطين… وهي تفلح في هذا بالفعل! وفظاظة طين القبر هي الدليل الفاضح على هذا. ولكن أما في جعبة الطبيعة ما هو أجمل من تمريغنا في طين الاندحار والازدراء هذا؟
لقد كانت طريقة التحنيط الفرعونية أول خطوات الاحتجاج على إغراقنا في الطين، بحسب شهادة الاكتشاف الآثاري والأركيولوجي التي بين أيدينا، ورغم أنها كانت خطوة في الطريق الصحيح، إلا أنها لم تزد على كونها خطوة تأجيل لا أكثر؛ في حين أننا كففنا عن أن نكون “كلاباً” ترضى بأيّ عظمة ترمى لها بشأن الموت: نحن الآن في حاجة إلى عظمة حقيقية وأصيلة، على أقل تقدير، إلى حين توفر العظمة الأخيرة أو عظمة القمة. ولكن ما هي عظمة القمة هذه، مادامت العظمة الحقيقية أو الأصيلة فقط (أو نصف العظمة) هي الموت الأنيق فقط؟ قد تبدو تلك العظمة هي الحياة الأبدية، ولكن الأكثر إنصافاً لكبرياء واستحقاق ذواتنا علينا، أن نتطلع أن تكون الحياة بحرية تامة ودون أيّ نوع من الوصاية الميتافيزيقية أو الخارجية. وباختصار فإن فعل تكرار الحياة بالرتابة التي عاشها الإنسان، منذ يوم وجوده الأول إلى اليوم، أثبت له أنه يصارع من أجل تثبيت مجموعة من القيم المتحولة أو المطاطية أو سريعة التمدد بلا هدف حقيقي يمارس ثباته بالمقابل؛ الأمر الذي جعل فعل الموت يبدو حتمياً ووسيلة خلاص لا بد من قبولها والاستسلام لها، رغم مرارتها؛ في حين أن حس الإنسان وخياله ومنطق عقله، كلها مصرة على رؤية الحل في مكان آخر، متمثلاً في الحياة والمزيد منها، على أمل القفز منها في النهاية، بهدوء وسلاسة ورقة إلى المزيد من الحياة الأكثر رضا وجمالاً… أو، وعلى الأقل، وفي كل الأحوال، ليست صيغة الموت في كل الأحوال، وإن انطوى على صيغة حياة ثانية فيما بعده.