البطولة المزيفة

أخذ الكاتب المعاصر يعبّر عن علاقته بغيره من عناصر الواقع المتعددة، انطلاقا من كونه بؤرة له، ومحورا رئيسا من محاوره، ويجسد صلته بغيره مبرزا الصراع بينه وبين ذاته، وبينه وبين الآخرين، أو بينه وبين مجتمعه وخاصة أوضاعه السياسية والثقافية والاجتماعية، ولاسيما أنه أخذ على عاتقه مهمة إصلاح المجتمع بأوضاعه المختلفة ولكي يؤدي دوره المنوط به لتطويره أوضاعه وتصحيحها، تلك الأوضاع التي اعتبرها واجبا ملقى على عاتقه.
لذلك ارتبطت هذه المهمة بمفهوم “الأدب الرؤيوي” الذي يمثل خروجا بالإبداع من إطار الذاتية إلى إطار الغيرية المتصل بالمحيط الاجتماعي الذي تعيش داخله الذات، وهو ما يستدعي بالتبعية مفهوم “رؤية العالم”، ذلك المصطلح الذي ينتمي إلى مجموعة من المفاهيم الخاصة بالعلاقة الإبداعية في تداخلها الاجتماعي مع الواقع المعيش، والأديب من هذا المنطلق يسعى للتعبير عن وجهة نظر، ذاتية ضمنا وجماعية ظاهرا، باعتبار الفرد جزءا من المجموع، وتكون تلك الرؤية في الغالب غير متوافقة مع الوضع الاجتماعي السائد، بل تحمل صفة التعارض والضدية بما يضفي عليها خصوصية تعبيرية تتمرد على الأوضاع السائدة، وترمي إلى تأسيس واقع بديل.
ومن هذا المنطلق يمكننا مقاربة المجموعة القصصية “ما يحدث في هدوء” (2022) الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، والحاصلة على المركز الثالث في مسابقتها الأدبية، للكاتب المصري محمد سالم عبادة، وفق مدخلين رئيسين أو مفهومين بنائيين: الأول خاص برؤية العالم، والمفهوم الثاني هو مفهوم الذات وهو مرتبط إلى حد كبير بالوجود الموضوعي وفسيولوجية الجسد الإنساني، فقد أولى مبدأ الهوية أهمية خاصة بسبب أولوية مبدأ الذات على الموضوع وميله الميتافيزيقي للوجود، ووفقا له فإن لكل ذات هويتها وهذه الهوية تتغير مع تغير الزمن وتبدل المكان.
كما هو معروف، يختلف بناء الشخصية في الرواية عنه في القصة القصيرة، لأن الفضاء الروائي يسمح للشخصية أن تكشف نفسها بوضوح ويستطيع الراوي أن يتابع تطورها ويكشف عن مواطن قوتها وضعفها خلافا لبنية القصة القصيرة القائمة على محدودية في الزمان والمكان وتكثيف تشكيل الشخصيات وبيان أبعادها.
وكان مصطلح “البطل المزيف” هو المصطلح المناسب لإطلاقه على أغلب شخصيات المجموعة، وهو ما عرفه فلاديمير بروب بأنه “الشخصية التي تعوزها الطاقة”، والشخصية المزيفة هي شخصية لا مركزية، تأتي باعتبارها نقيضا للشخصية المثالية، كما أنها كينونة واهية لا متعالية، ومأزومة لا منفرجة، وبسيطة مكررة لا معقدة أو تركيبية”. و”الذات” في القصة القصيرة فليست هي الشخصية الموصوفة بالتأزم فحسب، بل هي الكائن المغمور والمذعور والتائه والمهمش وهذا ما يجعلها تفترق عن الشخصية في الرواية التي عادة ما تنماز بالتمركز والاعتداد. وهذا ما يبرر نفي صفة البطولة عن الشخصية في القصة القصيرة لا بسبب تأزمها فقط وإنما بسبب هامشيتها على أرض الواقع لتغدو ذاتا لا تتحلى بالنضالية والطموح والفاعلية .
وتكون البطولة الوهمية والصدمة اللاذعة والإحساس المثقل بالوهم هي علامات تلجأ إليها الشخصية في إطار انهزامي لا تواجه الواقع بل تعتزله، فإذا كانت “الذات” في القصة القصيرة تحاول أن تبدو مقنعة بواقعيتها فإنها في المرحلة الراهنة بدت تنفّر من واقعيتها؛ لذلك جاء التأزم الفردي للذات منطبعا بسمات فانتازية في أغلب المحكيات القصصية مثل توظيف تيمات كالانمساخ والتحول والتلاشي، والتركيز على سرديات الهامش كالشعبي من الأساطير والخرافات، وكذلك الاهتمام بدرامية المحكيات القصصية ومفارقاتها القائمة على جهل الضحية واعتماد تيمات الجنون والنسيان والحلم.
اتضح ذلك في قصة “اللافتة” في عدة مواضع يوظف فيها الكاتب تقنية الحلم التي تثري البنية القصصية وتساعد على نمو الحدث حينا وتغيّر مساره حينا آخر، سواء أكان هذا الحلم رؤيا منامية تكشف لرائيها أبعادا جديدة ما كان ليعرفها في وعيه فتتضح له عن طريق اللاوعي، أو حلم يقظة يحقق فيه من الأمنيات والآمال ما لا يستطيع تحقيقه في يقظته، ويستشرف به بعض آفاق المجهول الذي يتمنى حدوثه: “لقد بِيعَت الفيلاّ. بيعَت وانتهي الأمر! كان قد قرّرَ أن تكون غرفةُ أمّه في الطابَق الأرضيّ، لئلاّ يَشُقّ عليها بضرورة صعود السُّلّم الطويل. ستكونُ لها أوسعُ الغُرَف، وسيكونُ بها تلفزيون محترَم ليؤنِسَها إذا ما قرّرت البقاء بها فترةً طويلةً من اليوم.. هناكَ في أقصى هذا الطابَق ستكونُ غرفةُ الرّياضة.. چيمنازيوم صغيرٌ يقيهِ بَعضَ لُصوصِيّةِ الزمَن الذي يستمرُّ في نشل شبابِه ولياقتِه التي بقيَت منها آثارُها.. وسيكونُ به كيسٌ للتدرُّبِ على الملاكمة، يسترجعُ به طفولتَه في كنَفِ أبيهِ الّذي صمّمَ له كيسًا بيتيًّا يتدرّب عليه وهو بعدُ في السادسة، وحُلمَهُ الساذَجَ بأن يكونَ بطلاً عالَميًّا للملاكمة،… خسارةٌ أنّ الفيلاّ في موقعٍ شديدِ الهدوء من المدينةِ الجديدةِ التي يعيشُ فيها.. وربما يكونُ عليه الآنَ أن يستكشِفَ طرُقًا ومواقعَ أخرى أقلَّ هدوءًا بالمدينة، تكونُ بها فيلاّ أخرى معروضةٌ للبيع، ليبدأ من جديدٍ تقسيمَ غُرَفِ فيلّتِه وتصوُّرَ أثاثِها”.
بالرغم من أن تيمة التحولات تعد عنصرا فانتازيا، فإنه من الممكن أن يوظف في أيّ نوع من الأنواع الأدبية فهي تتماس بشكل كبير مع تحولات الواقع القوية وتحولات النفس الإنسانية وتقلباتها. وعلى ما يبدو فإن تيمة التحول يتغير مفهومها وفق الفترة التاريخية التي يكتب في شرطها العمل الأدبي، ففي كلاسيكيات الأدب يمثل التحول والمسخ في صورة حيوان حلاّ ختميا للأحداث وفي أحايين كثيرة يعرض كفعل إيجابي، وفي الحكايات الشعبية والأساطير التي سبقت العصر الحديث، يحدث التحول في بداية المحكي الأدبي وينظر إليه باعتباره عقابا يستلزم التصحيح بعودة المسخ إلى هيئته البشرية.
وعلى الرغم من تعدد أشكال التحول، فإن مسخ الإنسان إلى حيوان هو الشكل الأكثر شيوعا من أشكال التحولات وأول تلك التحولات كانت في الملحمة الهوميرية “الأوديسا” عندما تحول أصدقاء أوديسيوس إلى خنازير. شكل آخر من أشكال التحول نجدها في مسخ الشخصية الإنسانية إلى نبات، وتحول متطرف كذلك نجده في التحول إلى جمادات مثل مسخ “أطلس” في صورة جبل، وأخيرا تحول أكثر تطرفا نجده في مسخ الإنسان إلى كائن يفتقر الوجود المادي مثل تحول “إيكو” إلى صدى صوت.
وقد اعتمدت قصة “ما يحدث في هدوء” على تيمة التحول التدريجي إلى نبات، وقد جاءت الشخصية حاملة مقومات الصورة التي تتحول إليها؛ فيكون التحول هو التحقيق المادي للاستعارة؛ فالتغير الدراماتيكي الذي يتم اعتباره في أوقات كثيرة تغييرا تعسفيا، يتضح أثناء القراءة أن له ما يبرره، كما أن الفجوة بين الهيئة الأصلية والصورة التي تحولت إليها قد تبدو واضحة لكنها تشير إلى التشابه الفعلي بين الصورتين في جوانب عديدة في الواقع: “بينما أستحم وقع بصري على البالوعة المفتوحة دائمًا في حمام بيتنا. كان هناك شيءٌ غير تقليدي اليوم بها. عُودٌ أخضر ينتصب واقفًا من حافتها… كان اليومُ هادئًا بالفعل. وبعد ساعتين أُخريين أحسستُ بمثانتي ممتلئةً، فذهبتُ إلى الحمّام. لم أكد أدخُل الحمام حتى وقع بصري على عودٍ جديدٍ من البازلاء ينتصب من حافة البالوعة. كان أطول من ذلك الذي رأيته في البيت.. حين عُدتُ إلى المنزل، كانت البازلاء وصلت إلى سقف الحمام، وسقف المطبخ. كانت والدتي نائمةً. خلعتُ ملابسي، ودخلتُ الحمام عاريًا تمامًا، بعد أن تأكدتُ مِن أنَّ الشَّقَّ الذي في أسفل ظَهري يضمّ ثلاثة أعوادٍ صغيرةٍ من البازلاء، نابتةٍ من جِلدي!”.
وغالبا ما تعكس قصص التحولات بشكل كبير وجهة النظر القائلة بالمركزية الإنسانية، أو التفوق الإنساني، التي وفقا لها تكون الكائنات البشرية هي أكثر الموجودات أهمية في الكون، وبالتالي يكون التحول في صورة حيوانية أمرا سلبيا بالضرورة وينظر إليه باعتباره عقابا. إلا أن بعض المحكيات القصصية بالمجموعة اهتمت بالتركيز على تقويض فكرة مركزية الإنسان وتفوقه النوعي على الحيوان؛ فأصبح التحول لا ينظر إليه باعتباره كارثة أو عقابا بل وسيلة من التحرر؛ ليكون الانسحاب من هيئة بشرية لصالح أخرى غير بشرية والرغبة في الانتقال إلى عالم منطوي على ذاته حلا طوعيا للتحرر من وطأة الواقع وسبيلا لخلاص الشخصيات المأزومة كما في قصة “مواء“: “(قطة) كانت مدللة بين أخواتها، كانت أصغرهم وأجملهم، وكانت لها علاقات بشباب الحيّ ما تتعدّاش اللهو البريء يعني، لكن أبوها وأمّها كانوا بيزَعقوا لها ويمكن يضربوها لما يشوفوها مع حد م الولاد. المهم إن أمّها شافتها في بير السلم ف يوم بتهزّر بالإيدين مع شابّ من الجيران، فنادت لها وقعدت تزعق لها وتشتمها وهددتها بغضب أبوها لحد ما البنت بدأت تعيّط عياط مُرّ، ودخلت أوضتها وقفلت على نفسها الباب بالمفتاح. كان صوت عياطها مسموع طول الليل لأمّها وأخواتها اللي حاولوا يخبّطوا عليها عشان يهدّوها، وهيّ أبدًا، لحد ما الصوت هِدِي تمامًا على نُصّ الليل كده… -ماحدّش عارف إيه اللي حصل لـ(قطة) بالظبط. ماكانش في أوضتها شباك، بس همّا مالقيوهاش ف أوضتها، ولقيوا مكانها… لِقيوا قطة ف سريرها المرتَّب نايمة، بصّت لهم لما فتحوا الباب فجأة، ونونوِت مرة، وبعدين سكتت”.
وجاء خلاص بعض الذوات المأزومة في محكيات المجموعة القصصية في لجوئها إلى الاختفاء أو التلاشي للانعتاق مما تعانيه لعلها تظفر بكينونتها الخاصة والمميزة، حتى لو كانت تلك الكينونة تتحدد في التشيؤ أو التحول إلى “فضلات” وفق تصور شخصية الأخ في قصة “أبو ريماس“: “الأبُ دخلَ الحمّامَ أمامَ عينيّ اللتين ستأكلُهما يرقاتُ الذُّبابِ الأزرق. هل كنتُ أحلم؟ هل خرجَ من الحمّام وأغلقَ البابَ وراءه ثُمّ دخل إحدى الغُرَف أو خرج من البيت ولم نَرَه؟ فتشتُ وفتشَت زوجتُه كلَّ الغُرَف رغم صعوبة حدوثِ هذا، لاسِيّما أن الطِّفلةَ كانت واقفةً تخبطُ الباب بكفّيها الصغيرتين منذُ دخل أبوها إلى الحمّام ولم تتوقف لحظة. وقفتُ والأمّ نُحصي الاحتمالات. أيكونُ أخي قد قفزَ من الشّبّاكِ وواربه خلفه… لم أذكُر للأُمّ الاحتمالَ الآخَرَ الذي سيطرَ على تفكيري تمامًا بعد أن استبعدنا قفز الأبِ من الشّبّاك، أيُمكنُ أن يكونَ الأبُ قد سقطَ في عينِ قاعدةِ الحمّام؟! أعني أن يكون قد تساقطَ فَضَلاتٍ بالفعلِ في العين، لا أعرفُ سابقةً لهذا. لكنّ الاحتمالَ ينهشُ عقلي في إصرارٍ وحشِيّ. الأبُ تخلّصَ من فضلاتِهِ العاديَّةِ أوّلاً كما يفعلُ دائمًا وكما يفعلُ الناس، ثُمّ تحول جسدُهُ بمرورِ الوقتِ وهو جالسٌ هنا إلى فضلاتٍ، وتساقَطَ تدريجيّا!”.
وعلى الرغم من أن فوكو قد عرّف الجنون باعتباره “بناء تاريخي متغير يفيد، في أي لحظة اجتماعية أو ثقافية، في إسكات أو تهميش فئات معينة” نجد اعتماد الكاتب على عكس قواعد “اللعبة النفسية” ما بين التصريح بالرغبة في الجنون أو الاعتراف بوجوده أو اللجوء إليه كشكل من أشكال الانسحاب من العالم، وهذا الصوت الاعترافي يعطي التجربة الهامشية متمثلة في “الجنون” وضع البطولة، ويجعله تفسيرا لاضطرابات بعض الشخصيات وتأزمها النفسي، اتضح ذلك في قصة “كاريتير“: “مراتي خانتني يا دكتور. ماعرفتش راجل غيري، عمرها ما عملت كده في حياتِها، عندها ستين سنة داخلة عليها زيّ حالاتي، بسّ سرقتني. اتآمرت عليّا مع الكنيسة! أنا راجل متديّن. وكان عندي سُلطان مِن نُور. كنت محتفظ بيه في الدولاب. اتفقِت مع رجالة الكنيسة وسرقته، وهو دلوقتي معاهم. خانتني. وبعد كده .. خانتني! لما طلبت منها ترجّع لي السلطان ما سمعتش كلامي. وقعدت تقول لأولادي وقرايبنا إنّي اتجَننت. جرّيتها مِن شَعرها قُدّام الأولاد وفتَحت الدولاب وسألتها: (إنتي عارفة إنه كان عندي سلطان من نور.. وإنّه كان في الدولاب.. هو فين دلوقتي؟.. أنا فتَشت الدولاب من أوله لآخره وما عتِرت لُوش على أثر). بس هيّ خانتني. بلّغِت الدكتور يا دكتور! وجُم ياخدوني من البيت. خانتني!”.
كان الانتقال من ذكورية محصنة إلى أنوثة مضعفة شكلا من أشكال الانسحاب من الجنس البيولوجي، وحيلة لإضعاف الحدود الجندرية والجنسانية في المجموعة القصصية، وقد وظفها الكاتب في بعض المحكيات مثل “الدرج” و”الشناوي“؛ فإن الحفاظ على الثنائيات رجل – امرأة وجنسي غيري – جنسي مثلي بحد ذاته، يفيد في إلغاء الفوارق الضدية ويسمح بالتحرك عبرها وبالتالي تجاوز الهوية المخصصة ضمن هذا التقسيم الثنائي وصناعة هوية جديدة، خاصة وقد أجبر أصحاب تلك الهويات المهمشة في الانسحاب من المجتمع وإدخالهم في حالة من الاغتراب لعدم قدرتهم على تعريف نوعهم وتحديد انتماءاتهم الجنسية وفق المعايير المحددة اجتماعيا للجنسانية: “فجأةً انتهى اللقاء كما بدأ، حينما تناول العم (سيد) العلبة من فوق المنضدة ونزع شريطها بحركات أصابعه السريعة وفتحها أمام أعينِ الجميع. قهقه العمُّ (سيد) بصوتٍ عالٍ، ولم تتغير الابتسامة المتجمدة فوق أوجُهِ الآخرين. كانت العلبة فارغةً تماما! نظر العم (سيد) إلى (مصطفى) نظرةً ملؤها حنانٌ، وقام الأخير في هدوءٍ إلى الباب. فور خروجه من الباب، أدرك (مصطفى) حقيقةَ أنه لم يكن أبدًا ذا ميولٍ جنسيةٍ مثليةٍ مثلاً، لكنه لم يستبشع الموقفَ في النهاية”.
تم عرض البطولة المزيفة كذلك من خلال الانتقاص من قيم بعض الثوابت والمحددات الاجتماعية الخاصة بمفاهيم الذكورة، وذلك من خلال صنع المفارقة الدرامية القائمة على جهل الضحية مقابل معرفة المتلقي، والتناقض أحيانا بين الحدث المتوقع والحدث الداخلي المقترح، ووجود بنيتين داخل النص بنية الحدث الظاهرية وأخرى عميقة، كما في قصة “نصف الكيس الملآن“: “والآنَ (وائلٌ) على منضدة العمليات.. نصفُ كيسِه الأيمن يعاني فُتاقًا إربيًّا مختنِقًا هو ما أتى به الليلةَ إلى استقبال الطوارئ، على خلفية حادثٍ فريدٍ آخر حكاهُ لي أثناءَ الفحص.. منذ يومين كان ينفضُ بنطلونه وكان حزامُه مازالَ عالقًا به، فارتطمت عروةُ الحزام الحديدية بكيسه ذي الحظّ العاثر، مما تسبب في تجمعٍ دمويٍّ داخل الكيس.. أمّا ما لم أكتشفه أثناء الفحص – لما كنتُ فيه من عَجَلَةٍ وإحراجٍ ولِما كان فيهِ من ألَم – واكتشفتُهُ على منضدة العمليات فهو أنّ نصفَ كيسه الأيسرَ فارغٌ تماما.. لا توجد خصيةٌ يسرى.. هذا يعني أنها غيرُ موجودةٍ هنا خِلقيًّا.. وُلِدَ هكذا..”.
نشير إلى طرق تقديم الشخصية هي الكيفية التي يتم بها خلق الشخصيات وبناء وجودها في المحكيات القصصية، ومنها طريقة الإخبار(المباشرة) وهي الطريقة التي يخبر من خلالها الراوي أو بعض الشخصيات عن صفات الشخصية وطباعها، مثل الوصف الجسدي للشخصية والوصف النفسي. والطريقة الثانية هي طريقة الإظهار أو الكشف (غير مباشرة)، وفيها يمنح الكاتب الفرصة للشخصية للتعبير عن نفسها ولكشف أبعادها النفسية والاجتماعية بعيدا عن أي مؤثرات، وهي الطريقة الغالبة في المجموعة القصصية؛ حيث يبتعد الكاتب عن عمله ويترك المجال للشخصية لتكشف عن نفسها إما عن طريق الحوار – داخلي أو خارجي – أو عن طريق فعل الشخصية وسلوكها في بعض المواقف، وهي الطريقة الغالبة التي اتضحت في المحكيات القصصية.
وهكذا لم تشكل الشخصية في محكيات المجموعة القصصية بديلا منبها للشخصية الواقعية تعكسها أو تتجاوزها، بقدر ما جاءت في إطار مؤسلب انهزامي لا يواجه الواقع بل يعتزله أو ينفلت منه، وذاك عبر بناء فني أتم تماثل الشخصية مع شرخها الواقعي وساعد على تفاديها الاصطدام به، لتحل في أقنعة من الانمساخ والتشظي والتلاشي، تتحصن وراءها متحلية بنوع من التصالح النفسي الداخلي مع الواقع الخارجي.