البقاء للأدب

رواية "قد لا يبقى أحد" للروائي السوري هيثم حسن، الصادرة عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق، 2018 نص سردي يرصد فيه الكاتب تجربته كلاجئ في بريطانيا، خاصة الجزء الأول من مرحلة اللجوء وهي الفترة التي تمتد من الخروج من سوريا ثم الإقامة مؤقتا في مصر وتركيا قبل الوصول أخيرا إلى بريطانيا وطلب اللجوء بها. من يبحث في هذه الرواية عن حبكة وقصة لها بداية ووسط ونهاية قد يصاب بخيبة أمل، لأن النص جاء متشظياً على مستوى الخيط الزمني للأحداث والمشاهد، وهو تشظ ٍّيعكس لا محالة التشظي النفسي الذي يعيشه اللاجئ وطالب اللجوء خاصة ككائن لا يتحكم كما يشاء في حاضره ومستقبله. ضبابية الرؤية نحو الآتي والانكسارات المتعددة على مستوى العلاقات الاجتماعية التي تجري على إيقاع آخر غير الذي اعتاده اللاجئ في بلده الأصلي، وثقل الماضي على الذاكرة سواء كقطعة من حنين أو كجراحات لا تندمل مما خلفته السلطة السياسية والحرب على نفسية اللاجئين، كل ذلك يتداخل بعضه ببعض دون ترتيب مسبق، ويخضع فقط لكتابة أدبية متدفقة تتحكم فيها الذاكرة مرة ومشاهد الحاضر مرة أخرى.
النص حافل بأسئلة ومحاور متعددة قد يطول الخوض فيها كلها، لذلك سأركز هنا فقط على ثلاثة محاور شدت انتباهي ووجدتها جديرة بالاهتمام: المسألة الأجناسية، الغيرية، وأدب المنفى واللجوء كشهادة.
المسألة الأجناسية
يصنف الكاتب ومعه الناشر طبعا كتاب هيثم حسين في جنس السيرة الروائية. والحقيقة أن النص رغم ما فيه من جوانب سيرـ ذاتية في تجربة الكاتب مع الهجرة والمنفى، فإنه نص تتقاطع فيه أجناس أدبية أخرى، فهو أقرب خاصة إلى جنس اليوميات منه إلى الرواية، (كلمة يوميات واردة على لسان السارد/الكاتب حين ينعت ذلك بـ”يومياتي البريطانية”)، ذلك أن الخيط الرابط بين كل فصول الكتاب والأحداث هو عبارة عن تأملات، فلسفية أحيانا، في بعض ما عايشه الكاتب شخصيا وأيضا في بعض ما يدور حوله من مشاهد يتوقف عندها لطرح أسئلة مهمة وشائكة في تجربة المنفى واللجوء والأدب والاغتراب والسعادة والحرية والوطن والقومية والهوية والأقليات والتطرف الديني والاندماج والطائفية وحوار الحضارات وأخيرا الكتابة ودورها داخل كل هذه الأسئلة والإشكاليات التي يعيشها الكائن البشري. من هذه الزاوية تبدو مسألة اللجوء والمنفى محورية وثانوية في الآن نفسه. محورية: لأنها هي التي تخيم بكل ثقلها على مسار السارد/المؤلف وتؤطر السرد ثم توجهه نحو مناح أخرى، وثانوية: لأن هذه المناحي/الموضوعات التي تتفرع عنها سرعان ما تأخذ حيزا مهما من الحكي والتأمل إلى درجة يكاد يختفي فيها أحيانا الموضوع المحوري أو يتوارى قليلا. وكأننا أمام نص يشكل فيه موضوع المنفى واللجوء مبررا فقط أو حافزا سرديا أو بعدا خلفيا لموضوعات أخرى كالكتابة والسعادة والأدب والحرية والطائفية وغيرها. وهذا يشكل ولو بدرجة أقل استمرارا لما نجده في الأجيال الأولى لأدب الهجرة حيث لم تكن هذه الأخيرة سوى مبرر لإثارة مسألة علاقة المثقف العربي بالغرب الاستعماري والحداثي في الآن نفسه. لكن هذا يؤكد أن موضوع الهجرة والمنفى واللجوء لا يمكن أن يطرح في الأدب أو في غيره من فنون الفكر والمعرفة دون أن يثير كلَّ القضايا التي ترتبط به آنيا أو تاريخيا، اجتماعيا أو سياسيا. لأن الموضوع في الأصل تتحكم فيه وتنتُج عنه كل هذه القضايا. وقد سبق لي أن كتبت منذ ما يقرب من عشرين سنة مقالا عن رواية “أمواج الروح” للمغربي مصطفى شعبان، قلت فيه إنّ “كل كتابة عن الهجرة كتابة عن الوطن”. ليس هناك نص يتحدث عن الهجرة والمنفى دون أن يستحضر البلد الأصلي بشكل أو بآخر. وهذا ما يؤكده الراوي/الكاتب حين يقول في هذا النص: “في الغربة يلح علينا هذا السؤال، سؤال الوطن” ويضيف: “قد تغدو الغربة مرآة وسبيلا إلى الوطن“ (ص 7 ـ 8).
الجنس الثاني الذي يتقاطع مع السيرة الروائية واليوميات في هذا النص هو أدب الرحلة. وهنا لا أريد القول إن كل كتابة عن الهجرة هي أدب رحلة، لأن أدب الرحلة تتحكم فيه مجموعة من القواعد ترتبط أولا بمقصدية الكاتب على اعتبار أنه يسعى إلى توثيق مشاهد وتأملات حول فضاءات جديدة دخلها ليس كمهاجر أو منفي وإنما كرحالة، بينما يدخلُها المهاجر أو المنفيّ برغبة الإقامة بها ويعيش فيها غالبا بإحساس آخر هو إحساس المغترب. إذن ما الذي يجعل هذا النص في بعض فصوله أقرب إلى أدب الرحلة؟ يتمثل ذلك على الأقل في الفصول التي يخصصها الكاتب للقاهرة والإسكندرية وإسطنبول، بحيث تغلب عليها شكلا ومضمونا التأملات التي لا ترتبط بالضرورة بسياق المنفى والهجرة، تأتي وكأنها في معزل عمّا سبقها من فصول عن مآسي اللجوء وكذلك بمعزل عمّا ينتظر السارد/المؤلف من مسارات النفي والاغتراب، خاصة وأن الإحساس بالغربة والمعاناة لا يتجسد بشكل واضح ومعلن عنه إلا عندما يتم الوصول إلى بريطانيا. مصر وإسطنبول محطتان عابرتان. هكذا يتم استقراء الأمكنة في مصر خاصة من منظار مسافر أو رحّالة: الاكتشاف، اكتشاف القاهرة مثلا في تفاصيلها التي يقول عنها الراوي إنها “تخفي أكثر مما تظهر“، هو الذي يغطّي على ما عداه من خصائص أجناسية. بحيث يقف الراوي/الكاتب على شوارع القاهرة الكبرى (شارع الهرم، شارع فيصل مثلا) وما بينها من حدود وفوارق اجتماعية، ثم على بعض وسائل النقل مثل التكتك (دراجة نارية بثلاث عجلات) من جهة والمترو والتاكسي من جهة ثانية، ثم لا يفوته أن يقف عند بعض المظاهر الأخلاقية والاجتماعية في علاقة المصريين مع الأجانب وعند فضاءات شهيرة مثل مقهى ريش ومقارنته بمقاه شعبية جواره يرتادها مثقفون لا يجدون راحتهم في مقهى نخبويّ مثل مقهى ريش. ومن المدن التي يصفها الراوي أيضا الإسكندرية التي خاب ظنه بها لأنه اكتشف أن المدينة عكس ما قرأه هنا وهناك مدينة تعاني من الإهمال وتفتقر حتى إلى إشارات المرور، ثم يعرّج بنا مباشرة إلى إسطنبول التي يكتشف فيها مدنا متعددة وهويات مختلفة: “في إسطنبول يغيب الانتماء الضيق، تتداخل الدوائر والانتماءات. يكون الانفتاح سمتها” (ص. 124).
مسألة الغيْرية
علاقة الأنا بالآخر، والآخر بالأنا؟ من هو هذا الآخر؟ ومن هو الأنا؟ أسئلة يطرحها النص دون السقوط في ذاتية مفرطة ولا في حيادية مقنَّعة.
الغيرية هي صلب كل الكتابات السردية التي تتمحور حول الهجرة. ليس هناك أدب مهجري أو أدب منفى دون رصد إشكالية علاقة المهاجر أو المنفي مع الآخر لأنّ كل تنقّل في المكان هو تنقل في المشاعر والأفكار والهويات والثقافات، وكل إقامة أو ما يشبه الإقامة في مكان او موطن جديد تستدعي جملة من التساؤلات في العلاقة مع ثقافة هذا الموطن وحاضره وماضيه ونسائه ورجاله. وكل سؤال عن الهوية (من أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ كيف أقيم هنا؟ إلخ) يستدعي بالضرورة أسئلة العلاقة مع الآخر وطبيعة هذه العلاقة وآفاقَها وانعكاساتِها على الأنا/المهاجر/اللاجئ والآخر.
في نص هيثم حسن “قد لا يبقى أحد” يتأسس النص منذ البداية، أي بدءا من العنوان، على نوع من الحوار مع الآخر. العنوان الفرعي للنص: “أغاثا كريستي… تعالي أقلْ لك كيف أعيش”. الكاتبة البريطانية الشهيرة (1890 ـ 1976) المختصة في الرواية البوليسية وإحدى الأقلام الأكثر مقروئية والأكثر ترجمة في العالم والتي كانت شغوفة بعلم الحفريات قامت منذ الثلاثينات من القرن الماضي برحلات متعددة إلى العراق و سوريا (خاصة حلب ودمشق)، وأقامت في مدينة عامودا مسقط رأس هيثم حسين، ثم دونت في سيرة ذاتية معالم تلك الرحلات في كتابه (Come Tell Me How You Live) “تعال، قلْ لي كيف تعيش”، ها نحن إذن أمام تقاطع وحوار تناصي يقيمه هيثم حسين كردّ فِعْل ليس على أغاثا كريستي الروائية، وإنما على أغاثا كريستي الرحالة/الأوروبية.
يقوم الكاتب إذن بقلب المعادلة فيدعو الكاتبة البريطانية الشهيرة ومنها العالم الغربي الذي يقيم فيه إلى الاستماع إلى حكايته بعد أن استمع هو إلى حكايتها. الفرق طبعا هو أن رؤية أغاثا كريستي إلى الشرق هي رؤية رحالة/مستكشفة، لكن رؤية الراوي/المؤلف هيثم حسين هي رؤية لاجئ. يسجل النص نفسه منذ البداية إذن كخطاب يلبّي دعوة الكاتبة البريطانية إلى الحكي، إلى الجواب عن سؤال: كيف تعيش؟ سيتعزز هذا الخطاب داخل النص عندما يعرض السارد إلى بعض أفكار أغاثا كريستي عن الشرق وهي نفس الأفكار التي طبعت المخيال الأوروبي ـ الكولونيالي منذ القرن التاسع عشر عن الشرق وجعلت منه ذلك العالم السحري والبسيط الذي يهرب إليه الغربيون من أجل التخلص من ثقل آليات العالم الصناعي الرأسمالي التشييئي للإنسان. من الأفكار التي يعرضها السارد تصور أغاثا كريستي عن السعادة “أفكر في كم هو بسيط هذا الجزء من العالم (تقصد سوريا) ، وكم هو بالتالي سعيد” (ص. 11). كل ما سيأتي من فصول هو بشكل أو بآخر ردّ على أغاثا كريستي ومنها على الطرح الاستشراقي عما يسميه بالشرق. بذلك يدخل الكتاب في جانب منه على الأقل في ما يسمى الأدب ما بعد الكولونيالي الذي وسم العديد من النصوص الأدبية منذ رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح وكتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد وكتابات فرانز فانون. في ما يتعلق بالكتاب السوريين، نجد الكاتبة مها حسن مثلا (وهي سورية كردية مثل هيثم حسين مقيمة في فرنسا) تندد في روايتها حبل سُرّي بهذا التصور المغلوط عن الشرق: “ليس الشرق هو الشمس دوما، ولم تعد الشمس تشرق من أرض القسوة والاستبداد، بل أصبح الشرق باردا، ولامباليا، أنانيا وانتهازيا“. هذا أيضا ردّ مضمر على رؤية أغاثا كريستي والمخيال الغربي بشكل عام وهو نفس الرأي الذي يتبناه الراوي في نص هيثم حسين حين يقول: “أجزم أن ذاك الزمان بمفاهيمه قد ولّى إلى غير رجعة. وتلك السعادة المضللة قد تبددت بحكم كثير من تفاصيل الحياة، وكثير من المستجدات والدماء“ (ص. 11).
“كل لاجئ سيئ حتى يثبت العكس” “كل لاجئ جيد حتى يثبت العكس” هما في الحقيقة مقولة واحدة تعبر عن نظرة الريب والشك التي تحيط بالمهاجر أو اللاجئ في بلد الإقامة. لكن الراوي يرفض أن يبرر هذه الغيرية على أنها صراع بين ضحية وجلاد، بين غربي عنصري وعربي ضائع في بلاد المهجر. بل إنه يحاول تقويض هذه الثنائية التي استبدت بالكثير من الكتابات العربية عن المهجر الأوروبي (شرق/غرب) ويحاول تفسير هذه الغيرية العدائية على أنها في كثير من الأحيان نتاج سلوكات غير لائقة من طرف بعض اللاجئين: اللاجئ في نص هيثم حسين ليس كائنا ملائكيا، هو فعلا “كائن مذعور” كما يصفه، لكنه في الوقت نفسه كائن متقوقع على نفسه، يعيش بأقنعة وبنفس ثقافة البلد الذي هرب منه “كثيرة هي الخدع التي يلجأ إليها اللاجئون في بلاد اللجوء، منهم من يعتبرها شطارة أو فهلوة، ومنهم من يعتبرها تجارة، وفي كل الأحوال تساهم بتغيير النظرة إليهم، من التعاطف والشفقة والاحتضان والحماية إلى النفور والتشكيك” (ص.19). اللاجئ المنحدر مما يسمى بالعالم العربي يريد التحرر من السلطة السياسية لبلده الأصلي وأزمته الاقتصادية الخانقة ولا يقبل التحرر من الفكر الذي أنتج تلك السلطة السياسية نفسَها. يهرب من الدكتاتورية لكنه يجرّ معه فكرا بطريركيا وتسلّطيا تجاه زوجته.
في فصل بعنوان “تمزيق الأقنعة” يحاول الراوي/الكاتب إسقاط الأقنعة عن اللاجئين السوريين عبر تشخيص سلوكاتهم وأحوالهم الاجتماعية وإظهار حجم التناقضات التي يعيش فيها الكثير منهم، خاصة في علاقتهم بنسائهم بحيث يصممون على التعامل معهن ككائنات دونية وكأنهم لم يغادروا بلدهم الأصلي. وفي فصول أخرى من الكتاب نقرأ أن هؤلاء لا يجمع بينهم سوى وضعهم الاجتماعي كلاجئين، بحيث أن الريبة والشك نحو بعضهم البعض تفرز آخرية جديدة داخل مجموعة إثنية أو دينية أو وطنية واحدة. وهو ما أسميه هنا بالغيرية الأفقية مقابل الغيرية العمودية الكلاسيكية التي تحدثت عنها الرواية العربية كثيرا. الغيرية الأفقية بدأت تتشكل أدبيا منذ الثمانينات من القرن الماضي عندما بدأت ظاهرة هجرة المصريين والمغاربيين إلى دول الخليج، بحيث سيدرك المهاجر العربي ذاك أنه لا يكفي أن تكون عربيا كي يرضى عنك العرب وأن المسألة في الهجرة ليست مسألة عرق أو دين أو تاريخ مشترك، وإنما مسألة تراتبية اجتماعية واقتصادية يتفوق فيه القوي على حساب الضعيف. ولدينا في رواية إبراهيم عبدالمجيد “البلدة الأخرى”، ورواية محمد البساطي “دق الطبول“، صورة مفصلة عن هذه الغيرية. ونجد لها صدى أيضا في رواية “عراقي في باريس” لصموئيل شمعون حين ينصح مثقفٌ عربيُّ مقيم في باريس البطلَ بضرورة الابتعاد عن العرب وعدم مجالستهم. في سيرة هيثم حسين الروائية، نجد تشخيص السارد لهذه الغيرية بين اللاجئين السوريين أنفسهم، أكرادا كانوا أم عربا: “حين يلتقي السوري بالسوري، يشعر كل منهما بنوع من الحرج لا يفصح عنه، يحاول أن يداري عينيه كي لا تلتقي بعيون الآخر، وإن التقت عيونهما، يحاول أن يحيي على خجل وبسرعة، ثم يكمل طريقه وكأنه في عالم آخر، أو كأنهما يكادان لا يعرفان بعضهما بعضا“.
في بلاد المهجر” اللاجئ ذئب اللاجئ، يتربص به من حيث لا يدري ولا يخطط، قد يوقع به مصادفة يعكر صفو حياته التي يهندس فرادتها وتميزها“ (ص. 137).
أدب المنفى/أدب الشهادة
يطرح الكاتب في بداية النص ونهايته أسئلة عميقة عن علاقة الأدب بالاغتراب واللجوء وعلاقة الراوي/الكاتب/الشاهد “الشهيد” (ص. 5)، بذاته وبكتابته وبشخصياته وهو يكتب أدبيا عن تجربته كلاجئ. فيتساءل إن كان حقا يجد نفسه في ما يكتب، خصوصا وأن اللاجئ كما يقول “في المكان” وليس “منه”، “معلق في الفراغ” لا هو مستقر ولا هو متنقل ولا هو قاعد ولا هو من أهل الترحال (ص. 4). الكتابة أدبيا عن الهجرة تثير سؤال الجدوى من الكتابة ودور الأدب “إزاء هذا الخراب“ (ص. 5) “ما الذي يمكن للروائي أن يسرده وهو القابع في قوقعته، الشاهد الشهيد على ضفاف الخراب المستشري ؟” (ص. 5). الكاتب محاصر بأسئلة متعددة منذ البداية تعبر عن قلق تجاه الكتابة عن موضوع هو طرف أساسي فيه، كأنه يخشى السقوط في الذاتية تجاه تجربة جماعية يعيشها الآلاف من السوريين وغير السوريين. ثم إن ما يقلقه أكثر ليس فقط الغرض مما يكتب وإنما وهذا هو الأهم كيف يكتب المنفى والاغتراب ويسقط الأقنعة عن واقع يصفه بالخراب وهو يشعر بأن الرؤية التي يرصد من خلالها مكونات المنفى رؤية “محدودة” يشوبها الارتباك والضبابية. هذه الأسئلة وغيرها هي التي أعطت للنص قيمته الأدبية من حيث أن صاحبها (وهو ناقد أيضا) يدرك جيدا أن الرصد الأدبي لظاهرة اللجوء والمنفى لا يجب أن يسقط في تغليب الفن على الواقع ولا في تغليب تقريرية الوصف الواقعي على الفن. لأن الكاتب يعي جيدا أنه وهو يكتب “سيرة روائية” يدلي في الوقت نفسه بشهادة لا يطمع في أنها ستغير واقع اللاجئين ومجرى التاريخ طبعا، لكن ستحرر على الأقل الكاتب/اللاجئ من “كهوفه الداخلية المعتمة” (ص.7) وتحرر “الجني القابع في قمقمه المظلم” ليعبر عن “وساوسه والتصريح عن رغباته” (ص.7). الأدب هو الوسيلة المثلى لتحرير اللاجئ ـ كاتبا أو قارئا ـ من تلك الكهوف المظلمة.
ولعل هذه الرغبة في تحرير الذات من غياهب البكاء الداخلي والإحساس بالضياع، هي ما أنتجت منذ الخمسينات ما يسمى أدب الشهادة. وكان أول عمل أدبي تولد عنه هذا المفهوم هو كتاب “هل هذا هو الإنسان؟” للكاتب الإيطالي بريمو ليفي الصادر سنة 1947 والذي يحكي فيه عاما من الحياة/الموت في معتقل أوشفيتز الرهيب. ولاقى الكتاب نجاحا كبيرا فأدرجه النقد في أدب الشهادة خاصة وأن الكتاب ليس رصدا أو وصفا فقط للوضع الدرامي لمعتقلي أوشفيتز وإنما بين هذا الوصف وذاك أسئلة وتأملات وتعليقات على المشاهد التي يرصدها. ومنذ ذلك الوقت توسع مفهوم أدب الشهادة ليشمل قضايا الحرب واللجوء والهجرة وغيرها من الأوضاع المأساوية للكائن البشري. وأنا أقرأ كتاب هيثم حسين، أجد فيه تقاطعا على مستوى الكتابة مع كتاب بريمو ليفي خاصة من حيث تنقل الراوي بين الحكي والتعليق والتأمل الفلسفي. وكأني به يقول على طريقته: هل هذا هو الإنسان حقا؟ هل هذه هي الحياة؟ هل هذه هي العائلة؟ بعدما تعرضت عائلته للتشريد وانتقل أفرادها بسبب الحرب إلى أماكن متعددة ومتباعدة في العالم: “لي أخت في السويد، وأختان في تركيا، وواحدة في كردستان العراق، وخامسة في سوريا. ولي أخ في النمسا، وآخر في الإمارات، وثالث في تركيا…أمي وأبي في سوريا…وأنا هنا في بريطانيا“. هذا التشريد/الخراب الذي حل بالسوريين والعراقيين من جراء الحرب يطرح سؤال البقاء، ما الذي يتبقى من وطن أو هوية عندما يضطر الإنسان إلى النزوح والهجرة واللجوء؟ ما الذي يتبقى مِن وفي الكائن البشري من حسّ إنساني عندما يبنى جدرانا عازلة تقيه من تدفق اللاجئين؟ ما الذي يتبقى منه أيضا حين يكون هذا اللجوء نفسُه على حد تعبير الكاتب “صفقة عالمية تعقد وتدار في سوق سوداء من شأنها إدارة وتحريك أموال على مستوى العالم؟“.
نص هيثم حسين ليس نصا مهادنا ولا ذاتيا رغم انطلاقه من تجربة ذاتية. إنه نص صرخة إنذارية منذ عنوانه مرورا بالأسئلة البسيطة والشائكة معا التي يطرحها. ربما قد لا يبقى أحد وسط هذا الدمار، ربما قد لا يبقى أحد في البلدان العربية التي نخرتها سوسة الدكتاتوريات المدنية والعسكرية وأيديولوجيات التطرف الديني، والظلم والجوع والقهر… لكن المؤكد هو بقاء النص الأدبي من هذا الطراز شاهدا على مأساة الكائن البشري.