التاريخ السرّي للحرب العالمية الثالثة

الأحد 2022/05/01

الآن وقد انتهت الحرب العالمية الثالثة بسلام، أشعر بالحرّية للتعليق على ناحيتين مذهلتين متعلّقتين بالمسألة المرعبة برمّتها. الأولى، أنّ هذه المواجهة النووية التي لطالما أثارت الذعر بسبب التوقّعات الواسعة النطاق بأنها قد تمحو كلّ أشكال الحياة على الكوكب، لم تستمرّ في الواقع لأكثر من أربع دقائق. هذا سيفاجئ كثراً ممن سيقرؤون هذه الوثيقة، لكنّ الحرب العالمية الثالثة وقعت في السابع والعشرين من يناير 1995، بين الساعة السادسة وسبع وأربعين دقيقة والسادسة وإحدى وخمسين دقيقة، بالتوقيت الشرقي. مدّة الاشتباك بأكملها، منذ إعلان الرئيس ريغان الحرب رسمياً، إلى إطلاق خمسة صواريخ نووية بحريّة (ثلاثة صواريخ أميركية وصاروخان روسيان)، إلى بداية محادثات سلام والهدنة بين الرئيس الأميركي والسيّد غورباتشوف، لم تستمر أكثر من 245 ثانية. الحرب العالمية الثالثة انتهت قبل أن يدرك أحد أنها حصلت.

السمة الثانية المذهلة للحرب العالمية الثالثة، هي أنني على ما يبدو الشخص الوحيد الذي يعرف أنها وقعت يوماً. قد يبدو غريباً أن يكون طبيب أطفال يعيش في أرلينغتون، على بعد كيلومترات قليلة إلى الغرب من واشنطن العاصمة، هو الوحيد الواعي لهذا الحدث التاريخيّ الفريد من نوعه. في نهاية المطاف، أخبار كلّ خطوة في الأزمة السياسية المتفاقمة، وإعلان الرئيس المريض للحرب وتبادل إطلاق الصواريخ النووية، بُثّت علانية على التلفزيون الوطني. الحرب العالمية الثالثة لم تكن سرّاً، لكنّ عقول الناس كانت موجهة نحو أمور أهم. في خضمّ قلقهم الهوسي على صحّة قيادتهم السياسية، تمكّنوا بمعجزة من تجاهل التهديد الأعظم لرفاهيتهم الخاصة.

بالطبع، حين أقول إنني الوحيد الذي شهد الحرب العالمية الثالثة، فهذا ليس بالمعنى الصارم للكلمة. إذ أنّ عدداً محدوداً من كبار القادة العسكريين في الناتو ووارسو، والرئيس ريغان، والسيّد غورباتشوف ومساعديهما، وضبّاط الغواصات الذين ضغطوا على رموز إطلاق الصواريخ النووية، وأرسلوها في طريقها إلى مناطق غير مأهولة من ألاسكا وشرق سيبيريا)، كانوا مدركين تماماً أنّ حرباً قد أُعلنت، وأنه اتُّفق على وقف لإطلاق النار بعد أربع دقائق. لكنني لم ألتقِ أحداً من عامّة الناس ممّن سمعوا بالحرب العالمية الثالثة.

كلما أشرت إلى الحرب، يحملق بي الناس بارتياب. وقد سحب العديد من الأهالي أطفالهم من العيادة، قلقين على ما يبدو من اضطراب صحتي النفسي. يوم أمس فقط اتصلت إحدى الأمهات ممّن ذكرت الحرب أمامها عرضاً بزوجتي لكي تعرب عن قلقها. لكنّ سوزان، مثل الجميع، كانت قد نسيت الحرب، وظنّت أنني قمت بتشغيل أشرطة الفيديو الخاصة بها من نشرات “سي بي سي” و”أن بي سي” و”سي إن إن” في السابع والعشرين من يناير، التي أعلنت بالفعل بدء الحرب العالمية الثالثة.

أُرجع كوني الوحيد الذي علم بالحرب العالمية، إلى الميزة الغريبة لفترة حكم ريغان الثالثة. ليس من قبيل المبالغة القول إنّ الولايات المتحدة، مثل معظم العالم الغربي، افتقدت ذلك الممثل الودود المسنّ الذي تقاعد في كاليفورنيا في 1989، بعد تتويج خليفته الأقلّ حظاً. تعقيدات مشكلات العالم – أزمة الطاقة المتجدّدة، الحرب الإيرانية العراقية الثانية، الاضطرابات في جمهوريات الاتحاد السوفييتي الآسيوية، التحالف المقلق في الولايات المتحدة بين الإسلام والنسوية المسلّحة – جميعها أثارت موجة من الحنين لسنوات حكم ريغان. كان ثمة ذكرى مشبوبة بالعاطفة لأخطائه وعيوبه؛ ميله (الذي يشاركه إياه ناخبوه) إلى مشاهدة التلفزيون مرتدياً البيجاما بدلاً من الاهتمام بالمسائل الهامة، وخلطه بين الواقع والأفلام التي يتذكّرها بصورة ضبابية من شبابه.

احتشد السيّاح بالمئات أمام بوّابات منزل التقاعد الخاص بريغان في بيل آير، ومن وقت لآخر كان الرئيس السابق يخرج ليقف على الشرفة. وهناك، بتحريض من نانسي، ينطق بعض الكلمات الودودة العامّة التي تجعل عيون المستمعين تغرورق بالدموع، وترفع معنوياتهم وترفع معها مؤشّرات أسواق المال حول العالم. حين وصلت مدّة حكم خليفته إلى نهايتها التعسة، كان إقرار التعديل الدستوري المطلوب سريعاً للغاية في مجلس النواب والشيوخ معاً، بهدف جليّ وهو رؤية ريغان يستمتع بفترة رئاسية ثالثة في البيت الأبيض.

في يناير 1993، توافد أكثر من مليون شخص لحضور حفل تتويجه في واشنطن، في حين شاهد بقية العالم الحفل على شاشات التلفزة. لو كان للعين الكاثودية أن تبكي، فقد فعلت ذلك في حينه.

مع ذلك، ظلّت بعض الشكوك قائمة، بينما الأزمة السياسية العظمى للعالم رفضت بعناد أن تنتهي حتى بابتسامة الرئيس المسنّ في حفل تتويجه. الحرب العراقية الإيرانية هدّدت بتورط تركيا وأفغانستان بها. وفي تحدّ للكرملين، بدأت الجمهوريات الآسيوية في الاتحاد السوفييتي تشكّل ميليشيات مسلحة. إيف سانت لوران صمّم أوّل شادور للنسويات المسلمات في عالم الموضة في مانهاتن ولندن وباريس. هل تستطيع حتى رئاسة ريغان التعامل مع عالم منحرف إلى هذا الحدّ؟

شككت وزملائي الأطباء الذيم شاهدوا الرئيس على التلفزيون، بجدّية في ذلك. في ذلك الوقت من صيف 1994، كان رونالد ريغان يبلغ من العمر ثلاثة وثمانين عاماً، وقد ظهرت عليه جميع علامات الخرف المتقدّم. ومثل الكثير من المسنّين، استمتع ببضع دقائق يومياً من الصحو المتواضع، والتي ينطق خلالها بضع ملاحظات مأثورة، ثم يغرق في غروب زجاجيّ آخر. كانت عيناه غائمتين إلى حدّ أنه لا يستطيع قراءة الشاشة، لكنّ فريق البيت الأبيض استفاد من جهاز سمع كان يضعه دوماً على أذنيه، بحيث يتمكّن من الكلام عبر تكرار ما يسمعه في أذنه مثل طفل. كانت لحظات التوقّف تخضع للتحرير من قبل شبكات التلفزة، لكنّ مخاطر جهاز التحكّم عن بعد تجلّت حين أرعب الرئيس، مخاطباً أمهات أميركا الكاثوليكيات، الصفوف العريضة من السيّدات المحافظات بتكرار عبارة مهندس صوت في الاستوديو كان يقول: “أزح مؤخرتك، يجب أن أتبوّل”.

وراح قلّة من الناس يتساءلون، وهم يشاهدون هذا الرجل الآليّ بابتساماته الغريبة وضحكته البلهاء، ما إذا كان ميتاً دماغياً، أو إن كان حيّاً في المقام الأول. ولبثّ الطمأنينة في نفوس الجمهور الأميركي القلق، المتململ جراء هبوط سوق الأسهم وأخبار التمرّد المسلح في أوكرانيا، فقد شرع أطباء البيت الأبيض في إصدار تقارير منتظمة عن صحّة الرئيس. وأكّد فريق من أخصائيي مشفى “والتر ريد” للأمة أنّه يتمتع ببُنية جسدية قوية وبالقوّة العقلية لرجل يصغره بخمسة عشر عاماً، ونشر الفريق تفاصيل دقيقة عن مستوى ضغط دمه، ومعدّل الكريات الحمر والبيض في دمه، ومؤشرات نبضه وتنفسه، بُثّت جميعاً على شاشات التلفزة الوطنية، وهو ما كان له تأثير مباشر في تهدئة النفوس. وفي اليوم التالي أظهرت أسواق الأسهم ارتفاعاً ملحوظاً، وانخفضت معدّلات الفائدة وتمكّن السيّد غورباتشوف من إعلان أنّ الانفصاليين الأوكرانيين قلّلوا من مطالبهم.

وأمام الثمار السياسية الواضحة لوظائف الرئيس الجسدية، فقد قرّر فريق البيت الأبيض إصدار نشرة أسبوعية عن صحّته. ولم تتجاوب وول ستريت إيجاباً مع ذلك فحسب، بل أظهرت استطلاعات الرأي تعافياً قوياً للحزب الجمهوري بأسره. وبحلول انتخابات الكونغرس النصفية، صارت التقارير الصحية تصدر يومياً، وتمكّن مرشحو الحزب الجمهوري من الاكتساح والسيطرة على مجلسي النواب والشيوخ بفضل نشرة عشية الانتخابات حول انتظام العمل في الأمعاء الرئاسية.

ومنذ ذلك الحين فصاعداً صار الجمهور الأميركي يتلقّى سيلاً دائماً من المعلومات حول صحّة الرئيس. وتضمّنت التقارير الإخبارية المتعاقبة طوال اليوم تحديثات عن التأثيرات الجانبية لقشعريرة خفيفة أو الفوائد المتحصّلة للدورة الدموية جرّاء الغطس في حوض السباحة في البيت الأبيض. وأذكر جيداً أنني شاهدت الأخبار عشية عيد الميلاد بينما انشغلت زوجتي بإعداد العشاء، ولاحظت أنّ تفاصيل صحّة الرئيس احتلّت خمس أو ستّ من الفقرات الإخبارية الرئيسة.

علقت سوزان وهي تعدّ المائدة الاحتفالية: “مستوى السكر في الدم منخفض بعض الشيء إذن، أخبار طيبة لشوفان كويرز وبيبسي”.

“فعلاً؟ أثمة صلة بين الأمرين بحقّ الربّ؟”.

“أكثر بكثير مما تدرك”. جلست بجانبي على الأريكة، وفي يدها مطحنة الفلفل، وأضافت: “سيتعيّن علينا انتظار أحدث التحاليل لبوله. فقد تكون حاسمة”.

“عزيزتي، ما يحدث على الحدود الباكستانية ربما يكون حاسماً. غورباتشوف هدّد بضربة وقائية ضدّ معاقل الثوار. والولايات المتحدة لديها التزامات بحسب المعاهدات الموقّعة، ونظريّاً فإنّ حرباً قد..”.

“صه…”، ربّتت كاحلي بمطحنة الفلفل: “سوف يبثّون الآن نتائج اختبار آيزنك لتحليل الشخصية، وقد حقّق رجلنا علامات كاملة في معدّل التجاوب العاطفي والقدرة على ربط الأمور ببعضها. وقد صُحّحت البيانات وفقاً لسنّ الرجل، أياً يكن معنى ذلك”.

“هذا يعني أنه عملياً منهار نفسياً”، كنت سأبدّل القناة، أملاً بسماع بعض الأخبار حول الاضطرابات العالمية الفعلية، عندما ظهر نمط غريب أسفل الشاشة، وافترضت أنه تصميم ما مرتبط بعيد الميلاد، لاسيما وأنه بدا شبيهاً بأوراق الشجر المقدّسة. وراح الخط يتذبذب من شمال الشاشة إلى يمينها، على الإيقاعات الهادئة والمثيرة للحنين لأغنية “عيد الميلاد الأبيض”.

همست سوزان بوجل: “يا إلهي… هذا نبض روني. أسمعتَ المذيع؟ هذا بثّ حيّ لنبض قلب الرئيس”.

بوكس

كانت تلك البداية فحسب. خلال الأسابيع التالية، وبفضل معجزة البثّ الحديث، أصبحت شاشات الأمّة التلفزيونية لوح عرض لمستويات كلّ تفصيل من وظائف الرئيس البدنية والعقلية. صارت نبضات قلبه الشجاعة، وإن المتذبذبة، تُعرض في شريط أسفل الشاشة، وفوقها يتوسّع المذيعون في شرح تفاصيل نشاطه البدني اليومية، ونزهته الممتدّة تسعة أمتار في حديقة الزهور، وعدد السعرات الحرارية في وجبته الغذائية المتواضعة، ونتائج آخر مسح دماغي أجري له، ومؤشرات كليته وكبده ورئتيه. إضافة إلى ذلك، كان ثمة عرض تفصيلي لاختبارات الشخصية والذكاء، التي صُمّمت جميعها لطمأنة الأميركيين إلى أنّ الرجل المتربّع على رأس العالم الحرّ، أكثر من لائق للمهام المرهقة التي تواجهه على منضدة المكتب البيضاوي.

حاولت أن أشرح لسوزان، أنّ الرئيس، لأسباب عملية، ليس أكثر من جثة مربوطة بالأسلاك الصوتية. كنت وزملائي في العيادة، نعي تماماً محنة الرجل الكهل خلال الخضوع لهذه الاختبارات المرهقة. غير أنّ طاقم عمل البيت الأبيض كان يدرك أنّ الشعب الأميركي شبه منوّم مغناطيسياً على إيقاع نبض قلب الرئيس. وبات الشريط يُعرض أسفل الشاشة خلال عرض جميع البرامج، مرافقاً المسلسلات الكوميدية، ومباريات البيزبول وأفلام الحرب العالمية الثانية القديمة. بشكل غير مألوف، فإنّ نبضه المتسارع، يضاهي أحياناً تجاوب الجمهور العاطفي، مشيراً إلى أنّه شخصياً يشاهد الأفلام الحربية نفسها، بما في ذلك تلك التي ظهر فيها.

ولإكمال التماهي بين الرئيس والشاشة – وهو ما كان مستشاروه السياسيون يحلمون به منذ زمن طويل –  فقد رتّب طاقم البيت الأبيض لطبقات جديدة من المعلومات لعرضها على الشاشة. وسرعان ما بات ثلث شاشات الشعب الأميركي مشغولاً بنتائج نبض القلب وضغط الدم ومخطّط كهرباء الدماغ. وأثير لفترة وجيزة بعض السجال حين غدا جلياً أنّ موجات الدلتا هي الغالبة، مؤكّدة اعتقاداً سائداً منذ زمن طويل بأنّ الرئيس نائم معظم اليوم. غير أنّ الجمهور شعر بإثارة كبيرة حين علم أنّ السيّد ريغان انتقل إلى نوم حركة العين السريعة؛ وقت أحلام الأمّة يتصادف مع وقت أحلام رئيسها.

أما أحداث العالم الحقيقي، فإنها لم تتأثّر بهذا السيل المتواصل من المعلومات الطبية، وواصلت طريقها المحفوف بالمخاطر. ابتعتُ كلّ صحيفة وقعت عليها يداي، لكنّ صفحاتها اكتظّت بالرسوم البيانية المتعلقة بصحّة ريغان وبالمقالات التي تشرح دلالة وظائف إنزيمات الكبد لديه وأقلّ ارتفاع أو هبوط في نسبة كثافة بوله. وفي الصفحات الخلفية وجدت بضع إشارات وجيزة عن حرب أهلية في الجمهوريات الآسيوية في الاتحاد السوفييتي، ومحاولة انقلاب حليف للروس في باكستان، واجتياح الصين لنيبال، وحشد جنود الاحتياط في الناتو وحلف وارسو، وتعزيزات الأسطولين الخامس والسابع الأميركيين.

لكنّ تلك الأحداث المشؤومة، وشبح الحرب العالمية الثالثة، كانت عاثرة الحظّ إذ تزامنت مع انخفاض بسيط في معدّلات صحّة الرئيس. ورد أوّل التقارير في 20 يناير، حين هيمنت أخبار نزلة البرد البسيطة التي التقطها ريغان من أحد أحفاده، على جميع الأخبار الأخرى على الشاشات. خيّم جيش من المراسلين وطواقم التصوير أمام البيت الأبيض، في حين ظهرت وحدة من الأخصائيين من كبريات المؤسسات البحثية بالتناوب على جميع الشاشات، مفسّرة البيانات الطبية المتدفّقة.

مثل مائة مليون أميركي، أمضت سوزان الأسبوع التالي جالسة قبالة شاشة التلفزيون، وعيناها تتابعان تقارير نبض قلب الرئيس.

أكّدت لها حين عدت من العيادة في 27 يناير: “ما زالت نزلة برد.. ما آخر أخبار باكستان؟ ثمة شائعة عن أنّ السوفييت أنزلوا قوّات خاصة في كراتشي. قوّات دلتا تتحرّك من خليج سوبيك..”.

“ليس الآن!”، أشاحت بيدها، رافعة الصوت حين بدأ المذيع بنشرة جديدة.

“إليكم آخر الأخبار المتعلّقة بالتقرير الذي أذعناه قبل دقيقتين. أخبار طيبة من الصورة المقطعية لقلب الرئيس. ليس هناك تغييرات غير طبيعيّة في حجم البطينين وشكلهما في قلب الرئيس. مطر خفيف قد يسقط الليلة على منطقة واشنطن العاصمة، وخيالة كتيبة الجوّ السادسة تبادلوا إطلاق النار مع دوريات السوفييت الحدودية شمال كابل. سنعود إليكم بعد الفاصل بتقرير عن دلالة ارتفاع الفصّ الصدغي الأيسر..”.

“بحقّ الربّ، ليس من أهمية لذلك”، أخذت جهاز التحكّم عن بعد من يد سوزان القابضة بقوّة عليه وبدأت أبحث بين القنوات: “ماذا بشأن الأسطول الروسي في البلطيق؟ الكرملين يضغط على قوّات الناتو في الشمال. على الولايات المتحدة أن تردّ..”.

بمحض الحظّ، وقّعت على مذيع في محطّة إخبارية كبرى، يختم نشرة أخبار. كان ينظر بثقة إلى الجمهور، وشريكته في تقديم النشرة تبتسم بترقّب، وقال: “ابتداء من الساعة الخامسة وخمس دقائق بالتوقيت الشرقي يمكننا القول إنّ ضغط قلب الرئيس جيد. كلّ الوظائف الحركيّة والإدراكية طبيعيّة لرجل بعمر الرئيس. نكرّر الوظائف الحركيّة والإدراكية طبيعيّة. الآن، ثمة خبر عاجل وصلنا للتو. عند الثانية وخمس وثلاثين دقيقة بالتوقيت المحلي أكمل الرئيس ريغان دورة حركة أمعاء جيدة”. التفت المذيع إلى شريكته في النشرة، وأضاف: “باربرا، أعتقد أنّ لديك أخباراً طيبة مماثلة عن نانسي؟”.

تدخّلت المذيعة برشاقة: “شكراً دان، أجل، قبل ساعة واحدة فحسب، عند الثالثة وخمس وثلاثين دقيقة بالتوقيت المحلي، أكملت نانسي حركة أمعائها الخاصة، وهي الثانية لليوم، وهذا كلّه يحدث في العائلة الأولى”. نظرت إلى قصاصة ورق وضعت جانباً على المنضدة أمامها، وأضافت: “حركة السير في جادّة بنسلفانيا توقّفت من جديد، في حين أنّ طائرات الأف 16 من الأسطول السادس قد أسقطت سبع طائرات ميغ 29 فوق مضيق بيرينغ. ضغط دم الرئيس مائة فوق الستين. وتظهر الصور انتفاخاً بسيطاً في اليد اليسرى..”.

كرّرت سوزان، ضامّة يديها: “انتفاخ في اليد اليسرى… لا ريب في أنه أمر جلل؟”.

نقرت على مبدّل القنوات: “يمكن أن يكون كذلك. ربما يفكّر باضطراره إلى الضغط على الزرّ النووي. أو..”.

خطر لي احتمال آخر مخيف أكثر من ذلك. غصت في خليط النشرات الإخبارية المتنافسة، أملاً بأن أشغل تفكير سوزان بينما أحدّق بسماء واشنطن المظلمة. أسطول السوفييت يقوم بدوريات على بعد ستمائة كيلومتر من الساحل الشرقي للولايات الأميركية المتحدة. سرعان ما سترتفع غيوم الفطر فوق البنتاغون.

“… سُجّل اختلال وظيفي بسيط في الغدّة النخامية، وأعرب أطباء الرئيس عن مستوى متواضع من القلق. أكرّر، مستوى متواضع من القلق. الرئيس ترأس مجلس الأمن القومي قبل نصف ساعة. مقار القوّات الجوّية في أوماها نبراسكا، تبلغ عن هجوم لقاذفات بي 52. الآن، وصلتني للتو نشرة من وحدة الأورام في البيت الأبيض. أخذت خزعة من ورم جلدي حميد عند الرابعة وخمس عشرة دقيقة بتوقيت واشنطن..”.

“… أعرب أطباء الرئيس مجدّداً عن قلقهم جرّاء الشرايين المتكلّسة والصمّامات المتصلّبة في قلب الرئيس. يُتوقّع أن يتجاوز الإعصار كلارا بورتريكو، والرئيس فعّل سلطات الطوارئ الحربية. بعد الفاصل سنكون مع مزيد من تحليلات الخبراء حول فقدان الذاكرة الرجعي عند السيّد ريغان. تذكّروا أنّ هذا العارض قد يشير إلى متزامنة كورساكوف..”.

“نوبات حركيّة، أحساس واهن بالزمن، تغيّرات في اللون ودوار. السيّد ريغان يسجل أيضاً وعياً متزايداً بالروائح الضارّة. آخر الأخبار الأخرى، العواصف الثلجية تغطي وسط غرب البلاد، وحالة حرب الآن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ابقوا معنا لمعرفة آخر الأخبار حول التمثيل الغذائي في دماغ الرئيس..”.

قلت لسوزان، واضعاً ذراعي حول كتفيها: “نحن في حالة حرب”. لكنها أخذت تشير إلى ارتفاع مؤشّر القلب على الشاشة. هل عانى الرئيس من سكتة دماغية وأطلق هجوماً نووياً شاملاً على الروس؟ هل النشرات الطبية المتواصلة هي تغطية ذكية تهدف إلى حماية الجمهور التلفزيوني المتقلّب من عواقب ردّ فعل يائس على إعلان حالة طوارئ قومية؟ سوف يستلزم الصواريخ الروسية دقائق فحسب للوصول إلى واشنطن، وأخذت أحملق في سماء الشتاء الواضحة. محتضناً سوزان، أصغيت إلى جلبة نشرات الأخبار الطبية حتى سمعت، بعد نحو أربع دقائق: “… أطباء الرئيس يبلغون عن اتساع حدقة العين وعن رعاش متشنّج لكنّ أنظمة الدعم العصبية الكيماوية تعمل بصورة سليمة. التمثيل الغذائي في دماغ الرئيس يظهر إنتاجاً متزايداً للغلوكوز. من المتوقّع هطول ثلوج متفرّقة خلال الليل، وأميركا والاتحاد السوفييتي يتفقان على وقف الأعمال العدائية بينهما. بعد الفاصل، آخر الخبراء يعلّق على أزمة الغازات الرئاسية، ولماذا يحتاج الجفن الأيسر عند نانسي إلى تشذيب..”.

أطفأت التلفزيون وجلست في الصمت الغريب. كانت طائرة مروحية صغيرة تعبر السماء الرمادية فوق واشنطن. وقلت لسوزان على مضض: “بالمناسبة، لقد انتهت للتوّ الحرب العالمية الثالثة”.

بالطبع، لم يكن لدى سوزان أدنى فكرة أنّ الحرب بدأت، وهو أمر شائع بين الجمهور العريض، مثلما أدركت خلال الأسابيع القليلة التالية. معظم الناس لديهم ذكرى غامضة فحسب عن الاضطرابات في الشرق الأوسط. الأخبار عن سقوط قنابل نووية في الجبال المهجورة في ألاسكا وشرقي سيبيريا ضاعت في خضمّ التقارير الطبية عن تعافي ريغان من نزلة البرد.

في الأسبوع الثاني من فبراير 1995، رأيته على الشاشة يترأس احتفال الفيلق الأميركي في حديقة البيت الأبيض. ارتسمت على وجهه العاجي المسنّ الابتسامة الودودة نفسها، وغاب التركيز من عينيه بينما وقف يسنده اثنان من مساعديه، والسيّدة الأولى الحريصة تقف دوماً بطريقتها الفولاذية بجواره. في مكان ما تحت المعطف الأسود السميك، كنت أجهزة الاستشعار تبثّ حركة النبض والتنفّس وضغط الدم التي نشاهدها على شاشاتنا. خمّنت أنّ الرئيس، هو الآخر، نسي أنه أطلق أخيراً الحرب العالمية الثالثة. في نهاية المطاف، لم يُقتل أحد، وفي عقل الجمهور، فالضحية الوحيدة المحتملة لتلك الساعات الخطرة هو السيّد ريغان نفسه وهو يكافح للنجاة من نزلة البرد.

في الأثناء، بات العالم مكاناً أكثر أمناً. فتبادل القصف النووي الوجيز أوصل رسالته إلى القوى المتحاربة حول الكوكب. الحركات الانفصالية في الاتحاد السوفييتي حلّت نفسها، في حين انسحبت الجيوش الغازية في أماكن أخرى إلى ما وراء حدودها. وكدت أصدّق أنّ الحرب العالمية الثالثة كانت من عمل الكرملين والبيت الأبيض كأداة لصنع السلام، وأنّ نزلة برد ريغان كانت فخاً تسريبياً وقعت فيه شبكات التلفزة والصحف دون انتباه.

في تحية إلى تعافي الرئيس، ظلّت وظائف جسده الحيوية تُعرض على الشاشات. وبينما حيّا جنود الفيلق الأميركي، شعرت بنبض الجمهور الجماعي يخفق أسرع حينما تجاوب قلب الممثل المسنّ مع المنظر المؤثر لأولئك الجنود في العرض العسكري.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.