التباس الهوية ومأزق الأقليات
لهذا بدت الرواية أكثر استقبالاً من الشعر والقصة للمحن الجديدة التي يمر بها العراق. وهي لهذا تتخذ مجموعة من المساقات والأغراض والرؤى والأساليب: فهي على أصعدة المضمون مثلاً تناولت ما لم يكن مألوفاً من قبل. وما بين إحياء للذاكرة العراقية ومجاورة لمحن المواطنة، كان للرواية أن تتأمل مثلاً في مجموعة من الظواهر، كالهوية وإشكالياتها؛ وتصنيع الدمار وتصديره للعراقيين كأمر واقع؛ التشرذم والاقتتال؛ والمنفى والغربة؛ وحرفة الموت، وضياع قداسة الميت؛ والرهاب والارتياب؛ وفقدان الطبيعة والافتراق عنها؛ وتفكك العائلة؛ واستدراج الماضي ما بين اتكاء وسخرية؛ والإرهاب.
أما على أصعدة البنى والأساليب، فيلاحظ القارئ مجموعة من السمات أيضاً:
فهناك عين الرائي الراصدة المطلة على «مشهدية» ما، والخالية لزاماً من أيّ عاطفة أو تعاطف؛ وتناوب الأزمنة وتداخلها ما بين سابق ولاحق، ماضِ وحاضر؛ وتفاوت الأصوات ما بين ضمير متكلم وغائب ومتحاور ومستدرج أو مسترجع؛ والتعددية اللسانية واتساع حوارية النص؛ وسيادة العرض الصحافي والأخبار؛ وغياب «الأدبية» ونضوبها أمام «شعرية اللحظة الضاغطة»؛ وعنف الكلام و»عسكرة» المفردة ؛ وتجاور البناء الدرامي والمفاجأة الموبسانية.
وهي أسلوباً، تزدحم بسخرية مريرة؛ وتهادن الموت وتراه وتبصره بحياد حاكم؛ وتلتقط التفاصيل، بكل دمويّتها وعنفها؛ وتلجأ أكثر إلى «الحوار» سبيلاً لتقليص دور السارد؛ وتؤكد انزواء الفكاهة والضحك؛ وكذلك بروز نزق المتحاورين وتأففهم إزاء ضغط الوقائع.
وهي نهجاً، أكثر ميلاً إلى البحث ومجاورة التاريخ أو افتعاله، كما أنها أكثر ميلاً للتباعد عن باث السرد أديباً أو شاعراً، ومقاربة الصحافي والمراسل الصحفي. كما أنها تلج «رواية الحرم الجامعي»، وهو ما يتضح عند سنان أنطون بخاصة. ولهذا تراني في هذه القراءة أتوقف عند كتابات علي بدر، وشاكر نوري، وسنان أنطون، وأحمد سعداوي، وإنعام كجه جي، وصاموئيل شمعون، وهدية حسين، ولطفية الدليمي وعواد علي ونصيف فلك وحميد الخاقاني وميسلون هادي، وروايات أخرى متفرقة، كلها تشتبك مع الواقع الذي يسقطه الاحتلال وزبانيته على العراق. وليكن مفتتحي رواية «جحيم الراهب» لشاكر نوري بصفتها استباقاً في التباس الهوية ومأزق الأقليات لا تضاهيه غير رواية «عزازيل» ليوسف زيدان، مع تفاوت واضح في ماهية السرد وزمنه. كما أنها تتفاوت مع رواياته الأخرى، كـ»مجانين بوكا» و»المنطقة الخضراء» وتتفوق عليها تخييلاً وعرضاً وحبكة.
و»جحيم الراهب» ملتقى لما أسلفت بشأن سمات رواية الاحتلال في العراق: فالتباس الهوية لا ينفيه أو يحتويه غير «عراقية» الأفراد بمعزل عن دياناتهم: هؤلاء شركاء في صنع أنفسهم وثقافتهم وحضارتهم منذ آلاف السنوات، ومهما بالغت صناعة «التفتيت» من مجهودات لها عنفها ودمارها الواضح، إلا أنها تنهدّ وتتهدم أمام هذا التاريخ الذي يجري نفيه باستمرار بعدما كلفت إدارة الجمهوريين من قبل ومنذ عام 1990 عرابها المؤرخ برنارد لوس لنفي بلاد اسمها «العراق» والحديث عنها «ولايات» ثلاث أيام الهيمنة العثمانية، وهو العراب الذي استمر منذ أكثر من عقدين ينفي «فلسطين» أيضاً.
ولهذا أقول، تطأ «جحيم الراهب» هذا الحاضر-الماضي للهوية العراقية من خلال رحلة الرسام المطرود في أرضه «إسحاق» الذي يلوذ بدير الأشوريين أولاً مسلماً يريد حياة الرهبنة، ولو لفترة، حتى أخذ عن أساطين الكنيسة علمهم وحاورهم فيها بثقة العارف الذي يريد أن يهدم أيضاً حالة الخنوع والاستسلام، ومن ثم بث روح العمل والكد والمنازلة عند اللزوم، ويجد إسحاق مرشداً في الأب يوسف، الموسيقي الذي جاء للدير بعدة ذهن شيوعي، ليعيد ترتيب الأولويات، ويعطي للجسد والذهن حقهما في حياة ميزت الدير، وجعلته مناكفاً لتعاليم الفاتيكان والكنائس التابعة. والأهم من ذلك، أن الرواية في اشتباكها مع حياة الدير ورهبانه قاربت الواقع، وبدت عارفة بما فيه، والذي لا يعدو أن يكون تجربة فعلية لعدنان الجبوري، الرسام الطريد، الذي وجد في الدير حاضنه وراعيه، ولو إلى حين. وهكذا يكون الالتباس في الهوية قد صهرته بوتقة أخرى، هي عراقية الواقع، وروحانية الفن (ما بين موسيقى جوزيف وعزفه ورسوم إسحاق الكنسية وقراءات شربل المكتبية في المخطوطات).
وما كان تجربة جعل منه تخييل الكاتب مهاداً تنمو فيه الحوارات وتتسع تجربة الدير الذي يشهد تحولات في شخصية الرهبان وحياة الكنيسة. ولربما كان التخييل قد اندفع هائجاً ليجعل من تجربة لقاء الفنانين جوزيف أستاذا وإسحاق تلميذاً نابهاً بهذ السعة وهذا التأثير في تحولات مأمولة ومرتجاة. لكن هذا التخييل أبقى على عراقية المشهد، وعراقة الديرة التي خصها الشابشتي من قبل بكتابه «الديارات». وهكذا جيء بشيء من التاريخ لتأصيل تجربة عراقية في زمن أريد فيه للعراق المحتل أن تتعرض فئاته وأقلياته ودياناته وحضاراته للتدمير المتعمد عبر التفجير والتفخيخ واستهتار همجي تحت مسميات مستجدة باستمرار، آخرها «داعش»، والحبل على الجرار في مسلسل بريمر- نغرابونتي وفقهاء الظلام (كما يسمي سليم بركات غيرهم).
وعندما عقدت المقارنة براوية «عزازيل» ليوسف زيدان، لم أكن أقصد غير «الهوية» وتكويناتها. فرواية زيدان ذات رصيد تاريخي يسّرته له قراءاته الواسعة في تاريخ الكنيسة الشرقية، وهو أمر لا يريده شاكر نوري: فجحيم الراهب تعاصر ما يجري الآن وما يستحق ثبتاً عصرياً أمام الهجمة المقصودة لتشريد أهالي البلاد الأصليين وإخلاء العراق من شعبه ليبقى مرتعاً لاستخراج الثروة، لا حول له ولا قوة، أمام إرادة واحدة تسوّق الآخرين كأغنام وتفرض حروب النيابة الصغيرة والكبيرة بواسطة الآخرين، العرب والأفغان وغيرهم.
ولربما اضطر شاكر نوري إلى «مفتتح معجزة الآباء الآشوريين، ص 13 – 17» ليعلم القارئ كيف «لجأ الآشوريون العراقيون إلى منطقة زحلة في لبنان بعد المجازر العثمانية – ص 13»، وتكوين «دير الأيقونات، بطقوسه الآشورية العتيدة، على ذلك الجبل الشاهق ص 16» بعد أن أقامه الأب جوزيف. أما أصول هؤلاء، والأب جوزيف، فهي تمتد إلى قرى الموصل «ص 29». وملامسة التاريخ بمثل ذلك التصريح قد تبدو ثقيلة على السرد، لكن الرحلة التي تلت ذلك، رحلة الأب إسحاق هي التي تهيمن على السرد وتنسينا ذلك الهامش المفتتح.
لوحة: عامر العقيل
فالرحلة هي حبكة الرواية، لكنها الرحلة التي لا تكتمل بدون ما تلقّاه من الأب سامر بشكل مظروف تركه له الأب جوزيف وهو يقرر الاختفاء، أو استعادة حياته مع سيسيل وابنه إسكندر.. كان الأب جوزيف هو الذي يسّر لإسحاق الرحلة إلى روما للدفاع عن أطروحته هناك. يقول صوت إسحاق، وهو باث السرد، والمتكلم «تلقيت خبر سفري إلى روما من الأب جوزيف بفرح غامر قبل أيام من مغادرته المفاجئة أو بالأحرى قبل هروبه من دير الأيقونات، بعدما وضع أسسه مع الآباء الآشوريين الهاربين من قرى الموصل إلى هنا» (ص 29).
كانت الرحلة إذن استرجاعات في حياة الدير التي يتفاعل معها الفنان الطريد والتي تشمخ فيها صورة الفنان الموسيقار الهارب الأب جوزيف. ولنا أن نقرأ في المظروف حيثيات التكوين التي احتوتها هذه الاسترجاعات على مدى ثلاث ساعات في الرحلة إلى روما، تنتهكها وتوقد حرارة الخروج عنها وعليها المضيفة «ناتاشا» التي جعل منها الفنان الرومانسي الحالم، إسحاق، غارقة في حبه من خلال جبة الرهبان التي تخلّى عنها قبل الهبوط، ليغمزها هذه المرة لترتيب لقاء المساء ومعه التخلي عن الفاتيكان وروما والكنيسة، والإبقاء على تلك الذكريات التي استوطنه فيها الأب جوزيف، وهكذا نفاجأ بالنهاية الموبوسانية، وهو يعلن ذلك الوداع للجميع، ومنهم «تلاميذ الفاتيكان الرائعين المنتظرين في المطار»، فـ»ناتاشا تنتظرني في فندق روما بلازا» (ص 223) . هذه النهاية المفاجئة تحتمل السلب والإيجاب: فهي سلباً تعرض للتجربة على أنها هشة، وإن توافقت مع ميله الطاغي للحجاج والانتصار لأنسنة الكنيسة، وهو ميل توافق مع اتجاهات الأب جوزيف وزواجه خارج قيود الرهبنة. فحياة الدير لم تستوطنه فعلاً، وبدت طارئة إزاء الغريزة من جانب وتشكيله انتماء متعدداً خارج الحدود والقوالب من جانب آخر. أما على صعيد الإيجاب، فالنهاية أحيت الحبكة وأعادت «إسحاق» إلى ما كان عليه في البدء، فناناً خارج السرب. أما استرجاعاته، والتي طغت على ما كان في مظروف الأب جوزيف، فهي الأخرى تتمحور حول هذا الأب: فبدونه يبدو إسحاق هامشاً لا غير، فجوزيف أكثر من أب ومرشد، لأنه الطاقة التي منحت الحياة للدير،، فتحت ظله تنامت حياة الآخرين، ومن بينهم المتكلم إسحاق.
إذ يقول بصفته باثاً للسرد «وهكذا بدأت، خادماً بسيطاً في الدير، في أولى درجات الرهبنة، المؤمن: أول درجة يتقلدها الآتي إلى الدير.. يطلقون علينا اسم طالب رهبنة، ويعطونه قلاية، أي زاوية أو مغارة صغيرة في المكان المخصص» (ص 106) ؛ومن لم يمض تدرجاً حتى يبلغ الدرجة الخامسة، «ناسك: وهو الأب الذي بلغ درجة لباس ‘الإسكيم’ أي الشكل المقدس باليونانية أو لباس الصليب». (ص 107)، هذا الأب جوزيف هو المرشد لسامر. ساعده الأيمن، الذي أتقن الأناجيل و»تاريخ المسيحية ومذاهبها» (ص 152). ولكن المؤلف، عبر إسحاق، يكاد ينسى أن يطلع القارئ على كيفية بلوغه للأحاديث الخاصة والحميمية ما بين الأب جوزيف والأب سامر. وهما يجلسان على حافة السرير، يستنجدان بالآلهة الآشورية البعيدة، ويحاولان استحضارها من العالم السفلي، بعيداً عن تعاليم يسوع (ص 156) وعدا نزعة «المخبر» عند «إسحاق» في مثل هذا المقطع، هل يمكن للتكوين الكنسي أن يسقط المعرفة القديمة على الأناجيل ويجعلها الغالبة في وعي هذين المتنورين؟
ومهما يكن فإن الحبكة التي تزاوج فيها التاريخ بالخيال والتلفيق مكّنت الرواية من خداع القارئ واستدراجه إلى ما تريد: أي تقاطع الهويات في بلاد ضاربة في القدم تعجز الموجات الهمجية في ظل «عولمة الثقافة» عن اقتلاعها واستبدالها كرهاً بآليات جديدة وتصور آخر يتراوح ما بين تقديس لما هو باطل أصلاً عند الداعشيين وأشباههم، وما بين دعاة اقتصاديات السوق وهكذا دفع باث السرد بالأب جوزيف ليعيد ترتيب أوراق الهويات في عوالم أريد لها أن تبدو مضطربة. يقول الأب جوزيف «نحن في أحشاء هذا الدير، نجهل ما يحدث في العالم من كوارث ومآس، لأن الأب أراد لنا العزلة، فأغلقنا آذاننا عن كل صوت آت من الطبيعة، هل قرر لنا الرب هذه العزلة؟ ها نحن عزلنا أنفسنا في أحجار الدير الأصم، وعشنا على الفقر، وأنكرنا غرائز أجسادنا حتى تعفنت أرواحنا هنا» (ص 158).
فإسحاق يدفع بالروي على لسان الأب جوزيف ليبرر خاتمة المطاف في حياته، منحازاً إلى ناتاشا و»روما بلازا» تاركاً جلباب الرهبنة وراءه. وهكذا كان الاثنان يمهدان إلى الهرب، الأب جوزيف ليلتقي زوجه وابنه بعد حياة يهددها ثأر قديم وهو يحمي الشقراء سيسيل، وإسحاق ليلتقي ناتاشا بعد ثلاث ساعات في الرحلة ما بين بيروت وروما، متوافقاً مع قوله للأب جوزيف «الإيمان لا يأتي إلا مع الحرية» (ص 159). وكلاهما يضع تأويلاته في «المتخيل» أو أساطير الأولين. فالديانات لم تنقطع عن حضارات سابقة، كما يريد باث السرد، أي اسحاق، أن يقول «إن قصة تموز أو دموزي تسير متوازية مع الأناجيل إلى أن يتعرف إلى عشتار، وبعد ذلك تقتل تموز الأرواح الشريرة أو الخنازير بعد الهرب من الموت ثلاث مرات، ويحبس في العالم السفلي حيث الجحيم، وتجلس عشتار والنساء حوله ينتحبن على تموز الإله الذي مات»، ثم يضيف متسائلاً «ألا يذكرك هذا المشهد بالمريميات اللاتي جلسن عند قبر يسوع ينتحبن عليه؟» (ص 162)، وبينما تبقى الرحلة إلى روما ماسكة بخيط السرد، كانت التأملات في السرد التأريخي تشغل مساحة في الحوار الدائر بين المتدرب سابقاً وأستاذه، بين إسحاق وجوزيف، بما يريد إعادة توظيف التاريخ وتحرير الحاضر من القيود باتجاه هوية متحركة، مرنة، تحيا بالحجاج وهي تعيد ترتيب المدونة التاريخية، ماضيها وحاضرها.
وهكذا، قد لا يبدو هذا التاريخ ثقيلاً بعدما رفدته المخيلة بحيوية إنسية تتيح نقد المؤسسة الرسمية، أياً كانت، وهكذا، جاء على لسان إسحق أنه عرف بتاريخ الكنيسة من الأب جوزيف على الرغم من أن الأخير سبق أن اعترف لأسحق بالمعرفة «لم أر شخصاً مسلماً قرأ تراثنا الأشوري مثلك، يا إسحق؟»(ص 163)، لكنه هذه المرة، يصغي إلى الأب جوزيف الذي شرح له محنة الاستبداد المؤسساتي «استبدت بقياصرة الفاتيكان رغبة القضاء على الهويات الكلدانية والسريانية والأشورية، إلا أن البطريرك مار بولس الثاني شيخو، تجرأ ورفع عصاه في وجه الفاتيكان، مهدداً بضرورة وقف التدخل في شؤون الكنيسة الآشورية» (ص 182). وبدت «جحيم الراهب» مستقبلة لمثل هذه الإحالات إلى تاريخ الكنيسة: فباث السرد يجعل من الأب جوزيف بوابته للإطلال على حيوات الآخرين من قساوسة ورهبان، ومنها ينفذ إلى حوارات متفاوتة لا تستثني الراهب المتهم بالبله «إيلي» ولا الأخصائي بالمخطوطات الأب شربل.
ولكن من حق القارئ أن يتساءل عما إذا كانت الحبكة، منذ دخول إسحاق الطائرة واستدعائه لذكرياته طريداً ثم أليف الدير، ومبعوثاً للدفاع عن أطروحته، هذه الحبكة، هل بمستطاعتها حمل أعباء التباس الهوية؟ سنرى أن آخرين من أمثال علي بدر في «حارس التبغ» وإنعام كجه جي في «الحفيدة الأمريكية» يعرضون لهذا الالتباس وتبعاته، والذي يشكل بالنسبة إلى العراقيين بخاصة تساؤلاً يومياً يقيم بين صفحات التاريخ ويبعث حياً كل يوم بين الانفجارات وسلسلة مستجدات الاحتلال من خطف ونهب وشرذمة وتقتيل، وهي مستجدات تبلغ ذروتها عند أحمد سعداوي في «فرنكشتاين في بغداد»، فعند الرضوخ للاحتلال كأمر واقع وركوب عربته النكدة تلتبس الهوية بين أجساد الأموات دون قداسة تذكر.