الثقافة ومحمول الأيديولوجيا
يخاف المثقّف أن يوصم بأنه كاتب أيديولوجي. مثلما يخاف أن تكون كتابته مناهضةً أو كاشفةً عن عيوب الأيديولوجيا حتى لا يقع في المحظور.
لذا فإن الأيديولوجيا أصبحت الجزء الخلفي للمثقّف الذي لا يريد أن يتحوّل إلى كاتبٍ باتجاهٍ واحدٍ لأنها، أي الأيديولوجيا، تعني في الفهم الإدراكي اللّحظوي أنها تتجّه إلى الأحزاب أو المكونات الفكرية الضيقة التي تسعى لتحقيق هدفٍ عام.
ولأن الأيديولوجيا منظومةٌ من الأفكار المرتبطة اجتماعياً بمجموعةٍ اقتصاديةٍ أو سياسيةٍ أو عرقيةٍ أو غيرها، منظومةٌ تعبر عن المصالح الواعية فهي بهذا محاولةٌ لتفكيك ما هو ثابتٌ لدى الآخر لكي تزيحه وتكون هي الثابتة في العقل بمعنى أنها نزعةٌ مضادةٌ للتاريخ ومقاومةٌ للتغير ومفككةٌ للبنيات الكلية.
إن الأيديولوجيا تشكل إذن التبلور النظري لشكلٍ من أشكال الوعي الزائف، وهو التعريف العام لها كما توصف في علم الأفكار، ولكنّي أرى أن مفهومها الحالي أصبح علم الفكرة الواحدة لتشكيل فكري، إذا ما اعتبرنا أن الأحزاب بمختلف مذاهبها هي مجموعة أفكار مؤطّرةً بإطار الهدف الذي تسعى إليه، ولأن السياسية أصبحت علما فإن الأيديولوجيا تعني السياسة بمفهومها العام وليس علم الاجتماع السياسي فحسب، والتي غيّرت من التعريف الثابت باعتبارها نسقاً من المعتقدات والمفاهيم لتأخذ الحالة البراغماتية حتى لو كانت هذه الأيديولوجيا تتّخذ من الدين منهجاً وفكراً وهدفاً لها لأن الدين هنا لن يكون ثابتاً لتحقيق الغايات التي تداخلت مع بعضها في العديد من الأوجه سواء منها السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي وحتى الديني إذا ما اعتبرنا الدّين في حد ذاتها مفهوما أيديولوجيا يسمو فوق كل الاعتبارات والأفكار والمفاهيم الأخرى.
لذا فإن الوعي هو الذي يحدّد ويفرّق بين هذه الأيديولوجيات إن كانت مفيدةً للمجتمع أم مستغلةً لحاجاته، وهو ما يعني أن الوعي ينتج ثقافةً عامةً للمجتمع والأيديولوجيا تنتج فكراً أحادياً، لذلك فإن المعرفة هي الضوء الذي يُسلّط.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن للوعي أن ينأى عن الأيديولوجيا كونها قدراً فإن الإزاحة الحالية تعيد بناء الأيديولوجيا من جديد لتكون وعياً وسلوكاً ونقداً لما هو مطروحٌ من وقائع. وإذا ما تم عدّ الرأي الواعي والمثقف على أنه أيديولوجيا أخرى جديدةً تنبني من جهد المعرفة والثقافة والوعي إذا ما أريد بناء مجتمعٍ لا يخضع لعدة اجتهادات أيديولوجية، لأن التعدّد أيضا يطيح بثوابت الدولة والمجتمع والتعدّد المختلف يؤذي المجتمع والدولة والاختلاف الأيديولوجي يؤدّي إلى ضغينة بين أفراد المجتمع، ولأن الأيديولوجيا هي خلاص حركة المجتمع في القرن الأخير وأصبح البناء والوصول إلى الحكم أو تثوير فكرة ما وتصديرها يعتمد بالدرجة الأساس على ما تمنحه الجهة القائمة على التثوير أو التصدير على فكرة تسمى الأيديولوجيا فإنها من المفترض أن تمثل وجوداً ثقافياً لا يمكن الخلاص أو النأي عنه مع الأخذ بنظر الاعتبار الحيطة من تحوّل الخيار الأيديولوجي إلى خيارٍ ثقافيٍّ تنتفي عنه صفة الاشتغال والإنتاج المعرفي والعلمي لأن شروط العلمي هي المعرفة والتعدّد والقبول بالاختلاف.
أما الأيديولوجي فهو التمثل بالانعكاس والتغيير المطلق وهو شرطٌ مغلقٌ على وعيٍ معين لأن الجهة الأخرى تقول عن الوعي إنه حين نتمثل الواقع أيديولوجياً نفقد قيمة التنوع والتعدد لأن الأيديولوجي مرآة أمامية كبيرة لرؤية مشهد الجماعة التي تبث هذه الأفكار الأيديولوجية.
وبالتالي فإن أيّ انغلاقٍ أو جعل هذه الأيديولوجيا مقدسةً أو وحيدةً وواحدةً وهي القادرة على البناء وأنها مرسلةٌ من السماء أو أنها محقّقة أهدافها بالدم والنضال أو أنها الوحيدة التي تمتلك أحقية التواجد في ساحة الوعي والثقافة المجتمعية فإن هذا سيؤدّي إلى مزيدٍ من التفتيت والفرقة والاقتتال وتمثّل فكراً أيديولوجياً منغلقاً ومغلقاً وغير ثابتٍ وتتحوّل إلى فكرةٍ متعصبةٍ تبتعد عن المعرفة التي هي اشتغالٌ وإنتاجٌ وتصديرٌ وتشكّل وعيٍا متحركٍا هدفها الإنسان وليس استغلاله.