"الجديد" ليست مجرد اسم

الثلاثاء 2022/02/01
لوحة: شيماء جلال

إصدار مجلة ثقافية في زمن انحسار المجلات الثقافية العربية كان مغامرة حقيقية تحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة والتخطيط الواعي والرؤية المختلفة التي تأخذ في اعتبارها مهمة استعادة هذا الدور التنويري الريادي للمجلة الثقافية بوصفها مشروعا للحوار الفكري والأدبي والنقدي المعني بقضايا الثقافة العربية وتجديد الخطاب الثقافي والعلاقة مع الثقافة الإنسانية. ولم يكن الوصول إلى القارئ العربي بعيدا عن هذه الاهتمامات من أجل تحقيق رسالتها وتحريك الهواء الساكن للفكر والحياة في البيت العربي وفتح نوافذه للشمس في زمن أصبحت فيه ثقافة الاستهلاك والميديا العابرة للحدود تشكل تهديدا جديا للثقافة الملتزمة بقضايا الإنسان والحياة في هذا العصر الحافل بالتحديات.

لذلك لم يكن اختيار القائمين على المجلة لهذا الاسم بعيدا عن هذه الهواجس والتطلعات التي كانت تشكل أساس هذا المشروع لكي لا يكون اسم “الجديد” الذي ستحمله مجرد اسم يضاف إلى عشرات الأسماء التي حملتها المجلات الثقافية العربية.

إن الوعي بأهمية الدور الذي يمكن أن تنهض به هذه المجلة والذي يمكن أن يستكمل الأدوار التي لعبتها مجلات طليعية عربية قبل عقود يجعلها استمرارا لهذا الدور الريادي وتطويرا له وفق ما تمليه حاجات الواقع وتراكم الوعي وتطور أدوات الإعلام ولغته. من هنا كان الرهان على إصدار مجلة “الجديد” نابعا من شعور كبير بالمسؤولية الجسيمة تجاه القارئ والكاتب العربي معا لتحقيق الهدف والغاية من وجودها. لقد كان الرهان أولا على الدور التنويري الذي يمكن أن تقوم به المجلة من خلال ما يمكن أن توفره من مساحة مفتوحة لحوار الأفكار والرؤى والتصورات بما يعزز دور الثقافة والمثقف العربي في خلق آلة ثقافية دينامية وجريئة في مقاربات موضوعاتها من أجل خلق وعي متقدم، فاعل ومؤثر في الحياة والمجتمع.

على الرغم من هذه الطموحات الواعدة فإن التفاعل الذي حدث وحجم المشاركة التي تحققت طوال السنوات السبع الماضية شكلت مفاجأة للقائمين عليها، ما زاد في حجم الشعور بالمسؤولية وضاعف في الجهد المبذول لكي تحافظ “الجديد” على هذا الحضور اللافت والمتجدد شكلا ومضمونا وتكون في مستوى الدور الذي انتدبت نفسها للقيام به في واقع ثقافي عربي محبط. إن استقطاب المجلة لمئات الكاتبات والكتاب العرب من مختلف التوجهات الفكرية والأدبية ومن مشرق الأرض العربية إلى مغربها مرورا بالمهاجر العربية يؤكد أن المشكلة ليست في المجلات الثقافية بل في القائمين عليها وفي فسحة الحرية والانفتاح والحوار التي يمكن أن توفرها، والقضايا الهامة والحساسة التي يمكن أن تطرحها وتفتح حوار الأفكار والرؤى حولها دون قيد أو مصادرة، الأمر الذي أكسبها ثقة الكاتب/الكاتبة والقارئ معا.

 لقد كان الإنجاز الأول للمجلة هو قدرتها على نقل الأفكار والتصورات التي سبقت صدورها إلى حقائق ملموسة، ما جعل ولادتها يشكل حاجة ضرورية لملء الفراغ الذي بدأت تعاني منه الثقافة العربية على مستوى المجلات الثقافية،  لكن هذا الإنجاز ما كان له أن يتحقق لولا الجهود الكبيرة التي كانت وما زالت تبذلها المجلة لتعميق هذا الدور وتعزيزه على مختلف الصعد والأهداف لتحقيق المعادلة الناجزة بين الشكل والمضمون على المستويين الفكري والأدبي والبصري نظرا لأهمية الدور الذي باتت تلعبه الصورة والرسوم المرافقة للمادة في اجتذاب القارئ وتحقيق المتعة البصرية والفكرية معا. لذلك لا غرابة أن تحولت أغلفة المجلة طوال سنواتها السبع الماضية إلى أيقونات فنية وجمالية بالغة التعبير والدلالة يمكن من خلالها إدراك الوعي الجمالي الذي رافق مسيرة صدورها، وكان علامة دالة على خصوصية الجهد المبذول لتقديم ما هو خاص ومميز.

لقد قدمت مجلة الجديد وعبر أعدادها التي صدرت حتى الآن ملفات أدبية وفكرية ونقدية وإبداعية كثيرة تدخل في صميم القضايا الفكرية والأدبية الملحة حيث سعت لتحريك هواء البيت العربي وفتح نوافذه مغربا ومشرقا لكل ما يعيد للثقافة العربية حيويتها وقدرتها على تأمل ذاتها وفحص منطلقاتها وأطروحاتها بوعي يحاول استشراف المستقبل وتعميق هوية هذه الثقافة المنفتحة على الحياة وعلى العصر.

لذلك لم يكن اسم “الجديد” الذي حملته المجلة سوى تعبير عمّا يطمح إليه القائمون عليها بحيث تكون في صدارة المجلات شكلا ومضمونا ووعيا بأهمية التعدد والثقافة النقدية في تعميق وتطوير واقع الثقافة العربية التي باتت تواجه تحديات حقيقية نتيجة غياب هذا الوعي.

لقد ساهم هذا الوعي الجمالي والفكري الرفيع في تحول المجلة إلى منبر ثقافي حواري عالي القيمة، تجلى في تحرر الكاتب من رقيبه الداخلي الذي ظل مسيطرا عليه زمنا طويلا عندما وجد أن الكتابة مسؤولية يمكن أن نمارسها دون أن نخضعها لسلطة تقع خارج الذات المشغولة بالنهوض بهذه الثقافة ومقاربة المسكوت والمهمش فيها، وتطوير لغة الكشف والاكتشاف والبحث في ما يجعلها ثقافة حياة نابضة بالحيوية والتجدد والصدق.

إن مراجعة بسيطة للملفات التي قدمتها المجلة طوال السنوات الماضية على كثرتها وتنوعها سوف تدلنا على طبيعة الهاجس النوعي الذي ظل يشغل القائمين على هذه المجلة وعلى مدى الرغبة في أن يجعلوا من “الجديد” منبراً يلعب دورا تنويريا طليعيا تجلى في ما استقطبه من مساهمات الكتاب العرب من شتى أقطار الوطن العربي لأداء هذا الدور والمشاركة في تعميقه وإغنائه بما يلزم معرفيا.

 إن الوقوف عند الرسالة الثقافية لهذه المجلة لا يعني بأيّ حال من الأحوال تجاهل الدور الذي لعبته المجلة على المستوى الفني والجمالي فقد تميزت بأغلفتها ورسومها وكانت في كل عدد تفاجئنا بكل جديد مبتكر في اختيار أغلفتها لكي تؤكد لنا أنها تخلص للاسم الذي حملته سواء على مستوى القيمة الثقافية أو القيمة الفنية للمجلة.

أتذكر الشعور بالتحدي الذي كان يرافق العمل على إصدار العدد الأول من المجلة، شعور نابع من الإحساس الكبير بالمسؤولية والطموح بتقديم ما يلبّي حاجة الثقافة العربية مع غياب أهم مجلاتها الثقافية إلى بديل يختلف من حيث التوجه والانفتاح والمعالجة والحوار الذي يغني والنقد البناء الذي نحتاجه. كان هذا الهاجس هو الدوافع الكبير الذي جعل المجلة تستقطب كل هذه الأقلام العربية وأن تخصص غالباً محورين خاصّين في كل عدد من أعدداها لأن هناك الكثير من القضايا والتحديات التي تواجه الفكر والثقافة العربية. لذلك سعت أن تكون خارج أيّ تأطير أو سلطة سوى سلطة الفكر المستنير والعقل النقدي البناء والمعرفة التي تضيف وتغني.

 إن نجاح أيّ مجلة لا يقاس بالزمن بل بقدرتها على استقطاب المزيد من الأقلام العربية المشغولة بالهم الثقافي والرغبة في استعادة دور الثقافة في الحياة من خلال تفعيل فكرة الحوار والسجال الفكري والنقدي ما بين أصحاب الفكرة الواحدة والفكرة المختلفة، بما يجعل من الفضاء الثقافي فضاء يحتفي بالاختلاف والتعدد القائم على النظر، دائما وأبداً نحو المستقبل.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.