الجمال في متاهة لغته
منذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم لا يزال سؤال الهوية في الرسم (العربي)، وهو سؤال يتعلق ببنية اللغة التعبيرية، مُحرجَا ومتعثرا لأنه كان بقدر أو بآخر يمثّل نوعا من الشغف الوصفي بالمفردات البصرية الموروثة والمتداولة شعبيا (رموز وإشارات وعلامات دينية وسحرية وبيئية). لم يكن ذلك ليقع لولا أن الرسامين الذين شكل ذلك السؤال مصدر قلق واحتقان (هلع وفزع ضمنيين) لم يكن دافعهم إلى ما انهمكوا فيه من مناورات شكلية الوقوف أمام سؤال من نوع “ما معنى أن يكون الرسام عربيا؟”، وهو السؤال الذي يشكل فرعا للسؤال الأكبر، المنسي هو الآخر (لا يزال منسيا) والذي يقول “ما معنى أن يكون الإنسان عربيا في هذا العصر؟”.
وكما أرى فإن تأصيل الفعل الجمالي كان منذ تلك المرحلة بالنسبة إلى الكثيرين نوعا من الواجب الملزم ثقافيا وليس فنيا، في حين كان بالنسبة إلى البعض (منتصف الستينات وما بعدها) واجبا نضاليا يمليه الإيمان بضرورة قيام ثقافة عربية ذات أسس عقائدية. كان ذلك الإيمان في حقيقته انعكاسا لطريقة حزبية في النظر إلى المتغيرات الواقعية. وإذا ما تجاوزنا تجارب ذلك البعض (الحزبي) بسبب تدني مستويات أدائها التعبيري في الفن، وخضوعها لمبادئ وأسس الواقعية الاشتراكية (تجربة المصري حامد عويس مثلا)، وهو ما ألقى بظلال الشك على قدرتها على فهم قيمة المحاولة التي تهدف إلى التماهي مع إيحاء المنجز الجمالي العربي القديم، المتمثل بالخط والزخرفة، فإن اشتباك بدايات الحداثة الفنية في الوطن العربي بالرغبة الملحّة في صياغة فنّ ذي هوية مفارقة لمصادر التأثير العالمي (على الأقل إلهاميا وليس شكليا) قد وضع التجربة الفنية العربية كلها في مواجهة مصير ملتبس، صار في ما بعد نوعا من القدر المرائي والقابل للتأويل المضاد.
فهل وقعنا عن طريق براءة القصد في منطقة يغلب عليها سوء الفهم، كان من نتائجها المباشرة قيام فن خلاسي، لا هوية حقيقية له؟ الأمر الذي يجعل تلمّس الطريق إلى لغة تشكيلية في الفن العربي، لغة ذات ملامح واضحة يغلب عليها الرجاء، دافعا بمواهب استثنائية إلى حافة الشفقة.
تياران أساسيان وثالث بعدهما
كما لو أن عناصر الهوية يمكن اختزالها في جدول للعلامات الخطية، فكك الرسامون العرب ما تيسر بين أيديهم من مفردات إرث تصويري محلي (تراثي قومي وفلكلوري قطري) وصاروا يبحثون في تفاصيل تلك اللقى عن ذرائع لاستخراج نسب جمالي جماعي. بالمعنى الذي يعيد ترميم وصيانة قاعدة تؤسس لوعي العالم بصريا. وهي القاعدة التي كانت راسخة بقوة في أوقات سابقة، غير أنها تهدمت بعد أن تعرّض فنا الزخرفة والخط العربيان للإهمال والإنكار بسبب نظرة دونية، استُلهمت من تصنيف غربي ألحقهما بالفنون التطبيقية. كان ذلك الانحراف قد أحدث شرخا خفيا بين العربي وذاته. ذلك الشرخ سيبدو واضحا في أوقات لاحقة، حين سعى بعض الفنانين إلى العودة إلى معطيات فنّين، لم يحظيا بما يستحقانه من التبجيل والاحترام.
ولأنّ العرب لم يعرفوا في ماضيهم الرسم، فنا خالصا ومستقلا، بقدر ما عرفوه فنا احترافيا لتزويق الكتب (مقامات الحريري التي زيّنها يحيى بن محمود الواسطي في القرن الثالث عشر ميلادي هي الأكثر شهرة في هذا المجال) فقد توزّع رعاة الحداثة الفنية الأوائل في الوطن العربي من جهة مرجعيّاتهم التصويرية بين تيارين: تيار وجد في رسوم الواسطي (معه عشرات الرسامين ممّن عاشوا في عصره) سندا فنيا مزدوجا في مواجهة أزمتين: إسقاط الفتاوي بتحريم الرسم إسلاميا من جهة ومن جهة أخرى مدّ جسور أسلوبية مع منجزات رسامين غربيين معاصرين بعينهم (بيكاسو، ماتيس، بول كليه) انطلاقا من فكرة نقدية كانت غامضة إلى حد كبير، تفيد بأن أولئك الرسامين كانوا قد تأثروا في بعض مراحلهم الفنية بالـ(أرابيسك). كان العراقي جواد سليم من أبرز رموز ذلك التيار. أما التيار الثاني فقد تماهى مع تأثيرات فنّي الزخرفة والخط وبالأخص على المستوى النغمي، وصار يستخرج من هذيانات فرشاة الرسم المعاصرة ما يذكر بعالم استثنائي يقيم خارج الصور المتاحة، عالم يمزج بين الشكلي واللاشكلي بعفوية مقيدة بأسبابها. ومن أبرز رموز ذلك التيار المغربي أحمد الشرقاوي ومن بعده اتسع الطريق للعراقي شاكر حسن آل سعيد ليقود اتجاه الحروفية في السبعينات مستلهما تجارب مديحة عمر وجميل حمودي. ولأن المسافة كانت شاسعة بين التيارين فقد ملأ تيار ثالث الفراغ التصويري الذي كان بمثابة المصفاة لكل ما يتسرب من قيم جمالية من محاولات الفريقين السابقين. وقد ظهر ذلك التيار في أقوى صوره من خلال تجربتي السوري فاتح المدرس واللبناني بول غراغوسيان (1926 ــ 1993).
فاتحا كان المدرس
لم يكن التيار الأخير تيارا وسطيا، كما قد يتبادر إلى الذهن. يمكن تأويل تجربة رسام مثل فاتح المدرس (1922 ــ 1999) تراثيا (محليا على الأقل)، غير أن معاصرته الفنية، التي هي تعبير عن تلصصه الخلاق على التجارب الفنية في الغرب، هناك حيث نشأ الرسم بمفهومه المعاصر (الذي صرنا نتبعه)، كان عميقا وضروريا. غير أن الأمر بالنسبة إلى رسام فاتح من نوع المدرس لا يتوقف عند حدود التماس الاستعراضي بين ما هو تراثي وبين ما هو معاصر، بين المحلي والعالمي. ذلك لأن بحثه الجمالي انصبّ على ابتكار لغة تصويرية مستقلة، تكون من خلالها العين العربية مرجعا لتأويل الوقائع البصرية، ما يُرى منها وما لا يُرى. كان لدى المدرس من العدة الذهنية ما يجعل من (التعبيرية) فنا ممكنا على المستوى العربي، ذلك لأنه كان يكتب الشعر في موازاة ممارسته الرسم، غير أنه في هذه المنطقة بالذات تصرّف بحذر وشعور صادق بالمسؤولية. كان قد أدرك في وقت مبكر من حياته أن للرسم لغة مختلفة، في كل أحوالها لن تكون محايدة، وهي لغة لا تصلح للوصف ولا لاستدعاء الذكريات ولا للحنين. وكان ذلك خيارا يفلت بالرسم من هيمنة الحكاية. لم يكن هناك أدب كثير في رسوم المدرس. كان الرجل يسعى إلى تنقية الواقعة من تفاصيل الحكاية.
لن يكون مفاجئا أن يُعتبر المدرس أبا للحداثة الفنية في سوريا. لقد هيمن بلغته الجمالية على طريقة تفكير أجيال من الرسامين السوريين في الرسم.
إرث الحداثة الثانية
في موازاة تجربة المدرس في سوريا كانت تجربة كاظم حيدر (1932 ــ 1985) في العراق، وهي التي تمثل تاريخيا نقلة نوعية كبيرة في مفهوم الحداثة الفنية بعد حداثة الخمسينات، قد استلهمت أشكالها من المعنى العملي السابق لفعل الرسم. ففي معرض “الشهيد” الذي أقامه حيدر عام 1965 كانت هناك لغة تستلهم معاني يمتزج فيها التراثي بالشعبي، من غير أن تتخلى تلك اللغة عن أسلوبيتها المعاصرة في الأداء. في رسوم ذلك المعرض كان الموضوع أساسيا (واقعة الطف في كربلاء ومقتل الإمام الحسين وأصحابه) غير أن حيدر سعى إلى أن ينجو بفنه من الوصف الأدبي الفائض بشحنته التعبيرية، حين لجأ إلى استلهام التوتر البلاغي الذي تنطوي عليه الحكاية التاريخية. لم يكن حيدر في استلهامه لواقعة تاريخية محلية تراثيا على المستوى الشكلي. كانت أشكاله تنبعث من رغبته في الإنصات إلى الجوهر المأساوي للحكاية. لذلك لم تكن لغته وصفية، بقدر ما كانت بحثا في عجينة المادة التاريخية التي لا تزال تشكل مساحة عظيمة من الوجود البشري.
من خلال تلك التجربة نجح كاظم حيدر في خلخلة لغة الفن التي كانت عبارة عن وديعة هادئة تركها جواد سليم بعد موته المبكر عام 1961. لقد بدأ جيل كامل من الرسّامين العراقيين من تلك المنطقة التي فقد فيها التراث خياله الوصفي. كان هنالك دم وقتل وخيانة ومكائد وظلم لن تنجو الصور من قسوته وعدوانيته. وكما أرى فإن تجارب مهمة في الرسم العراقي المعاصر قد ولدت من رحم تلك اللحظة المفارقة، وبالأخص تجارب الرسامين فائق حسين وضياء العزاوي ورافع الناصري.
كان ظهور كاظم حيدر مناسبة مهمة لفصل ما هو تراثي عما هو شعبي.
لوحة: محمد أبو الوفا
الرسام باعتباره مصورا
ولو تأملنا منجزات الرسم الحديث في مصر لتحققنا من ذلك الخلط بين ما هو تراثي وما هو شعبي. ففي كل مراحله، بدءا من محمد ناجي وانتهاء بجاذبية سرّي كان الرسام المصري يرى في تصوير الحياة الشعبية نوعا من الخيار الجمالي الذي يؤدي الرسم من خلاله وظيفته التأهيلية بصريا وجماليا، من غير أن يرتقي الرسام بلغته إلى مستوى الكشف الرؤيوي والتحليلي الذي يعنى بالرسم، باعتباره مادته الخيالية. هناك استثناءات قليلة، غير أن لغة الرسم المصري كانت دائما متواضعة وفقيرة، لا تفرّق بين التصوير وخياله، بين الواقع كونه مادة تصويرية ملهمة وبينه باعتباره وجودا بصريا صلدا، لذلك كانت العودة إلى الفن التقليدي ممكنة في كل لحظة. ربما لهذا السبب لا يستعمل المصريون صفة رسام، إنما يشيرون إلى الرسام باعتباره مصورا.
كان محمود سعيد (1897 ــ 1964) هو الاستثناء الأكثر سعادة. أرستقراطي الرسم الذي حلّق بالفلاحين إلى فضاء الملائكة.
لقد حرص سعيد على أن يكون رساما خالصا فحسب. وهو ما لم يجرؤ على التفكير به رسام مصري. كان لدى الرجل ما يقوله من خلال الرسم وحده، ومن أجله (الرسم). أما رمسيس يونان (1913 ــ 1966) وحامد ندا (1924 ــ 1990) فقد كانت متعتهما في الرسم تكمن في دعاباتهما السريالية، على الرغم من أن (ندا) تودد إلى الفراعنة بقوة، وهو ما يفعله المصريون عادة حين يتعلق الأمر بمفهوم الأصالة، تاريخيا. وهو مفهوم غالبا ما أدّى إلى الحط من قيمة اللغة التشكيلية لحساب قوة الانتماء. لقد سحرت المواد القديمة ندا، وهو أمر مقبول، غير أن الرجل استسلم في النهاية للأشكال وهو ما جعل لغته ترتخي لتدخل في إطار ما هو عادي ومتداول في السوق السياحية. المواد واللغة
المغربي فريد بلكاهية تعرض للاختبار ذاته الذي تعرض له حامد ندا (الشغف بالمواد المحلية)، غير أنه ظل متوترا ومقتصدا، بعيدا عن كل إسراف عاطفي. لم تخذله لغته وهي التي فارقت معيارها التعبيري من أجل أن تكون خالصة. كانت المواد التي استعارها الرسام من الريف المغربي وبالأخص الجلد والحناء قد سحرته. كان هناك عالم من المسرات والمكائد والآلام لا يزال بكرا ينفتح أمامه. كان هناك جمال لا يؤدى بيسر وبحسن نية، لا يظهر في كل لحظة. لقد هلكت أمم من أجل أن لا تستسلم تلك اللحظة الجمالية لواقعيتها الفجة. يحارب بلكاهية على جبهات عديدة. ليس لديه من المشهد البصري لبلاده المغرب ما لدى زميله محمد المليحي الذي أحاط الأطلسي بغرامه. كما لو أنه أعمى، يرسم بلكاهية بيدين تقتفيان أثر العرّاف الذي مرّ خفية من غير أن يبصره أحد. ولكن للمواد لغتها.
كان شفيق عبود يستعمل الزيت وهو مادة أوروبية المنشأ، وكان زاووكي يستعمل الإكرليك وهي الأخرى مادة أوروبية المنشأ، ولكن الرسامين كانا ينتقلان بماديتهما إلى رحاب طقس مختلف ليس له إطلاقا علاقة بطقس الرسم الأوروبي. مع عبود وزاووكي كانت المواد الأوروبية تفتح عيونها على شرق لم يره أحد من الأوروبيين من قبل. بالنسبة إلى بلكاهية فإن الذهاب إلى المواد كان في حد ذاته محاولة للعثور على لغة.
كان هناك دائما من يبحث عن الشفاء عن طريق وصفات محلية.
عن طريق تلك الوصفات كان هناك شرق لم يره أحد من قبل، في طريقه إلى الظهور.
جدار الغيب
في الطريق إلى الوصفة المحلية تعثر العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925 ــ 2004) بحجر مختلف. لقد اكتشف الشاب القادم من الريف إلى بغداد أن كل خط يلقيه على سطح اللوحة إنما هو صورة عن جرح في جدار الغيب، لذلك حرص على أن تحمل خطوطه رسائل إلى ذلك العالم الذي اكتمل منذ زمن بعيد. بالنسبة إلى آل سعيد فإن لغة الرسم هي أقرب إلى لغة الشكر منها إلى لغة المديح. لم تلهمه الطبيعة جمالياته كما حدث مع الانطباعيين، بل جعلته البيئة يبحث عن الأثر الذي يتركه الإنسان، مؤكدا نزعته الخليقية. كانت لغة آل سعيد تذوب في كل ما هو مطلق من الحركة العشوائية التي يؤديها الإنسان في تيهه اليومي. نتذكر الفرنسي هنري ميشو في تبقيعاته، غير أن آل سعيد كان أكثر من ميشو معنيا بالمعنى الناتئ. كان يمس الأشكال لا ليستغيث بها، بل من أجل أن يعينها على أن لا تكتمل. يثني على نقصها ويبحث لها عن ذريعة للتساؤل الجريح. “ثقي بي وسنصل معا إلى القيامة” كان يرعى أشكالا لا يراها أحد، ولن يراها أحد سواه في موته. قال لي قبل أربع سنوات من موته “هل كنت رساما؟ لم أعد أتذكر كيف يرسم المرء” لن يصدقه أحد، غير أن رسومه تقول ذلك بقوة اليوم.
لوحة: شاكر حسين آل سعيد
حروفية مضاعة
مشكلة آل سعيد أنه كان يوما ما حروفيا، بل إن البعض نصّبه شيخا للحروفيين العرب. في العقدين الأخيرين من حياته لم يظهر حرف في لوحاته. غير أنني على يقين من أن لقبا من نوع (شيخ الحروفيين) كان سيفرحه. فـ”البعد الواحد” وهو عنوان المعرض الجماعي الذي تزعمه في بغداد عام 1972 كان إعلانا عن قيام تجمع وهمي، سرعان ما انفرط عقده، غير أن البيان الذي أصدره آل سعيد في تلك المناسبة سيدخل التاريخ، باعتباره وثيقة من شأنها أن تشير إلى جهود الحروفيين العرب السابقين واللاحقين (السوري محمود حماد، التونسي نجا المهداوي، العراقية مديحة عمر، اللبنانية سلوى روضة شقير، المصري حامد عبدالله، الفلسطيني كمال بلاطه، اللبناني حسين ماضي، الجزائري رشيد القريشي، الأردنية وجدان علي، اللبناني وجيه نحله، والعراقي جميل حمودي). من غير الحروفية، من غير الأوفاق، من غير الأدعية الصوفية، من غير جداول السحر والأرقام سعى آل سعيد إلى أن يحتفي بضنى الجمال وهو يسعى إلى التحرر من هيمنة الموضوع والشكل والتقنية والمادة. لغة حرة لرسم لا يذكر بشيء، هي ما كان يسعى إلى الوصول إليها.
فن خلاسي
سأطلب من صديقي نذير نبعة أن يرسم لي طائرا على الورق. طبعا لن يشبه طائر نبعه ذلك الطائر الذي رسمه بيكاسو يوم كان قريبا من الشيوعيين. طائر نبعة يشبهه، يشبه الرسام الذي قرر أن يكون طائرا لحظة الرسم. لغة ذلك الطائر ستكون محلّقة باختلافها. ذات يوم رأيت لوحة من زياد دلول فتذكرت بوسان. غير أنني حين عدت إلى لوحة دلول اكتشفت أن الهدوء الذي تخيلته كان مختلفا. هناك لغة شخصية أخرى.
كيف يمكننا أن لا نقع في الشبهة؟ شبهة التشابه وشبهة الاختلاف على حد سواء.
لنقل إن هناك مئات من الفنانين العرب قد حاولوا في مختلف المراحل أن يكونوا في لحظة الرسم مخلصين لأصواتهم الشخصية. ولكن السؤال لا يتعلق بإخلاص أولئك الرسامين الشخصي، بل بدرجة نقاء أصواتهم.
ألم يكن فننا خلاسيا منذ البدء؟ بالمعنى الذي يجعله نهبا لصراع قوّتين. واحدة تبدّد ثرواتها في استلهام المنسي وأسطرة أثره الشعبي والثانية تلهث وهي تسعى إلى الإمساك بأذيال أبجدية لغة، لم تعد تجلياتها الواقعية تشبهها أو تذكّر بها.
بلاد الأنبياء
كان فن إلياس الزيات مسيحيا وكان فن إبراهيم الصلحي أفريقيا أما المليحي محمد فإن هوى المتوسط كان قد غمر لوحاته بزرقته ورافع الناصري كان عراقيا بضراوة أدعيته البغدادية وأتذكر عادل السيوي مصريا يبحث بين وجوه الفيوم عن وجهه الشخصي. ولكن كل هذا لا يدعو إلى اليأس. كان لبلاد الأنبياء لغة الكون من قبل أن ترثها الكيانات السياسية الصغيرة، التي هي اختراع استعماري. قبل الرسم كانت لنا لغة الإيحاء، وهي لغة وهمية، وكما أظن فإن رسامينا (الملهَمين منهم على الأقل) قد تعلموا تلك اللغة المباركة. وهي لغة من غير مفردات مؤكدة. علينا أن نجازف لنصل إلى الصلة الخفية التي تربط بين ما يُرسم وما لم يُرسم بعد. لقد انتظرنا مئات السنين لكي يولد الرسم في بلادنا. استأنف المصري محمود مختار النحت من لحظة انتهى النحات الفرعوني فيها من منحوتته الأخيرة، غير أن جواد سليم رسم على القماش لوحته الأولى منتحلا صفة المزوّق، من غير أن يكون لديه نص مكتوب ليلتحق به برسومه التوضيحية، متأثرا بمعلمه القديم يحيى بن محمود الواسطي. كانت لحظة استقلال الرسم إعلانا عن ولادة فن جديد. وكما أرى مطمئنا فإن لغة الرسم العربي ولدت في اللحظة التي اختار فيها الرسام أن يتحاشى الرسام المرور بالنص المكتوب. هناك لغة مبيتة دائما.
كان شفيق عبود لبنانيا، بالرغم من الزيت. ولكن كان هناك شيء آخر.
بالضبط مثلما كان زاووكي صينيا، بالرغم من الإكرليك، ولكن كان هناك شيء آخر أيضا.
وصفات جاهزة
يصلح المجاز السابق عونا للعبور إلى منطقة أخرى، أقل يأسا وأكثر تشبثا بحيوية ما انطوت عليه التجربة التشكيلية العربية من قيم جمالية، لا يزال الجزء الأكبر منها مطمورا على المستوى النظري. ولكن إذا ما ألقينا نظرة شاسعة على المشهد الفني العربي الآن سنرى أن السلوك الفني القائم على استعارة الوحدات التراثية والفلكلورية قد حقق أرقاما قياسية في مجال صياغة لغة بصرية مشتركة بين الفنان والمتلقي. بحيث صارت اللوحة تُصنع في مناخ غائم ومريب، تغلب عليه ألاعيب الوصفات الجاهزة، شكليا وتقنيا. بحيث صرنا متأكدين من أن الرسام إنما يعمل وفق مقاييس مختبرية، لا علاقة لها بمبدأ الاشتباك بحيوية الحياة وهو المبدأ الذي يتميز بقدر عال من الفوضى والذي صار بسبب الظروف التاريخية القاسية التي يعيشها الوطن العربي مبدأ انتحاريا. لقد تكاتفت قوى عديدة في ما بينها من أجل أن يتراجع الرسام عن خياراته الوجودية، ويكون عينا تصغي لرؤى فئات من المجتمع، لم تعنها تجربتها في الحياة على الارتقاء عن مستوى التلقي البصري السلبي، حيث التكرار هو الغالب في عملية التذوق الجمالي.
لوحة: فاتح المدرس
ما نعدّه من الرسم فنا جاهزا صار اليوم يحتل الجزء الأكبر من المشهد. وليس غريبا أن ينتمي التيار الحروفي في خواتمه إلى هذا النوع من الفن، ذلك لأن ذلك التيار في الكثير من محاولاته لم يعد ليحسب على الفن الصعب. فالحروفيون الآن (لنقل معظمهم) يرتبطون اليوم بمزاج شعبي خفي، يتقدم من خلاله الوهم المستقر على الحقيقة المغامرة. ولا أبالغ إذا ما قلت إن الحروفية صارت عبارة عن طقس بصري استعادي، هذّبه المثقفون ليكونوا من خلاله روادا لفن يستلهم قيمه الجمالية مما هو مكرس اجتماعيا بصيغة ثقافية. ومن اللافت أن الحروفية صارت مناسبة لكي يجهض خطاطون عرب كبار مشاريعهم الكبيرة في تطوير الخط العربي وتغييره والنهوض به فينساقوا إلى ممرات ثانوية، دفعا لشبهة ممارسة فن تطبيقي وإرضاء لحساسية السوق. واقعيا خسرنا خطاطين ولم نربح رسامين.
وكانت للسوق لغتها التي وجدت بين حشود الفنانين المئات التي تنصت إليها.
لا تزال هناك أندلس
بعد أكثر من سبعين سنة من بدايات الحداثة الفنية يعود بنا الرسامون اليوم إلى زمن المفردات الجمالية المتاحة. حتى أن المسافة بين الحرفي والفنان ضاقت ولم يعد الفرق جوهريا بين الاثنين. هناك وسائل تضع (الفنان) في مكان مختلف، غير أنها لا تخفي عن العين الخبيرة حقيقة أن الفنان نفسه صار رهينة عالم تتجاذبه قوتان: حيلة السوق ومهارات تقنية تنتمي إلى الدرس ولا تشي بأيّ نوع من الخبرة المغامرة. يلتقط الرسام مفردة من المحيط الثقافي، ليلعب عليها، يكررها، يمحو جزءا منها، يكبّرها، يغرّبها عن وظيفتها الأصلية ويحركها في سياق بلاغي مختلف. الحرفي لا يفعل ذلك إلا في حدود خبرته التقنية. لقد أحكم السوق على الفن قيد لغة الصنعة. وهي لغة مباركة من جهة ما تدرّه من أموال، سيكون الفنان بسببها أكثر المنتفعين من تخاذله وانحطاط قيمته الاعتبارية.
خطأ قديم يعود إلى خمسينات القرن الماضي، يوم اعتقد فنانو الحداثة الأوائل صادقين أن استعارة مفردات تراثية وفلكلورية ستكون بابا لحداثة أصيلة، يدفع ثمنه الفن العربي اليوم. مئات من الفنانين العرب لا همّ لهم سوى ممارسة تلك الحيلة القديمة: التراث معاصرا. سأجازف بالقول إن هناك أموالا هائلة تهدر من أجل كذبة. فمن وجهة نظري أن تراثنا بالرغم من كل المحاولات لـ”عصرنته” لم يتحرك جماليا قيد شعرة عن موقعه الذي كان ولا يزال رفيعا. لا يزال الجمال الذي تقترحه آثار أجدادنا في الأندلس وفي دمشق والقاهرة وبغداد أهم بكثير من التجارب المسخ التي ادعت (ولا تزال) استلهام مفرداته التشكيلية.
مع ذلك يظل هذا الكثير زبدا حائرا. كيف؟
الوثيقة المغامرة
تستحق بدايات الرسم الحديث في الوطن العربي أن نتخيلها دائما. كان هناك تاريخ عميق من القسوة. لم تهب خمسة قرون من الظلام العثماني العراق سوى رسام واحد: عبد القادر الرسام (1882 ــ 1952). الرجل الذي لم ير من حياته، ضابطا في الجيش العثماني إلا مناسبة لتعلم الرسم، وفاز في نهايات حياته بصفة رسام. وهي الصفة التي لم تكن معروفة في بلده. حين جلس الرسام عام 1951 بين عدد كبير من البشر، لم يتعرف عليهم من قبل، لالتقاط صورة فوتوغرافية لم يكن يتخيّل أن تلك الصورة ستكون بمثابة أيقونة وطنية، ذلك لأنها تظهر إلى جانبه عددا من الشباب ممن سيكون لهم موقع عظيم في صناعة فن المستقبل في السنوات القليلة التالية. كان هناك جواد سليم وحافظ الدروبي وأكرم شكري وعيسى حنا. ربما كان أولئك الشباب قد احتالوا على الشيخ من أجل أن يحصلوا على تلك الوثيقة.
صورة هي أشبه بالوصية
في المغرب ورث الرسامون المغاربة الرسم عن المعلمين الأسبان والفرنسيين. ولم تكن هناك وصية. ستكون اللغة الفنية مختلفة بين مشرق الوطن العربي ومغربه. من وجهة نظري كانت تجربة شاكر حسن آل سعيد الفنية بمثابة ضربة حظ بالنسبة إلى المغاربة ليعيدوا ارتباطهم بفن المشرق العربي (عبدالله الحريري، فؤاد بلامين بشكل خاص). لقد اكتسبت سبعينات القرن العشرين صفة العقد العربي الهادئ الذي استطاعت أثناءه ثقافات البلدان العربية أن تتصل، بعضها بالبعض الآخر. كان عقدا شقيا بما حمله من مفاجآت المعرفة. كانت لغة الرسم واحدة من أهم الألغاز التي صار في الإمكان الحصول على مفاتيحها في ذلك العقد.
يومها كنا نقف جميعا على الشرفات.
شكل ولا شكل
توزّعت لغة الرسم العربي بين منطقتين: شكلية ولا شكلية. في المنطقة الأولى يختلط التجريدي بالتشخيصي، ليشكّل الناتج جدارا عازلا، من خلفه تتخذ الحياة صورة فكرة محايدة عن العيش. هي الفكرة التي صار الكثيرون يودّون لو اقتنصوا الفرصة لامتلاكها ومن ثم المضي من خلالها إلى مغزى الصورة. في المنطقة الثانية كانت الإرادات تتصارع إرضاء لقوة الغياب. هي فكرة عن عالم لا يزال غير قادر على إرضاء ذاته. لقد تمترس هناك صوفيون ووجوديون وضحايا متمهلون وماركسيون سابقون وعدميون صاغوا عالما غير قابل للعيش، لكنه عالم أخّاذ ومهيمن. من وجهة نظر هؤلاء فإنه ليس هناك ما يستحق أن يكون مجالا لإعادة النظر. الرسم وحده يمكنه أن يخلق عالما فذا، هو في حقيقته حديقة الحواس، وفي الوقت نفسه هو الشاهد على فشل الحدس في التقاط بذرة تجليه النهائية. كان هناك دائما نوع من الإحباط، نبرة حزن يغطيها الغضب بفقاعاته. ربما تصل الخرافة إلى درجة التزيين. يشعر هيمت، وهو رسام كردي من كركوك في شمال العراق، بالحيرة بين أن يصف عذابه الذي لا يليق به الوصف وحده وبين أن يزخرف متعته، كائنا صار الرسم قوته اليومي.
لوحة: نذير نبعة
الوجه باعتباره مقياسا
بعد كل هذا، أليس ضروريا أن نتساءل أين تقع اللغة في العمل الفني؟ أفي الأشكال أم في التقنية؟ ربما علينا أن نستبعد إمكانية الحديث عن الأسلوب، أيّ أسلوب. ذلك لأن الأسلوب لن يكون إلا مظهرا من مظاهر تلك اللغة. يُمكّننا الأسلوب من أن نقوى على التصريح بوجود لغة. وإذا ما كان عدد كبير من رسامينا قد سقطوا ضحية لوهم الأسلوبية، بما ينطوي عليه ذلك الوهم من زعم شخصي، فإن الرسم، كونه محاولة لاستخراج مواقع حساسة لجمال لم يُستنفد بعد يظل رهين لغة هي أشبه بالوديعة التي تتنقل بها كائنات خفية بين الطبيعة والأعمال الفنية، ذهابا وإيابا، بما يكسبها خبرة المسافر الذي تشغله متعة النظر إلى الطريق عن التفكير بمحطة الوصول.
لنأخذ “الوجه البشري” باعتباره موضوعا. لطالما استلهم الرسامون الوجه، باعتباره لقية تعبيرية. على سبيل المثال، هناك ثلاثة رسامين عرب احتل الوجه الجزء الأعظم من تجاربهم الفنية: السوري مروان (قصاب باشي)، العراقي ضياء العزاوي والمصري عادل السيوي. لكل واحد من الرسامين الثلاثة نزعته الأسلوبية التي هي التعبير الأمثل عن سلوك بصري ينطوي على مرجعيات فكرية خاصة وأيضا على دربة وخبرة تقنيّتين. ولكن هل كان الوجه بالنسبة إلى الثلاثة مقصودا لذاته؟
في كل الأحوال يصلح الوجه البشري وحدة للقياس.
بالنسبة إلى مروان فقد كان الوجه معيارا لقياس درجة ونوع المشاعر والانفعالات والتجاذبات الشكلية. ليس المقصود هنا مشاعر الشخصية المرسومة وانفعالاتها، إن كانت تلك الشخصية واقعية. بل الأمر كله يتعلق بالرسام، من حيث كونه الجهة التي ترى وتتخيل وتبعث الأشكال من عدم بصري. ومع ذلك تظل وجوه مروان مكتفية بذاتها ولا تحتاج إلى تعليق شكلي، يمكن أن يجعلها جزءا من موضوع. الوجه هو الموضوع الحاسم.
في حالة ضياء العزاوي فإن الخرافة بكل امتداداتها التصويرية المتخيلة تحل محل الواقع، بل وتنفيه. لذلك فإن الوجه يلعب دورا تكميليا بغض النظر عن حجمه على سطح اللوحة، لا بمعنى أنه يسد مضطرا نقصا بل بما يعني أنه يرافق الحالة السردية إلى خواتمها، باعتباره راويا ورائيا. الوجه هو جزء من كلّ تصويري، ملامحه الأسطورية هي تعبير عن تحولات الوقائع التي يستند إليها، وهي وقائع تتخذ طابعا ملحميا، حتى وإن كان موضوع السرد حدثا راهنا، مثل مجزرة تل الزعتر.
أما بالنسبة إلى عادل السيوي، وهو رسام يرى في الوقائع اليومية نوعا من الخرافة المتحققة، فإن كل وجه يرسمه، يمكنه أن يكون وجهه، ويمكنه أن يرتقي في الوقت نفسه إلى مصاف الأيقونة. وجوه الفيوم وهنّ ملهماته تقول الشيء نفسه. وجوه السيوي لا تجمع بين الواقعي والأسطوري، حسب بل هي أيضا تمشي بالاثنين في اتجاه مشترك: الخلود الغامض باعتباره حلا لمشكلات العيش.
بين التقنية والشكل
الوجه وهو وحدة لغوية وضعنا أمام مائدة، قوتها أرضي وسماوي في الوقت نفسه. ولو أعدنا الكرة وقمنا بالمقارنة بين فنانين عرب، مستعملين قياس موضوع بعينه، لاكتشفنا أن اللغة العينية نفسها قد تعرضت للتحلل والاختلاف بين الصلابة والذوبان. وكما أرى فإن الرسامين الذين تخلوا عن الشكل (شفيق عبود وشاكر حسن في الثلاثين سنة الأخيرة من حياتهما بالتحديد) قد نظفوا لغة الرسم في الوطن العربي من المفردات المباشرة، وأعادوها إلى منطقة نفوذها، طقسا روحيا. ومن الضروري هنا أن أؤكد أن لا شكلانية عبود وبشكل أوضح لا شكلانية شاكر حسن لا علاقة لها بمفهوم (التجريد الغنائي) الذي اقترحه الفرنسي جورج ماتيو ودخل قواميس الفن. هما أقرب إلى تجربة جان فوترييه، الرسام الفرنسي الذي استلهم تجريديّاته من لحظة عمى تصويري، كانت ثمرة لسنوات اختفائه أثناء مرحلة مقاومة الاحتلال النازي في فرنسا. عاش الرجل يومها باعتباره كائنا خفيا. وكما أرى فإن سيرة اللامرئي وقد ظهرت في الرسم العربي من خلال تجربتي عبود وآل سعيد، إنما تعدّ فصلا مهما من فصول اللغة التي كسرت الحواجز بين الشكل والتقنية.
ذاب الشكل في التقنية.
صارت التقنية تبحث عن أشكالها المجردة.
لغة كالموسيقى
ولكن ألم يكن التيار الشكلي (بجناحيه التجريدي والتشخيصي) أكثر غنى على المستوى اللغوي من تيار لا شكلي يحرص على إعلان براءته من الوظيفة الثقافية للغة، كونها عنصر اتصال بين الواقع وخياله اللفظي؟ أعتقد أن اللاشكليين قد لجأوا إلى خيار اللغة البديلة، وهي لغة أشبه بالموسيقى من جهة تجردها من المعاني المتاحة واقعيا. فكانوا لذلك أكثر حرصا من الآخرين على أن تكون للرسم لغته الخاصة والمستقلة. لغة خاصة لأنه لا يمكن تداولها ثقافيا ومستقلة لأنها تؤسس داخل الرسم عالمها الاشتقاقي الفذ.
ولو نظرنا على سبيل المثال إلى تجربتي فنانين تجريديين مهمّين، هما العراقي رافع الناصري ومحمد المليحي، لعثرنا في لغة فنهما على ما يثني على الطبيعة، كونها المعجزة التي ينبعث الرسم منها ومن خلال الصلة بها. وبهذا الثناء تكون لغة الطبيعة هي التي تهب لغة الرسم كفاءته على اختراع سبل نجاته. كانا رسامين كبيرين، لكن في حدود التجريد الغنائي. وكما أرى فإن الرساميْن قد وهبا الطبيعة لغة صافية داخل الرسم، لغة كان من شأنها أن تخترع أشجارا وعصافير وجداول وأسرابا من البجع وزهورا برية لم ترها الطبيعة من قبل. كان الرسم كريما دائما، سواء في علاقته مع الطبيعة أم مع التاريخ. غير أنه كان بخيلا مع نفسه.
الرسام مصورا أيضا
لا تزال لغة الرسم في الوطن العربي تتعثر بمفردات مستعارة من خارجه. مفردات سعى الرسامون إلى تهذيبها، غير أن أصابع الصائغ هي التي انتصرت أخيرا. وهي أصابع لا تقبل الفوضى. لن يحل الضجر المشكلة. هناك لغة تقبل التفاوض، لغة اشتقاقية قريبة من لغة المعابد القديمة: الآلهة المتعددة والعبد الوحيد. صار الرسام العربي خادما للغة سواه. لغة يخدمها الرسم في لحظة تصوير استثنائية.
حينها يكون الرسّام مصورا حسب التعبير المصري.
نحن في المتاهة.