الجميلة والوحش
ركنت سيّارتها في تمام موعدها اليوميّ، وألقت بنظرة خاطفة على شاشة هاتفها، فإذا به يشير إلى تمام الساعة السادسة صباحا، فارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهها انبسطت لها أساريرها.
طافت بعينيها على السيّارات القليلة الموجودة في المأوى، تبحث عن واحدة بعينها لم تكن من بينها، فأعادت النظر إلى هاتفها، وانتبهت إلى رسالة من صديقتها ديما، تعتذر لها عن تغيّبها، وتخبرها بأنّ ابنها الصغير محموم، ولا بدّ أن تأخذه إلى الطبيب، وختمت رسالتها بوصيّة “لا تنزعجي يا فدوى، فهو مجرّد رشح بسيط، استمتعي بجولتك، تنفّسي عميقا وأنت تمشين أو تعدين، غدا تجدينني بانتظارك في المأوى، كوني بخير غاليتي”.
داهمها انقباض مفاجئ، فهي لم تتهيّأ لأن تكون وحيدة في ذلك المكان الشاسع القصيّ، ولكن سرعان ما طردت عنها ذلك الشعور المبهم، ووجّهت انتباهها وحواسّها لما حولها، إلى المنتزه الجميل وهو يرزح تحت وطأة الصمت المهيب، الصمت الذي يسبق الجلبة، لأنّ كلّ شيء فيه يستفيق بتؤدة ولطف، الصبح وهو يتنفّس، والشمس وهي تسدل خصلها المبتسمة، وجيوش النمل وهي ترتّب عمل يومها، والعصافير وهي تنفض النوم عن أجنحتها. هذه الحياة هاهنا والمختلفة عن الحياة الصاخبة في المدينة، لشدّ ما تعلّقت بها فدوى، وصارت تجدها زيارة بعد أخرى، آسرة، غامضة ومريحة. المكان بأشجاره الباسقة، ومسالكه المتشعّبة، وأطياره المغرّدة، وأحراشه البكر القصيّة، لقد وجدت في ارتيادها لهذا المنتزه بصحبة صديقتها شفاء لروحها المعطوبة، وعوضا عن الفراغ الذي يثقب صدرها، منذ رحل رفيقها الذي كان يؤنسها ويملأ حياتها.
علّقت مفتاح السيّارة في حزام خاصرتها، ودسّت هاتفها المحمول في جيب سروالها الرياضيّ، بعد أن ألقت بحقيبتها الصغيرة فوق ظهرها.
سارت بخطى هادئة أول الأمر، تصيخ إلى حديث الطبيعة وتفكّ الحجب عن لغتها الهامسة، كان نسيمُ الصباحِ الباردُ يلفح خدّيها ويبعثر شعرها، ويعبث بخُصلاتها، فيشعرها بالتحرّر كلّ خطوة أكثر، فترفع من وتيرة إيقاع سيرها، دون أن يصيبها التعب.
كانت ترفع رأسها من حين إلى آخر نحو الأشجار الباسقة، التي تتراصّ وتتحاذى على حافتي المسلك، تنظر بعين الدهشة إلى الشجرة الواحدة، كيف تمدّ أغصانها نحو أغصان الشجرة المقابلة لها، من الجانب الآخر للطريق، فتتشابكان، وتلتفّان في عناق حميم ومتين الأواصر. كان ذلك يشعرها بالأنس، ويعمّق إحساسها بالجمال. كانت كلّ حواسّها متيقّظة، تلقط تفاصيل كثيرة من حولها، بعضها حقيقيّ، وبعضها الآخر ينسجه خيالها المرهف.
بلغت المسلك الثالث، فتوقّفت، وأخرجت من حقيبتها قارورة الماء، وعبّت ما يكفي لترطيب عروقها ولسانها، ثمّ ثبّتت السمّاعتين في أذنيها ودخلت قوقعتها. لقد حمّلت لجولتها هذا اليومَ قصصا صوتيّة رائقة، ومقطوعات غنائيّة تراثيّة جميلة، سوف تعرج بها إلى ذكرياتها البعيدة. هذه الطقوس الجميلة هي ما طيّب نفسها، وأوسع صدرها، زيادة على بقيّة العادات التي أوصاها طبيبها النفسيّ باتّباعها، للخروج من سجن الوحدة، كإقامة علاقات إنسانيّة جديدة، ومخالطة نوادي الفنون والترفيه، والمطالعة بصفة يوميّة، فقد أخبرها بأنّ قراءة الكتب تجعلنا نعيش بدل الحياة الواحدة حيوات جميلة متعدّدة. تذكّرت فجأة أنّها غفلت عن حبّة المهدئ التي كان عليها أن تتناولها بعد وجبة الصباح، وبدل أن تنزعج، هزّت كتفيها بلامبالاة، وهي تحدّث نفسها “الأمور جيّدة، أنا بخير، وكلّ شيء بخير، والحياة حلوة، والناس طيّبون أخيار..”، وهذا الموّال تردّده باستمرار، بينها وبين نفسها، كتدريب يرفع من معنوياتها، ويملؤها بالإيجابيّة.
شعرت بالإعياء، فتوقّفت عن الهرولة، ومالت نحو هضبة صغيرة حجريّة، على جانب المسلك، وجلست عليها لتأخذ قسطا من الراحة والتأمّل. لفت انتباهها، غير بعيد عن مستوى قدميها، منطقة تشوّه عشبُها، منزوع بعضه، ومنسحق بعضه الآخر، وكأنّه بفعل شيء سُحل فوقه سحلا، فساءها أن يفسُد هذا المنتزه الجميل، نهضت لتواصل رياضتها، ولكنّها لم تكد تخطو بضع خطوات حتى تعثّرت بفردة حذاء رياضيّ، مفكوكة الرباط، ومطموسة المعالم بفعل الوحل والطين، رجّحت أنّها لأنثى، ثمّ ابتسمت بمرح زائد وحدّثت نفسها “يبدو أنّ صاحبة الحذاء قد رمت بنفسها في سباق قاس، جعلها تخلّف حذاءها وراءها من أجل الفوز به، ولا تبالي”. ولتدفع باستمتاعها إلى أقصاه، راحت تطلق خيالها، وتفترض حكايات مجنونة، أطرفها أنّ الحذاء هو لسندريلا هذا العصر، سندريلا رياضيّة، تحبّ الألعاب والسباقات، ولا تستهويها الحفلات الراقصة، ولا فساتين الدانتيل، ولا الأحذية ذات الكعوب العالية، خرجت من منزلها، ذات غفلة من أخواتها البشعات، وزوجة أبيها الشرّيرة، التي تعذّبها بأشغال منزليّة على مدار اليوم، تصرخ فيها وتقول “من له قدمان كبيرتان كقدميك، يجب ألّا يتوقّف عن الخدمة أبدا”. وتواصل فدوى في حبك قصّتها، فتقول “لا شكّ أنّ الأمير الموعود بالزواج بها مجنون هو الآخر، وإلّا كيف يحتمل زوجة تملك قدمين شبيهتين بساقي فيل؟”. أفكارها الطريفة تلك ضخّت فيها نشاطا جديدا، جعلها تواصل الهرولة بلياقة بدنيّة عالية، ومرح لم يدم للأسف طويلا إذ أنّها شعرت فجأة بشيء ما يحدث، غير بعيد عنها، غريب، ولكنّها لا تحدّد مصدره. نزعت السمّاعتين من أذنيها، وتوقّفت، وأصاخت بالسمع حتّى بلغها صوت حفيف أو جسم ثقيل يسحب أو يرتطم، أو لعلّه وقع أقدام، كانت كلّما أمعنت السمع ذهب ارتياحها، وحلّ محلّه القلق. حدّثت نفسها “لعلّ الإجهاد جعلني أتوهّم”. ولمّا شعرت بالاضطراب يتملّكها، قرّرت أن تسلك طريق العودة، وليس قرارها بسبب الصوت الغريب الذي بلغ مسامعها فحسب، وإنّما لأنّها أمعنت في التوغّل في هذا المكان الذي لا يبدو أنّ له نهاية، كما أنّ الجوّ بدأ يميل إلى التقلّب، فها قد عبست الشمس فجأة، وهجمت الظلال على المسالك، حتّى غلبت عليها الظلمة.
دارت فدوى على عقبيها فوجدت نفسها في مواجهة أكثر من طريق، سلكت إحداها على غير هدى، حتّى لا تطيل الوقوف، فهي لم تعد تشعر بالطمأنينة، وليس أمامها إلا أن تتحرّك نحو طريق العودة، أو أيّ مكان آهل بالبشر. وقفز إلى ذهنها سؤال أودى بكلّ طمأنينتها “كيف للمنتزه أن يظلّ فارغا حتّى هذه الساعة المتأخّرة من الصبح؟”.
تملّكتها الهواجس فجأة، وأحكمت شراكها حول عقلها وقلبها، كما أيقظت فيها جراحا لم تزل طريّة ملء صدرها.
سارعت الخطى وهي تحاول عبثا أن تعيد ترديد تلك الجملة الأثيرة: “أنا بخير، كلّ شيء بخير، والحياة حلوة…”
لم يسعفها ما لمحته كي تتمّ جملتها، رأت من بين الأحراش شبحا يجرّ كيسا كبيرا أسود، ثمّ يتوقّف ويسدّد نظره إليها، فجعل قلبها يدقّ دقّات أصمّت أذنيها، فأطلقت ساقيها تجري وتركض ولا تلوي على شيء، ولكنّها سرعان ما شعرت بشبح يتبعها كظلّها، ويحاكي حركتها، تسرع فيسرع، وتتوقّف فيتوقّف، فارتعدت فرائصها، وعبث الرعب بعقلها. تشجّعت فالتفتت نصف التفاتة، ورمت بنظرة خاطفة وجلة بجانبها، فهالها ما رأته، لقد كانت فردة الحذاء، الضخمة تلك، تلاحقها، فضاعفت جهدها، تشقّ المسالك على غير هدى، والقلب يكاد يقفز من بين ضلوعها. لقد صارت ترى كلّ شيء حولها بعين الخوف والهلع، فالطيور التي كانت تطرب لشدوها، استحالت بوما ناعقا منذرا بالشؤم، وتلك الأشجار المتشابكة والمتعانقة أصبحت تنسج لها الفخاخ وتتآمر عليها. ها هي تحوّل أغصانها إلى قضبان حديديّة، تمدّ بعضها لتطبق عليها، وتمدّ أذرعا أخرى لتسحقها كحشرة بائسة عديمة الفائدة، التصق لسانها بحلقها، واشتدّ بها الرهاب من المكان وما عادت تطيق وجودها فيه لحظة زائدة.
كانت كلّما زادت من وتيرة ركضها ازدادت مع ذلك أوهامها. وجدت الحذاء الذي يطاردها يكبر، ويكبر، ويعظم، “من ذا الذي يطاردها؟ أيكون بطل أسطورة “صاحب القدم الكبيرة”؟ المخلوق العجيب الذي يسكن الغابة، أم هو الغول الذي خطف “روفا” الفتاة الأمازيغيّة الجميلة، ولكنّ روفا نادت أباها “إينوفا”، وإخوتها الذكور، الذين يمتلكون قوى خارقة، استخدموها لإنجادها، أمّا هي، فدوى، فبائسة ووحيدة، يتيمة وأرملة، وما من مجير ينجيها من براثن الوحش الذي يطاردها؟
وسرعان ما بدأ خيالها ينسج المزيد من الأوهام، بأصابع منزوعة الرحمة، ترسم ملامح صاحب الحذاء، وتشكّله، عضوا عضوا. ها هو بأكمل بشاعته، وحش مرعب كاسر بيدين كبيرتين، وبقبضة من حديد، أسنانه ناتئة، تقطر بدم ضحاياه، وها ذا دورها قد أزف، ليشرب من دمها، ويلقي بأشلائها الباقية في غياهب هذه الغابة… اشتدّ بها الغمّ والرعب ونال منها التعب، حتّى فقدت توازنها وتعثرت وسط تلك الأحراش…
ظلت لثوان مديدة، طولها الدهر، تحملق فيه بصوت أخرس، وعيون زائغة، وفرائص مرتعدة، وكان هو على مرمى حجر منها، ضخما كمارد، مخيفا مقرفا بشعا كالموت، رأت في ملامحه الوحش واللص والسفاح، وفي لهاثه وارتعاشه لهفته للشرّ، وفي اصفرار وجهه، لون سمّه الزعاف، “هبْ أنّه ينوي التحرش بي واغتصابي، هبْ أنّه ينوي قتلي؟ من سينقذني من براثن الموت يا إلهي؟”، وأرعبتها فكرة الموت، وأيقظت في ذاكرتها ثقبا أسود، اتّسع فجأة وابتلع كل تلك الشهور من العلاج المتواصل، كم كانت تظنّ أنّها قد تعافت، ولكنّ هيهات أن يكون ذلك صحيحا، فآلامها القديمة وفواجعها لم تكن إلّا غافية، والآن ها هي تطفو على كلّ حواسّها بكلّ ذكرياتها الموجعة. ولكن مع كلّ ذلك انبعث صوت قويّ من أعماقها، يحثّها حثّا على عدم الاستسلام “قومي يا فدوى، لا تتركي الموت ينال منك للمرّة الثانية، اثأري لزوجك المسكين، ولنفسك، ولكلّ من كان ضحيّة قاطع طريق”، وفي ومضة البرق، امتدّت يدها تلتقط حجارة صلبة، حولها، ثم نطّت في مواجهة المارد… أشهرت ذراعها في وجهه وهوت بالحجارة على وجهه، ولكن قبل أن تصيب الحجارة مرماها، رأت الوحش يتملّكه الشحوب، فالارتعاش، قبل أن يخرّ مغشيّا عليه، وترتخي أطرافه بالكامل.
همّت بأن تلوذ بالفرار، فالقدر الطيّب يهديها فرصة للنجاة، ويكتب لها من حافّة الموت حياة جديدة. فكّرت أن تهشّم رأسه، وأن تمزّق لحمه لتطهّر العالم من شرّه، لكنّها لمحته يرتعش بقوّة، ممتقع الوجه، مسبل الجفون، كاظما على أسنانه بقوّة، ورغوة بيضاء كالزبد تسيل من فمه. نظرت إلى وجهه، فلا أنياب ناتئة ولا دماء متقاطرة، ولا شعرا خشنا يغطّي وجهه وجسده، بل رأت له وجها آدميّا يكاد يشي بأمارات الطيبة، وجسدا ضاويا يبعث على الشفقة، وملابس بائسة متّسخة، وانتبهت إلى أنّه يرتدي صدريّة عليها ختم البلديّة. وفجأة انزاح عن بصرها ستار الوهم الذي أعماها عن الحقيقة، والذي ملأ تصوّراتها بالخيال والأساطير والخرافات. رقّ قلبها التعب، فجثمت على ركبتيها تفحص حالته، فلفتت انتباهها يداه الخشنتان، والمليئتان بالندوب من أثر الخدمة. أمسكت إحداها لتتفقّد حرارتها، فارتخت راحة كفّه، وسقط من قبضتها شيء تعرفه هي جيّدا، فانفلتت منها صيحة. لقد كان يمسك بمفتاح سيّارتها الذي سقط منها بلا شكّ أثناء جولتها… “إذن هو يلاحقني لـ…” لم تنه جملتها، إذ تسارعت الحقائق بعدها، الواحدة تلو الأخرى، جليّة لا غبار عليها. نظرت إلى وجهه ثانية، وفهمت بحكم خبرتها مع المرض أنّ الرجل المسكين يشكو هبوطا في نسبة السكّري، وتلك الإغماءة والرغوة المنبعثة من فمه، وذلك الشحوب في جلده، كلّها دلائل على حالته الخطرة. تملّكها شعور عميق بالشفقة، فقد رأت في وضعيته صورة زوجها المغدور، وهو يصارع الموت، في طريق خلو من المارّة، بعد أن هجم عليه قطّاع الطريق، فضربوه وسلبوا ماله وهاتفه وسيّارته، وألقوا به في جبّ سحيق، ينزف وحيدا حدّ الموت، كان زوجها يومها وحيدا، بلا عابر ينجده، وبلا يد رحيمة تمتدّ إليه لتنتشله، ولكنّ هذا الغريب الآن، ليس مثله وحيدا، إنّها هنا، أمامه، وقاب قوسين من نجاته، ولن تتركه لميتة بائسة تأخذه. مالت عليه وهي تردّد “لا، لن أتخلى عنك أيّها الغريب ساعة ضعف”.
تناولت قارورة الماء، وبلّت وجهه، ثمّ تذكّرت فجأة شيئا ثمينا، لا تنسى عند كلّ جولة رياضيّة أن تدسّه في جوف جيبها.
كانت تنقر على أزرار هاتفها بيد، وتدفع بيدها الثانية بطرف قطعة الحلوى إلى فم الرجل الفاقد للوعي، ثمّ تهزّه وهي تصيح “أفق، أفق أيّها الغريب، أفق أيّها الرجل الطيّب، لا تمت أرجوك، أفق أتوسّل إليك…”.