الجنس، السلطة والاغتصاب
كثيرا ما أثيرت نقاشات كثيرة حول كتابة التاريخ أو إعادة كتابته، ويكثر هذا الكلام عند دعاة التفسير الرسمي للتاريخ، لكن ذلك ظل مجرد ثرثرة يتم إعادة إنتاجها كخطاب مخدّر مع كل مناسبة وطنية أو أزمة سياسية مزاجية مع المستعمر السابق، إلا أننا لم نفكر يوم في إعادة التفكير في تاريخنا السياسي والسلطوي من زاوية ثقافية نقدية جنسوية، وهذا ما أقترحه في هذه المقالة/المقاربة للتاريخ السياسي والسلطوي للحكم في جزائر ما بعد الكولونيالية.
لم يحدث وأن طرحت مسألة مقاربة التاريخ من زاوية جنسية، لأننا اعتقدنا أن الجنس لا يمكن النظر إليه إلا من زاوية القراءة الأولى ذات المعنى الحرفي والسطحي للكلمة، ومن هنا سنسعى إلى الاعتماد على هذه النظرة التي تعني أولا ربط طابو الجنس بالتاريخ كونه الشقيق التوأم للسياسة ومن هنا تتكون إمكانية التفكيك للطابو المزدوج: التاريخ والجنس على حد سواء.
ظلت الأرض من زاوية التفسير الجنسي للتاريخ والسلطة والسياسة تعني الجسد المقدس الذي يمثل موضوع الصراع المرتبط بنزعة الامتلاك والاستمتاع بالجسد الممتلك، وربما من هذا المنطلق شكلت الأرض المرادف للشرف.
إن فقدان الأرض مثل بالنسبة إلى الجزائري فقدانه لامرأته، وبالتالي لشرفه، وعلى هذا الأساس قاتل الجزائري بشراسة عشية افتكاكه أرضه إلى غاية الموت، والذي سمّاه استشهادا معتمدا على التوظيف الديني للتضحية القصوى بكل ما لديه ليس فقط من مال وإنما بما هو عزيز لديه وهو روحه وحياته.
وكان فقدان الأرض يعني فقدان الشرف، ومن هنا كان الجزائري الذي ارتضى بامتلاك الأجنبي لأرضه دليلا على نهايته كمخلوق حي يحق له الاعتزاز بوجوده، اختار الجزائري الذي أضاع أرضه الصمت والإذعان، وارتكن إلى عالم وحياة الصمت الطويل، صار فاقدا لغته، ووجدانه، وكل ما يدل على وجوده الحي.
كان الجيل الأول المنهزم، جيلا فاقدا للكلام، للغة، ولذا فتفريطه في لغته وإذعانه لسلطة اللغة الدخيلة، كان نتيجة منطقية لفقدان أرضه، لقد أصبح عاريا دون أرض، وهو يرى زوجته/الأم الأرض تسبى بينما العجز يكبل يديه ولسانه، وهذا ما جعله يخفي زوجته الحقيقية (فانون: العام الخامس للثورة الجزائرية.، ماسبيرو 1958)، وليس المجازية عن أنظار المستعمر، وكان الإخفاء يشبه الثورة الافتراضية التي ظل صوتها يناديه وجاذبيتها الخفية تغريه، لأنها كانت تعني الطريق الرمزي والحقيقي لاستعادة حريته المفقودة والتي ضاعت طوال عقود وصلت إلى أكثر من قرن من الوجود الكئيب والمظلم.
حولت الأرض/الوطن (كاتب ياسين: رواية “نجمة”، منشورات ساي باريس 1956)، إلى امرأة معشوقة يتغنى بها الكتاب والشعراء، امرأة غارقة في عالم الخفاء والصمت والمناطق الجذابة والمثيرة للرغبات التي طالما حركتها قوة الاندفاع والانطلاق لتكشف عن مفاتنها السكينة والدفينة.
عندما كتب ياسين عن “نجمة”، تحولت أنظار النقاد إلى البلد، إلى الأرض التي يتنافس حول امتلاكها العشاق المتقاتلون والأشباح الذين يقفون كحاجز يحول دون الاقتراب منها حتى لا تستعاد بل تبقى حبيسة الأرواح المثيرة للخوف، ولذا كان لا بد من اختطاف “نجمة” والهروب بها إلى مغارة الأسلاف الذين خسروا في ذات الوقت هويتهم، تاريخهم، وقدرتهم على التذكر وبالتالي شرفهم، شرف الاحتفاظ بالأرض، ولم يكن الاستقلال في النهاية سوى ذلك الاسم المؤنث “حرية” التي كثيرا ما ترجمت ورفت كلمتها إلى اسم فتاة عذراء جميلة، مثيرة ومرغوبة (حورية).
تكون “حورية” هي المرادف للمرأة التي وعد الله بها المؤمن والمجاهد الذي ضحى بالنفس والحياة من أجل الفوز بها، وبكل ما جعله ينتصر على الشيطان الكولونيالي وينتصر لحياة الفضيلة التي تعني نقض عالم الشيطان وسلطته وجبروته الذي يحاول أن يضاهي به الجبروت الإلهي السحري.
الاغتصاب ما بعد الكولونيالي
يشكل الاغتصاب عنصرا أساسيا كمفهوم جنسوي لمقاربة تاريخ السلطة والسياسة في الجزائر الما بعد كولونيالية، ويكشف لنا كيف انتقلت ثقافة الاستعمار المتمثلة في اغتصاب الأرض والتاريخ واللغة والهوية إلى ثقافة الذين ورثوا الاستعمار ثقافيا عن طريق تبنّي فعل الاغتصاب، وتلك من اللحظات الأولى للاستقلال، بحيث انتزعوا من الشعب حقه في اختيار حكامه ونصّبوا أنفسهم أوصياء عليه، وعلى حاضره، ومستقبل الأجيال التي لم تكن رأت النور بعد عن طريق الاغتصاب المزدوج للحرية والسلطة والشرعية.
ترك فعل الاغتصاب أثرا عميقا في سيكولوجية الجزائري الذي لم يتخلّص من شعور الخوف من المغتصب الجديد الذي كان من المفروض أن يكون مضادا ومعاديا ومحاربا لثقافة الاغتصاب، فالشعور بالخوف من التعرض للتعذيب مجددا والاغتصاب الأخوي الحميمي (الأخوة “الخاوة” هو لقب المجاهدين الجزائريين إبان الاستعمار)، دفع بالجزائري الجديد (جزائري الاستقلال)، للنأي بنفسه عن الشأن العام، ويعادي السياسة أصلا كسلوك وممارسة وثقافة، لأنه فقد تلك الثقة بالنفس وهو يشعر بفقدانه لشرفه، بفقدانه لجسده الذي تم الاعتداء عليه بشكل معقد، ومن هنا كان ارتكابه إلى ثقافة الصمت، واحتمائه بها تجاه المغتصب، وترك المغتصب يتصرف باسمه وباسم ذاكرته الثورية التي تنازل عنها كونها لم تعد ملكه وإنما أصبحت ملكا مستباحا يوظفه المغتصب كيفما شاء ضمن منظومة الحكم الذي صاغها دون مشورة الفاقد عذرية تاريخه الجاري الجديد.
لكن الخطير في سيادة الاغتصاب، هو عملية إعادة إنتاجه بشكل متكرر ومتعدد بحيث تجعل من المغتصب (بفتح الصاد) يمارس الاغتصاب ضد نفسه وضد من هم أدنى منه مرتبة وقوة وتسلط من جهة، ومن جهة ثانية تحول الاغتصاب إلى عملة نتداولها ضد بعضنا بعض كطبقات اجتماعية وكجهويات متحاقرة ومتنافرة، وكهويات متنازعة وهويات ذكورية تسلطية نافية للهوة الأنثوية.
لقد تشكل إرثا من الاغتصاب في اللاوعي الجماعي للأفراد الجزائريين لكن أيضا لدى المغتصبين الصغار المنتظمين في المنظومة الاغتصابية التي صارت تمثل النظام بوجوهه المتجددة وتركيبته المورفو – سيكو- إجتماعية واللغوية والرمزية، صار الاغتصاب احتفالا وطقسا مقدسا وجماعيا يمارسه السلطويون على رأس النظام وفي أروقته ومداركه وداخل المجتمع، يمارسه الرئيس ضد مرؤوسيه، ويمارسه المرؤوسون ضد بعضهم بعضا، وتمارسه الأغلبيات المركزية ضد الأقليات الأطرافية، وتمارسه اللغات المهيمنة ضد اللغات المحلية، ويمارسه المثقف المركزي ضد المثقف المحلي، والمثقف المركزي – المحلي ضد المثقف الهامشي، ويمارسه المجتمع الذكوري ضد المجتمعات المثلية والنسوية والتشكيلات الهجينة، ويمارسه العسكراتي ضد المدني، ويمارسه صاحب السلطة والمعرفة الفقهية ضد المتسول الديني وبالتالي تمارسه السلطوية ضد الرغبة في الحرية.
تحرير الجسد الجماعي
يعيش الجسد الجزائري وضعا اغتصابيا شارك فيه السياسي والعسكري والبيروقراطي ومنتجو الأيديولوجيات المركزية، وصغار مستهلكي المركزيات الذكورية والمتاجرين بها في السوق السوداء للهويات الشيزوفرينية، والجسد الجزائري الذي أتحدث عنه، هو ذلك الجسد الذي نتقاسمه ونمتلكه خيالا وافتراضا، لكنه في الواقع هو جسد مستلب، مختطف، ومكبّل بالصمت والإذعان كلما أغرته الرغبة القادمة من داخله للانتفاض من أجل استعادة جسدته المغتصب.
يتمثل هذا الجسد في التصور الذي نحمله عن جسدنا الفردي والجماعي، عن الأنوثة الثقافية التي لا نريد مقاربتها وتلك الذكورية المشوّهة الذاتية المعتدى عليها من قبل الذكورة المتسلطة المؤثثة بالشرعيات الواهمة.
في كتابه (العسف) يكشف بشير حاج (1920 – 1921)، ويرفع النقاب عن الوجه الحقيقي للاغتصاب السياسي للجسد الوطني وهو يروي لنا في عشرات الصفحات المكثفة والأليمة عن أبشع أنواع التعذيب التي مورست على معارضي انقلاب هواري بومدين في 19 جوان 1965.
كان البشير حاج علي من المناضلين الوطنيين الذين قاوموا الاستعمار والفاشية ودافعوا عن إنسانية الانسان والجزائر الحرة، ناضل في الأربعينات في صفوف الحزب الشيوعي الجزائري، وأنضم إلى الثورة الجزائرية بعد أن التقى رفيقه الصادق هجرس بعبان رمضان في عام 1956، بصفة فردية وبالتالي تم حل الحزب، وذلك إلى غاية الاستقلال، وبعد الاستقلال ساند كأمين عام للحزب الشيوعي الجزائري نظام أحمد بن بلة إلا أنه عارض الانقلاب بصفة إيجابية، وكان أحد الذين شكلوا منظمة المقاومة الشعبية إلى جانب الحقوقي حسين زهوان ومحمد حربي لمعارضة الانقلاب، وتم القبض عليه ليتعرض إلى تعذيب وحشي على يد من كانوا بالأمس يعانون ضيم الاستعمار والتعذيب والاغتصاب، لقد تحول ضحية الأمس إلى جلاد وطني يمارس التعذيب والاغتصاب ليس فقط ضد أبناء جلدته وإنما كذلك ضد من كانوا معه في نفس الخندق يكافحون ضد الاغتصاب وفي سبيل كرامة الجسد.
يقدم لنا بشير في “العسف” فقدان الآدمية عند تلك الوحوش المفترسة المرتدية أقنعة بشرية وهي تمارس التعذيب بلذة ومتعة مرضيتين، تمارس الاغتصاب لإنسانيتها وآدميتها بشكل بشع مدمر لهوية الجسد، الجسد الممارس للتعذيب، والجسد المعرض للتعذيب، تدمير شامل وساحق لبنية الجسد في دلالاته وفيزيقيته وروحانيته ورمزيته، جسد الأنا، جسد الآخر، وجسد النحن.
لقد كتب بشير حاج علي وهو في قمة العزلة، في قمة المواجهة مع التوحش وفي قمة المواجهة مع الحقيقة العارية، حقيقة الاغتصاب في أدق تفاصيله اللغوية والبلاغية.. كان يؤرخ للاغتصاب ويكتبه على ورق صحي ثم يسلمه لزوجته صفيه لتعيد كتابته على الآلة الراقنة، ثم يوزّع في سرية على الجمهور ليكونوا شهودا ويكتشفوا خفايا آلة الاغتصاب السياسي المتخفّي وراء التوصيات الثوروية والشرعية وخلف إنشاءات الدفاع عن الوحدة الوطنية وقداسة الثورة، وذلك للتستر على الحقيقة البشعة لما كان يحدث من إجهاض للمستقبل ومن تشكيل للسلطوية المتوحشة ذات الرداء الناعم المتخفية في قوة الشعبوية المقدسة.
يذكرنا كتاب (العسف) بكتاب (القضية) للكاتب والمناضل اليساري الذي ناضل بجنب الشعب الجزائري وناصر الثورة الجزائرية هنري علاڤ، والذي تعرض هو الآخر للتعذيب من طرف الجلاد الاستعماري، وكان هذا الكتاب الذي أحدث ضجة وفضيحة في حينه من الوسائل التي ساعدت في عملية استعادة الجسد من مغتصبه وتعرية المغتصب الذي دخل في النهاية إلى متحف التاريخ الأسود المعادي للإنسانية كمجرم حرب.
يعد (العسف) مفتاحا لفهم الوجه الخفي اللاإنساني للسلطوية الجزائرية الوليدة التي ستشق طريقها في تجميل الاغتصاب تارة بمسحوق الاشتراكية والوطنية الثورية والقومية، وتارة بمسحوق فضائل رأسمالية دولة والليبرالية الجديدة والمصالحة الوطنية، وتارة بمسحوق ديمقراطية الحراك “المبارك” وتارة بمسحوق حرب الوطنية المقدسة ضد الإرهاب العميل.
إنّ ما يعلّمه إيانا بشير حاج علي، هو التغير في استعمال الماركات والمساحيق والألوان والأقنعة التي تستعملها آلة الاغتصاب في تشويه الجسد بواسطة الاستلاب الفردي والجماعي الذي يحيل بيننا وبين وعي تحرير الجسد كخطوة نحو التحرير السياسي، ويعد إخفاقنا في تحويل الحراك الشعبي (ربيعنا الجزائر ي) إلى قوة تحرر شامل وجذري إلى هذا الافتقاد للوعي بالجسد وتحريره، وذلك من خلال تطهيره من بذور تبعيته الباطنية والظاهرة لسلطة المغتصب الرمزية والثقافية والعقائدية.