الجَمالُ والفُنون في نُهوضِ الثَّقافةِ العربيّةِ المَكتوبة
الشّعر الجاهلي يَستحق مُلاحظتنا مُنذ البداية، بسببِ التأثير الهائل الذي مارسهُ على الثَّقافة العَربية الإسلامية الكلاسيكيّة كجُزء أساسي علاوة على ذلك تميُّزه بالعبارات المَنظومة بعنايةٍ والصُّور الجَمالية والنَّموذجية وهَيبتهِ العَظيمة. لكنَّ هذا الشّعر يَعرِضُ صُعوبات كبيرةٍ في التَّفسير بسببِ كثرةِ الزّيادات التي تَعرّضَ لها خِلال جَمعِه، بدءًا من القَرن الثّاني/العاشِر، أي على فَترة كبيرةٍ مِن الزَّمن مِن نظمهِ الأصلي (1).
يعترف مُعظم النُّقاد – باستثناءِ عددٍ قليلٍ منهم وإنْ كانت مَكانتهم مَرموقة مِمّن يُنكرون وُجود الشّعر الجاهلي – بأن نَواتهُ أصيلة ويَنظرون إليه مَع القُرآن الكَريم وغيرهِ مِن الوَثائق الأدبيّة والتأريخيّة اللاحقة، كمَصدرٍ رَئيس في مَعرفتنا لطَريقة الحَياة والفِكر وأذواقِ سُكان شبه الجَزيرة العَربيّة في القَرنين السّابقين لظُهور الإسلام (2).
وبدءاً مِن القَرن الخامس إلى القَرن السّادس الميلادي، شَهِدت العلاقات القَبائلية بَين شُعوب شبه الجَزيرة العَربية تَحولاً عَميقاً وَصل إلى ذُروته في وَعظ الرَّسول العربي وهذا بدورهِ سَيؤدّي إلى الاندماجِ التَّدريجي للقَبائل في النّظام الإسلامي الجَديد وصُعود دَولة سَتبدأ قَريباً في بِناء إمبراطوريّة عَظيمة. ومِن الأدلة المُتوفّرة لدينا حَول العَصر الجاهلي قَبل فَترة وَجيزة مِن ظُهور الإسلام، عَرفنا أنَّ بنية المُجتمع البَدوي تَتأثّر بسلسلةٍ مِن التَّغييرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتي مِن شّأنها أن تُؤدي تَدريجياً إلى تَفكك العِلاقات القَبلية وميلادِ مُجتمع جَديد أكثر اندماجاً وأكثر تَعقيداً.
وَسَتشتمل هذهِ التَّغييرات على تَوسيع التِّجارة، وَصُعود العَلامات الاستراتيجيّة على طول طُرق التّجارة التي تُهيمنُ عليها العَشائر التي تَراكمت عِندها الثَّروة ببُطء والعَبيد لخدمة تِلك العَشائر، وهَيمنةِ بَعض القَبائل على الآخرين، والانفتاح التَّدريجي للتَّأثيرات الخارجيّة على طُول السَّواحل والطّرق التّجارية التي تَقود إلى الدُّول في الشَّمال. وَيقدم لنا التّاريخ صُوراً لمُجتمع مُختلط وَقع بَين الإمبراطوريّتين البيزنطيّة والفارسيّة والمُكوَّن مِن قَبائل بَدوية ذات مَكانة أرُستُقراطيّة والتي هَيمنت على المَراكز الحَضرية الحَديثة في المُقاطعات التّجارية الرّئيسية.
وَيقفُ الشّعر بِمفردهِ بَين المَصادر المَكتوبة القَليلة الباقية التي تَم تَأليفُها لرَبطنا بِتلك الفَترة. وَسيصبحُ هذا الشّعر لاحقاً مولّداً لا يَنتهي مِن الصُّور ونُقطة مَرجعية أساسيّة في الثَّقافة العَربية الإسلاميّة: فَقد جَسّدت الجاهِلية التَّناقُض مَع رِسالة الإسلام الجَديدة، وشَكّلت مَجموعة مُعجميّة ومَفاهيميّة قَيّمة خَدَمت التَّفسير القُرآني. وبالتّالي فإنَّ مَعرفة هذا الشِّعر خُطوة ضَرورية في تَتبّع أصل وَتطوُّر الفِكر الجَمالي في الثَّقافة العَربية الإسلاميّة، وسوف تُساعد على تَفكيك بَعضِ المُعضِلات الشّائعة حَول الجَماليات العربيّة. فإذا تَذكّرنا أنَّ هذهِ القَصائد هي أولُ شاهدٍ على اللغة العَربية نَفسها – والتي سَتَصبح لُغة الوَحي – وأنَّ الشّعر الجاهلي استمرَّ في العَيش في كلِّ مُستوىً مِن مُستويات الثّقافة العَربية وتَم حِفظهُ وكِتابتهُ وإعادةِ صِياغتهِ وتَفسيرهِ، وما إلى ذلك، كنَموذجٍ للذّات العَربية، عِندها سَوف نَفهم مَدى أهميّة أخذِ نَبض المُفردات الجَمالية للقَصائد، مِن أجلِ فائِدتِها وأهميّتها المُستقبليّة. سَيحمل الجَميع هذه المُؤلفات ويَتأمّل فيها: الشّعراء، مُؤلفو المَعاجم والقَواميس، مُفسّرو القُرآن، بُلغاء اللّغة، المُفسّرون العَرب لأشعار أرسطو، والمُتصوفة، بَينما نَشأت مَدرسة كاملة للنَّقد العَربي مِن حَولهم. لكن في الوَقت نفسهِ، أصَرّت الثّقافة العَربية القديمة وجَحافل العُلماء الذين دَرسوها على أنَّ الشّعر الجاهلي وتُراثه اللاحق كانا يُمثلان التَّصوير البارز للعُنصر البَدوي وأفكار الحَياة الصَّحراوية. وكانت القَصائد تُعتبَر الجَوهر المُميز “للرّوح العَربية” في مُحاولة واضحة ومُتكرّرة لتَحديد المادة النّهائية والتي لا تَتغير مِن جَماليات ذلك الشَّعب.
التَّوتر الشَّديد في كل مِن النَّقد الأدبي والجَمالي يَجب أن يَكون هو مَوضوع التَّدقيق. فَإذا كان العُنصر البَدوي مُهماً في الثّقافة العَربية على حدٍّ سَواء تَأريخياً وإبداعيّاً فكذلك العُنصر الحَضَري فقد كانَ حاضِراً على قَدم المُساواة في شبه الجَزيرة العَربية قبل الإسلام، وأكثر مِن ذلك بَعد تَوسُّع الإسلام. ومِن أكثر الأمثلة النَّموذجية للشِّعر الجاهلي، قَصائد المُعلقات الشَّهيرة التي ظَهرت في بيئة شبه حَضريّة: قيلَ إنَّها كانت تُتلى في المُسابقات الأدبيّة التي تَم الاحتفالُ بِها في مَوقع السُّوق الكَبير المَعروف بسوقِ عُكاظ واجتماعات القَبائل الدَّورية. وَكان هُناك أيضاً شِعرُ المَدح مِثل شِعر النّابغة الذُبياني، المُؤلف القادم مِن دَولة غَسان والحِيرة الصَّغيرة.
على أيّ حال، بَعد صُعود الإسلام حَولت الثَّقافة العَربية مَركز ثقلها إلى شبه الجَزيرة العربيّة وإلى المُدن الكُبرى في الأراضي التي خَضعت بالفُتوحات الإسلاميّة مُؤخّراً، فقد غير الإسلام الهياكل الاجتماعية السائدة إلى الأبد ومهّدَ الطريق لأشكال جَديدة من المَعرفة والخَطاب الذي مِن شأنه أنْ يَخلُق ثقافة مُختلفة، على الرّغم مِن أنَّ الشّعر الجاهلي حافظ على قوى جاذبيته الكَبيرة ومَكانته الأسطوريّة في المُجتمع الإسلامي. ولجميع الأسباب، يَقتصر التَّعبير عَن الأذواق الجَمالية والأفكار في شبه الجَزيرة العَربية قبل الإسلام والمُفردات الجَمالية التي أيَّدتها على النُّصوص الشّعرية الباقية – والتي مَع ذلك تُظهرُ دَرجة عالية مِن الوَعي بمبادئها الجَمالية الخاصّة – (3).
وهذه ليست الخَطابات المَفاهيمية أو الإرشاديّة، ما لم نَحسب الحِكَم التي تُذكرُ في بَعض القَصائد، مَع الرَّسائل الأخلاقيّة التي تُشير، قبل كل شيء، إلى مُجمل الحَياة. وَبينما يُحاول الشّاعر الجاهلي التَّمسك بالحاضر، واستعادة ذكرى ماضٍ قريبٍ سعيد ومِثالي، تبدأ بَعض الأصوات في التَّحدث بنبرةٍ مُسترجعةً السَّراب الذي يُمثل الحَياة البَشرية، وبالتالي تَرقُّب المُثُل العُليا الجَديدة (4). وفي عَددٍ قليلٍ مِن النُّصوص النَّثرية الباقية مِن هذه الفترة، هُناك دَليل واضح على أشكال جَديدة مِن التَّفكير، بِما في ذلك تَفكير المُوحّدين (الحَنفية) الذين عارضوا الأوثان وبالتّالي أخلاق وقَوانين المُجتمع القَبَلي الداخليّة. وَفي الطَّرف الآخر، تَتجلى التَّغييرات في المُجتمع القَبَلي مِن خِلال شِعر الصَّعاليك أو قُطّاع الطُرق، الذين يَتوقَّفون عَن التَّحدث باسمِ القَبيلة للتَّعبير عَن فقدانهم للجُذور القَبَلية وتفرُّد شَخصيّتهم. على أيّ حال كانَ الشّعر الجاهلي، الذي تَم نقلهُ شَفهياً ولم يتم تَسجيله كتابيّاً إلا فيما بعد، هو المُستودع الرَّئيسي للفِكر الجاهلي: لقد حَقق أداءً اجتماعيّاً مُهماً وكان الشّاعر يَحظى باحترامٍ كبيٍر داخل المُجتمع، مُشابهاً في بَعض الأحيان لتلك المَمنوحة لقادةِ القَبائِل. وَيجب عَليه أحياناً لِعب دَور صانِع المُعجزات وغالباً ما كان شَرَفُ القَبيلة سَيعتمد على مَوهبة الشّاعر للدِّفاع عنها بفنّه اللّفظي (5). يقدم لنا الشّاعر الجاهلي رُؤية كونيّة تتسم بالشّعرية والحِس بشكلٍ أساسي، ويتم التَّعبير عنها مِن خِلال الصُّور التي تَكون دائماً نَموذجاً أصليّا، وبالتالي ذات عُموميّة عَظيمة وقُدرة هائلة على البَقاء. فَجزءٌ مِن مُهمته أيضاً هيَ إعلان مَبادئه وقيمهِ الجَمالية وقيم قَبيلته، في مُواجهة الآخرين، كما قيل لَنا، في المُسابقات الشّعرية التي أقيمت في السّوق، مِمّا أدّى إلى “النَّقد الأدبي” المَحلّي بأشكالهِ الخاصّة مِن “الوَعي الجَمالي والفِكري” (6).
الأصلُ الخارقُ للإبداعِ الفنّي
ما هي المُواصفات الخاصّة للرّؤية الجَمالية الواردة في الأدَب الجاهلي؟ سَنبدأ بالصِّفة الخارجيّة المُهمة: المُجتمع الجاهلي يُسنِدُ ظاهرة الإبداع الشّعري إلى عالَم خارق للطَّبيعة مِن الشَّياطين والجِن (مُفردهُ جنّي) والمَخصوص للشّاعر والقَبيلة، وهو الاعتقاد الذي سوف يَتعارض مَع رسالة القُرآن الكَريم. فالظَّواهر التي كانت مَوجودة خارج عالَم المادّيات، مثل المَلَكَة الشّعرية لتَشكيل الكلمات، وأخذُها إلى أبعَد مِن الاستخدام الشّائع، ونَقل الحِس غيرِ العادي مَعها، كانت مُرتبطة بالخُرافة والأسطورة وبقِوى غامِضة ومُجسّدة: للتَّعبير عَن “مَعنى” الإلهام الشّعري، استخدَموا شَخصية “كائِن” واضِحة ومُجسّدة وأطلقوا عليهِ اسم “شَيطان” ونَسبوا إليهِ الحَواس التي يَمتلكها البَشر: البَصر، اللَّمس، السَّمع.. وعَبّروا أيضاً عَن “مَعنى” البُطولة أو الخَوف أو الحُسْن أو القُبح أو سُوءِ الحَظ”.. مِن خِلال شَخصيات الجِّنْ ذكراً كان أم أُنثى، وذَكَرُ “الغُول” أو أُنثاه “السُعلاة”.. لقد تَخيلوهم على أنَّهم “قِوى” غامِضة هائلة تكمُن وَراء الظّواهر الطّبيعية وقد مَثّلوا تِلك القِوى على أنَّها “أشخاصٌ” أحياء لهم صِفات وَمشاعر ورَغَبات وأفعال بشريّة جَسديّة (7).
يَبدو أنَّ كُثرة استخدام الأصل الخارق للطَّبيعة في الشّعر والإبداع الفَني عُموماً يُثير خَصائص سِحرية أخرى مُخصّصةً للكلمة في الأزمان الجاهليّة، ويَشهد على خِشية المُجتمع وإعجابه واحترامه لقُوة الكلمة، والذي لم يَختف تماماً مَع مَجيء الإسلام. وهذه الظّاهرة مَعروفة جيداً في الثَّقافات المُختلفة وتمكن مُقارنتها بثقافةِ الفِكر اليوناني، وهي مَصدر الإلهام الشّعري الذي أصبح أيضاً جسدياً ومُتخصصاً، بحيث أصبح كل واحدٍ منهم مَسؤولاً عَن إبداعِ فن معين (8). ويُمثل الشَّيطان العَربي، مِثلهُ مِثل مَصدر الوَحي للقَبيلة بأكملها (9) لكنه يَرتبط ارتباطاً وثيقاً بشخصيّة الشّاعر نَفسه: إنه بِمثابة وَسيط له مع العالَم الآخر مِن الإبداع الشّعري، يَهبُهُ سُلطة خاصة ومَكانة مُتفوقة بَين الفَنانين، ويُمكن أن يُحول حَياته إلى أسطورة. وبِطريقة التَّأليف هذه يتم تَشكيل العَمل الفنّي، والذي سَيؤدي إلى العَديد من سَرديات السّيرة الذاتية التي نَجدها مُرتبطة بشُعراء الجاهليّة (10). وبِمجرد أنْ يُنسبَ العَمل إلى فردٍ ما، يُمكن افتراض أنَّ العَمل يَفقد طقوسه أو شَخصيته السِّحرية وأنه قد تم اتخاذ هذه الخُطوة نَحو “الفَن مِن أجلِ الفَن” (11). وَيَمنح التَّأليف قيمة الاستعداد والإبداع الشَّخصي، وقد تم تَعزيزه بشكلٍ أسطوري عِندما يُعتقد أنه مَصدرُ إلهامٍ مِن قوى خَفيّة. في الثَّقافة العربية الكلاسيكيّة، سَيصبح شَيطان الشّاعر الجاهلي الشّخصي في نِهاية المَطاف الجائزة الأدبيّة، وَكما سنرى بشكلٍ خاص عِندَ ابنِ شُهَيد مِن قُرطبة وكِتاب “رِسالة الزَّوابع والتَّوابع” (12).
لدينا القَليل مِن المَعلومات حَول الفُنون الأخرى، لكننا نَعلم أنه في الجاهليّة كانَ يُنظرُ إلى بَعض الحِرف على أنَّها حَقيرة وخَسيسة، يَسعى وَراءها فقط العَبيد أو الخَدَم أو الأجانب أو الفُقراء. وشَمل التَّحقير الشّائع حِرفة دِباغةِ الجُلود ونسَّاج البُرد وابنِ الصّانِع (13).
يَظهر المُهندس المِعماري في الشّعر الجاهلي كفردٍ مُبدعٍ آخر يتأثّر بعالَم الشَّياطين والجِن. وبَعد ظُهور الإسلام، مع ذلك، كان العَرب يُطوّرون وَعياً سَيّئاً حَول الصُّروح المِعمارية الكبيرة وصانِعيها، وتَتقاسم العَديد مِن الثقافات الأساطير حَول المُهندس المِعماري الذي دَفعتهُ سُلُطاتهُ إلى بِناء صُروحٍ تُنافس عَمل الآلهة: مثلَ هذهِ القَصَص تَشمل سَرد الإنجيل لقِصّة بُرج بابل، والأساطير حَول ما قَبل حَضارات المكسيك، والمَلاحم الأسكندنافيّة. وتَنتقم الآلهة مِن بَنّاء مثل هذه الهَياكل، بِحيث تَنتهي العَديد مِن الأساطير بوفاةِ المُهندس المِعماري (14)، كما حَدث للشَّخصيات الأسطوريّة العربيّة مثل سِمَّنار وفَرْهاد. واسمُ المِعماري، مع ذلك، لم يَبق في التأريخ كما هو اسم الشّاعر، وتُعزى قوّتُه الإبداعية إلى أنّه بَنّاء السُّلطة (الحاكِم). مثلاً نَبي الله سُليمان (ع)، الذي كان يُعتبر في عُصور ما قبلِ الإسلام المُهندس المِعماري المَثَل لأكثر المُنشآت العَربية بَهاء. يَقول ياقوت الحَمَوي في كتابهِ مُعجَم البُلدان (القَرنَين الثّاني عَشر والثّالث عَشر)، “عِندما رَأى النّاس صَرحاً غير عادي ولا يَعرفون مَن قامَ ببِنائهِ، نَسبوهُ إلى نَبي الله سُليمان والجِن” (15).
ويَفتتحُ الشّاعر الجاهلي النّابِغة الذُّبياني التُّراث الأدبي الطَّويل عندما أشادَ بعَظَمة المَلِك الغَسّاني النُّعمان بنِ المُنذر بِن حارِث، وقارنهُ بِبناءِ سُليمان:
إلّا سُليمانَ إذْ قالَ الإلهُ لَهُ قُمْ في البَريَّةِ فَأحدُدْها عَنِ الفَنَدِ
وَخَبِّرِ الجِنَّ قَدْ أذِنْتُ لهَمُ يَبنُونَ تَدمُرَ بِالصَّفّاحِ والعَمَدِ (16).
(أنا لم أعرف صانع (فاعِل) مِثله).
وَسَتطوّر أجيالٌ مِن الشّعراء والعُلماء العَرب هذا المَوضوع لاحقاً، على الرُّغم مِن أنَّ بعَض النُقّاد ينسبون هذه وغَيرها مِن أبياتِ الشِّعر إلى الزّيادات اللاحقة التي تَمت في ظِلِّ الإسلام. على أيّ حالٍ، مِنَ الواضح أنَّ الأساطير العَربية حَول الهَندسة المَعمارية لها جُذور عَميقة للغاية (17)، وأنَّ هذا يُشكّلُ على الأقل تأريخ القَرن العَربي العاشر والذي تَقبّلَ حقيقةَ أنَّ الشَّخصيات العَظيمة الأولى في الشِّعر العَربي قد نَسَبت إلى النَّبي سُليمان والجِنَّ المَباني العَظيمة والغامِضة في الماضي. وَحالياً سَنعود الى وُجود العَمارة في الشّعر الجاهلي لكن أولاً سأحاولُ أنْ أُظهِر كيف يَتم التَّعبير عَن هذهِ القَصائد مِن النّاحية الجَماليّة. ولِنبدأ بالفِكرة، التي سَبق ذِكرُها أعلاه، أنَّ الشّاعر الجاهلي يَأخذ الإنسان وليس الرَّب كمِقياسٍ لكلِّ الأشياء. ماعَدا التَّلميحات الأولى للتّوحيد التي سَبق ذكرها، فإنَّ قَصيدة ما قَبل الإسلام لا تَحتوي على أيّ فِكرة عَن الغَيبيّات (18)، باستثناء البُعد الأسطوري الذي يُحتفظ به، لذلك نحنُ لسنا مُندهشين لإيجاد جَماليات تتشكّل في المَقام الأول مِن الصُّوّر الحِسّية المُباشرة المُتعلقة بالطَّبيعة والشَّكل الأُنثَوي.
الطّابِع المادّي والمُشرِق للحُسْن في الشّعر الجاهلي
المَرأةُ كأداةٍ وكائنٍ جَمالي
الشّعر الجاهلي عادةً ما يُفهمُ على أنَّه بَديهي بشكلٍ أساسي، ويُعتقد أنَّ الشّاعر الجاهلي يَحل التَّوتر بَين الشّكل والمُحتوى بِطريقة مُباشرة: كَما يَقول فيديريكو كورينتي، فإنَّ كلمة “شِعر” باللّغة اليُونانيّة تَقترح العَمل والتَّطوُّر والصُّورة، ولكنْ كلمة “شِعر” بالعَربي تَعني “المَعرفة و/أو الحِس”.
وهذا هو، “الإدراكُ المُنفَعل (19) وحتى البَدوي حينما سُئِلَ عن مَعنى الشّعر بالنِّسبة إليه، أجاب أنه “شيءٌ يَتحرك داخِل صُدورنا وتنطُق بهِ شِفاهُنا” (20). والكلامُ عَن الشّرائع والشّعراء سَيأتي لاحقاً. لكنَّ القَضية أكثر تَعقيدًا مِن ذلك بكثير لأنَّ الشّعر الجاهلي يُقدّم نِظاماً مَوزوناً ومٌتقناً، واستعاراتٌ مُختارة بعناية، وعَملياتُ إفراغٍ دَقيقة، وباختصار، تِقنية شِعريّة كاملة والتي تَتناقض مَع الطّبيعة المُفترضة والتي نُسبت إليها الجِدالات اللانهائيّة بَين القُدماء والمُحدّثين في الشّعر العربي الكلاسيكي. يُمكن للمرء أنْ يَقول بشكلٍ عام أنَّ الشّاعر الجاهلي يُركّز جُهوده وتِقنياتُه على بِناء صُوَرٍ نابِضة بالحَياة التي هي إضافةٌ رائعةٌ وصُلبةٌ على التَّعبير فهو لا يَطمح إلى الحَركة المُفرطة، ويَحرصُ على عَدم المُبالغة أو الإفراط في التَّجسيد. باختصار، يَبني استعاراتهِ مِن العَناصر التي تَأتي مِن شِدّة الأحاسيس المَلموسة (21). فنُّهُ وِحدَوي ومُنظّم ومُعتدل. وقد نَظر النَّقد التَّقليدي الى القَصيدة الجاهليّة على أنها مُجرد تَجاور للبُيوت الشّعرية، ولكن العديد مِن العُلماء أظهروا وبشكلٍ حاسمٍ وحدة الشّكل والجَمال والشّعور التي تَميزت بِها هذه القَصائد، على الرغم مِن أنَّ تَماسكها الداخلي قد يَختلف عَن ذلك المَوجود في الأعمال الغَربية الكلاسيكيّة (22)، ودون أي مُبرّر، استنتجَ النُقاد أيضاً الافتقار المُفتَرض لوحدة القَصيدة في جَميع الإنتاج الفنّي العَربي، وأعْلنوا أنَّ الثّقافة غَير قادرة على إسناد مَعنى واحد لأعمالها، خاصة المِعمارية مِنها (23).
الوحدة هي، مع ذلك، واحدة مِن مَبادئ الجَماليات العَربية الكلاسيكيّة، وسوف نَجد نَظريتها في الشّعرية وفي رَسائِل (أطروحات) الخَط العَربي، وفي جَميع الخَطابات الجَمالية تقريباً التي سنقوم بتحليلها، على أساس وُجودها الواضح في المُمارسة الفَنية. ولكن، كما هو الحال في القَصيدة، هي وحدة مَفتوحة وتَستند إلى سَلامة وكَمال كل عُنصر مِن العَناصر المُكوّنة لَها، وهذه بِدورِها وحدة، كما هو الحال في النَّقش الهَندسي أو قِلادةُ العُنُق أو قِطعةٌ من الدّيباج وكما سَيوضح الشّعراء العَرب ذلك لاحقاً.
تَمت دِراسة المَبادئ الجَمالية للشِّعر الجاهلي مَع التَّركيز على واحدٍ مِن أهم مَوضوعاته، والذي مِن شأنهِ أن يُؤدي إلى ظُهور صُوَرٍ نَموذجيّةٍ واستعاراتٍ مِن قوة البَقاء الفَريدة في التُّراث الشّعري اللاحق: المَرأة والجَمال الأنثَوي (24). وَيزعُم قَهوجي أنه عِند وَصف المَرأة بقصيدةِ غَزَل أو قَصيدة حُب، يُعبّر الشّاعر العَربي عَن إحساسهِ بالحُسْنِ المِثالي، على الرّغم مِن أنه يَتساءل عَما إذا كانت هذهِ الصُّور حَقيقيّة أو قائمة على نَموذج وَهمي. وَبعد تَقديم قائمة بالمَراجع مِن العَصر الجاهلي يَخلُص إلى أنَّ هذهِ الأوصاف الخاصّة بالنِّساء تَقتصر على “الجَمال الجَسدي … باستثناءِ التَّلميحات النّادرة للصِّفات الرُّوحية والأخلاقية”. ومِنها يَستمد عَناصر أساسيّة مِن الجَماليات العَربية، مِثل التَّماثل بَين أجزاء الجِسم والتَّبايُنات الصُّوريّة واللَّونية (الشّعر الأسود والبَشرة البَيضاء والشِّفاه والأسنان والحَدقة السَّوداء وبَياض العَين وما إلى ذلك)، والتي سنُواصل الالتقاء بِها في مَجموعة مُتنوعة مِن البَلاغات الجَمالية باللغة العَربية (25).
فيديريكو كورينتي مِن جهته اكتشفَ بعَض الأحكام الجَمالية في بَعض المُعلّقات، مثل تَفضيلات الألوان أو الطَّبائع. ويُقدم كدليل جُملة مِن المُقدمة المُثيرة (نَسيب) مِن القَصيدة الشَّهيرة التي كَتبها “أميرُ الشّعراء الجاهليّين” امرؤ القَيس، الذي يَفتتح الشّطر الأول بقولهِ (قِفا نَبك مِنْ ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ)، وكانَ يَعتقد أنَّ شَيطانَهُ الشّخصي يُملي عليهِ الألفاظ (لافِظٌ)، وبالنّسبة إلى العَديد مِن النُّقاد، يُعدُّ أحدَ أوضحِ النَّماذج للرُّؤية الجَمالية العَربية ما قَبل الإسلام (26). وَتَحتوي هذه الأبيات على مَجموعة النَّموذج الأوّلي للجَمال الأنثوي الذي نَتقبلهُ وعلى خُطى قهوجي مِثل غابرييلي وكورينتي، كتَصويرٍ للجَمال المِثالي والمُتاح للجَميع، للحُكم على وُجود وتِكرار تِلك الصُّور في قَصيدة شُعراء الجاهليّة الأخرين. امرؤ القَيس يُعبر عَن حَنينه لامرأةٍ نَبيلةٍ حُرّةٍ مُنعّمةٍ (لَزمَتْ خِدْرَها) مَخدومةٌ (تمنّعَتْ عَنْ لَهْوٍ) والتي تَنتظر الشّاعر الذي يَتمسّك بِها وتأسرُهُ بِجمالِها (مُهَفْهَفَةٌ بَيضاءُ غَيرُ مُفاضَة) لَطيفة الخِصر وضامِرة البَطن ومُسترخية اللَّحم (27). (ترائِبُها) مَوضِع القِلادةِ مِن الصَّدر (مَصْقُولةً كالسَّجَنْجَل) لامِعة كالمِرآة، وهي تَبدو(بِكرُ المُقاناةِ) كبَيض النّعامةِ (28) في بَياضهِ المُخَضَّب بصُفرةً)، غَذّاها نمَيرُ الماءِ غَيرُ المُحَلَّلِ وتَعيشُ على الماء العَذب. لها نَظرةُ الظبيةِ البَريّةِ (عاشِبةٌ كبيرة ذاتُ عينٍ سوداءٍ كبيرة) وعُنُقها يشبهُ عُنُقَ الظّبية البَيضاء (وَجِيدٍ كجيدِ الرَّثْمِ لَيسَ بِفاحِشٍ) ليسَ بطويلٍ حينَ رفعهِ (29)، (وَفَرْعٍ يَزينُ اَلمتنَ أَسْودَ فاحِمٍ) وشَعرُها أسودٍ كالفحمِ يُزيّن ظَهرها، (وكَشْحٍ لَطيفٍ) أي دَقيقة الوِسط (وَساقٍ كأنبُوبِ السَّقيِ الُمذَلَّلِ) وأرجُلها تشبهُ قَصب البَردي بَين العُقدَتين (لنُحولِها وحَركتها وُفقاً للمُفسّرين). (وتُضْحي فَتِيتُ المِسْكِ فَوقَ فِراشِها نَؤومُ الضُّحى) سَريرُها حَيثُ تنام حتى وقتٍ متأخرٍ من الصَّباح، مُعطّر بفُتاتِ المِسْك، (وَتَعْطو بِرَخْصٍ غَيرِ شَئْنٍ كأنّهُ أَساريعُ ظْبيٍ أوْ مَساويكُ إِسْحِلِ) وأصابعِها النّاعمة والطّرية تَشبه (اليَسرُوع) ديدان البُقل أو عِيدان تَنظيف الأسنان (المِسواك) المُستخرج مِن شَجر الإسْحِل. يُلاحظ كورينتي في تَرجمته أن هذهِ المُقارنة تقودُنا بعيداً عَن جَماليّاتنا المُعتادة (30)، لكنَّ ابنَ رَشيق (القَرنَين العاشِر والحادي عَشر) قد قدّم بالفِعل نَفس التَّفسير، مُلاحظاً أنَّ مُقارنة الأصابع بالديدان أو العِصي لم تَتوافق مَع ذَوق عَصرهِ العباسي (31). لدينا هنا جَماليات تُحدّدها سِلسلة مِن الاستعارات التي تَجمع أجزاء مُعينة من الجَسد الأُنثوي بِعباراتٍ وَصفيّةٍ للتَّعبير عَن تَصور الحَواس. والمَواضيع المُهيمنة هي التَّبايُنات، وعلى وَجه الخُصوص، الكَيفية المُضيئة للمَرأة الشّابة والتي سوف تَصبح عُنصراً لا غنىً عنهُ في جَماليات الشّعر الجاهلي. ويَمضي امرؤ القيس في قَصيدتهِ ليَقول إنَّ حَبيبتهُ تُضيء كما لو كانَت سِراجاً في صَومَعة الراهب ليلاً. وَفي قَصيدة أخرى “أميرُ شُعراء الجاهليّة” يُمدّد الصُّورة المُضيئة للجَمال الجَسدي بما يَتجاوز العالَم الأُنثوي. وبسببِ أبياتهِ فقد كانت قَبيلة بَنوتَيم تُعرف باسم “مَصابيح الظَّلام”، ونَسب المُفسّر الأندلسي ابنُ أيوب هذا إلى جَمالِ (حُسْنِ) صِفات الشّاعر ووُضوح أفكارهِ حَول الأمور الغامِضة (32). وسوف نَجد النّور كرمزٍ للذَّكاء المُبدِع في وقتٍ مُتأخر في القَصائد المَنحوتة في قَصر الحَمراء وتَوجيهها نَحو المُلك والسُّلطة.
إنَّ الإضاءةَ، عند تَطبيقها على المَرأة، فإنها تُعبّر عن جَمالها، وكما سَنرى أدناه، أما الخُصوبة، عند تَطبيقها على الرَّجل، فإنها سَتُشير إلى ذكائهِ الإبداعي وقُوته (33) ويَستخدم لَبيد بِن رَبيعة، في مُعلّقته الشَّهيرة، النُّور في مُقارنة ناقتهِ (34) بالمَها:
وَتُضِيءُ في وَجهِ الظَّلامِ مُنيرةً كجُمانةِ بحرٍ…
في الساعة الأولى مِن الليل، كان وَجهها اللامع يشُع مِثل لؤلؤة (35)، ويُثير أيضاً تألق الغَزال في أبياتٍ أخرى ويَدعوُ إلى الاستمتاع بالمَلذات الدُّنيوية:
تَمَتَّع مِنَ الدُّنيا فإنَّكَ فانٍ مِنَ النَّشْواتِ والنِّساءِ الحِسانِ
مِنَ البِيضِ كالآرامِ والأدَمِ كالدُّمى حَواصِنُها والمُبرِقاتُ الرَّواني (36).
والآن دَعنا نَنظر إلى هذا المِثال مِن امرئ القَيس والذي يُقارن فيهِ العَذراوات المُسافرات في محفّاتِهِن المَحمولة بتَماثيلِ الرُّخام:
كأنَّ دُمى سَقْفٍ على ظَهرِ مَرمَرٍ كَسى مِزبَدِ السّاجومِ وَشْياً مُصوَّراً
كتماثيلٍ وُضعت على سَطحٍ من الرّخام مَكسُوّةً بثيابٍ من وادي (السّاجُوم)، المُزبّدة والمُزيّنة بالحَرير (37).
إنَّ المُعجم الجَمالي للبَيت الشّعري أعلاه يحتاجُ إلى تَوضيح: الدُّمى (شَخصيات، تَماثيل، أو أصنام ومُفردها دُمية) وظَهرُ المَرمَر (سَطح الرُّخام) يَبدو أنه يَدُل على نَوع مِن النّسيج الصُّوفي أو حتى النَّحت ثُلاثي الأبعاد: وقد رَأى البَعض هنا إشارة إلى تَماثيل أفروديت أو فينوس مِن العُصور القديمة (38). واشي (الحَرير المُلوّن) (39) ومُصوّرٌ (مَرسومٌ عليه شَخصيات) وهي عِبارة مُهمة في المُعجم الجَمالي العَربي بشكلٍ عام، وفي القُرآن الكَريم سَيتخذ بُعداً مُعيناً ومُقلقاً في نِهاية المَطاف: ووفقاً للمُفسرين فإن الله وَحده لديهِ القُدرة على إنتاج الصُّور بِصفته المُصوِّرُ (إحدى صِفات الله الإلهية). وقد قَرر مُعلقنا الأندلُسي تَفسيراً جَمالياً لهذا البَيت الشّعري، مُعتقداً أنَّ الشّاعر يُقارن النِّساء في محفّاتِهن المَحمولة بالتَّماثيل الرُّخامية بسببِ جَمالِهُن ومَلابسِهُن: إنّهُنَّ مثلُ التَّماثيل، لأنهُنَّ عندما يَصلنَ إلى وادي النَّهر (ساجُوم) فإنهُ يُلبسهُنَّ جَمالاً كما لو كُنَّ يَرتدين الدّيباج مُتعدد الألوان، وذلك بفضلِ الجِلباب المُتنوع الذي يَرتدينَ. ومع ذلك، فإنَّ ابن أيّوب لا يَظل مُعتمداً على هذه النَّظريات الجَمالية، كما هو الحال مع مُعظم نُقاد الأندلُس الذين كَتبوا عَن الشّعر الجاهلي (40).
دَعونا نَنظر في إشارةٍ أخرى على النَّحت مِن امرئ القيس:
ويا رُبَّ يَومٍ قَـد لَهَوْتُ ولَيلَةٍ بآنِسةٍ كأنَّها خَطُّ تِمْثــالِ
يُضيءُ الفَراشُ وجَهَها لِضَجيعِها كَمِصباحِ زَيتٍ في قَنادِيلِ ذُبالِ (41).
ويُعرّفُ المُفسّر الأندلُسي التِّمثالَ بأنه “تَصويرٌ لمَثَلْ” أو (المَثلُ المُصوَّرُ)، وأيضاً يَقتبس مِن القرآن الكَريمِ قولهُ تعالى “يَعمَلونَ لهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ” (سورة سبأ الآية 13) ([الجِنَّ] يُصمم [لسُليمان] أيّاً كان مِن أماكنِ العِبادة والتَّماثيل (42) فهو يُعّرف التَّماثيل على أنَّها تَصاوير، وهذا هُو، التَّصوير، ويَخلُصُ إلى أنه في البَيت الأول يَدّعي الشّاعر أنهُ “إستمتعَ بلُطفِ جَمالها” كما لو كانت صُورةً مَجازيةً (صورة مُصوّرة) (43). لاحِظ كيف يُصرُّ ابنُ أيّوب على جَوانب التَّصوير الجَسدي التي يَصف بها الشّاعر الشَّكل الأُنثوي: إنه يَحتاج إلى الاعتماد على مَفهوم صَوَّرَ (لإعطاء الشّكل والتّصوير، وصُنع الشّخصيات) لجَعل تَفسيرهِ واضحاً، بينما يُوضّح أنَّ جَمال الأشكال النَّحتية يُثير مَشاعر الرِّضا عنده فيما هو يَحترمُها. لكن هذا المُفسّر لا يَتعمق مع الأسف في مَتاهات التَّفسير الجَمالي ويُحاول فقط تَوضيح المَعنى المُباشر للبَيت الشّعري.
وتَظهر كل هذهِ العِبارات الجَمالية بقوةٍ خاصّة في الشّعر “اللَّطيف” للنّابغة الذُبياني، الذي يَعطينا صُورة مُشابهة جداً عَن الجَمال الأنثوي ولكنهُ يَصفُ جاذبيتهُ كشكلٍ من أشكال الإرتِعاش:
فَرَيعَ قَلبي وَكانَت نَظرةً عَرَضَتْ حِيناً وتَوفيقِ أقْدارٍ لأقْدارِ
بَيضاءُ كالشّمسِ وافَتْ يَومَ أسْعَدِها.. (44).
مرة أخرى، الكيفيّة البَصرية لهذه الجَماليات واضِحة. كما يَتأمل الشّاعر وقلبُه يَرتجف مَع مَزيج مِن الدّهشة والخَوف والمُفاجأة، كما يتضح مِن جَذر الكَلمة “ر- و- ع “، والذي يَعني بالنسبة إلى البعضِ أعلى مُستوى مِن الجمال (45). في هذه القِطعة، يُوحّد النّابغة الذُبياني القَلب والحِس بالبَصر، هذا هو الشُّعور والحِس الجَمالي، وَيبدو أنه يُلمح أيضاً إلى لِقاء أو مُواجهة الأقدار مِن خِلال التَّفكُّر في الجَمال المادّي، وَقد رأى البَعض هُنا تشابُهاً مع اتّصال الأرواح في نِقاش حِوار أفلاطون (46). ويَمضي الشّاعر لتَمرير كل الحَواس في المُراجعة: المَرأة الجَميلة تَنضِحُ عِطراً صُنِع خِصّيصاً لها، ورائحتُها نَقيَّة: تُسكِرُ كالنَّبيذ، حُلواً كالعَسل.. إلخ. النّابغة الذُبياني يَزيد مِن مراجعهِ للأوهام الجَمالية في قَصيدة أخرى مُماثلة فَيقول: المَرأة لديها عُيون سَوداء كعَيني الغَزال، وكلامُها جَميل، ولُعابُها يَروي العَطَش، وفمُها مُنير. وتُظهر تِلك النِّساء المُزيّنة بالأحجارِ الكَريمة والمُجوهرات والتي عَززت جمالهُنَّ ولمعانهُنَّ، مما يمنحهُنَّ هالة من التعظيم، والخُلود، وحتى الألوهية التي تستحق العبادة، وفقاً للعديد من النقاد. وترتدي سيدة الشّاعر الجاهلي أكاليلَها، وقِلادات من الذّهب تلمعُ كاللَّهب وتُزيّن صَدرها، وشكل جسدها مثالياً، ومرةً أخرى مثل الشمس في أوجِها، لكنها أيضاً تشبه لؤلؤة نادرة، والتي يعتبرها إبنُ أيّوب صِفة مِن صِفات العُذرية (47). وباختصار، هي مثل تِمثال رُخامي أو آلهة:
أو دُمِيّةٍ مِنْ مَرمَرٍ مَرفُوعَةٌ بُنِيَتْ بآجُرٍّ تُشادُ وقِرمِدِ (48).
عادةً ما يتم تَفسير هذه المِثالية الجَمالية الجاهلية للأنوثة والشّعر الجاهلي معاً مِن منظورَين مختلفَين، على الرغم مِن أنَّ الاثنَين لا يَستبعد أحدُهُما الآخر. الأول هو جَمالي للغاية: يَختار الشّاعر صُورة مِن الذَّوق الجَمالي البَسيط، ويعتبرهُ حِسّياً بشكل أساسي ويَنبثق مِن تَجربته اليَومية (49). والثّاني هو عِلم الإنسان(الأنثروبولوجي): دون إنكار السابق، فإنه يَبحث عَن أصوُل الصُّور الشّعرية الجاهلية في الطَّقوس القَديمة وعُصور ما قبل السِجلّات المَكتوبة والقَريبة مِن أشكال العِبادة الشَّرقية. في هذا المَنظر، يتذكّر تصُّور الشّاعر للمَرأة المِثالية أو التي لها جُذور في طقوس الخُصوبة القَديمة، وهي تَستحضر شَخصيات طُقوسيّة ونَحتية للآلهة الأم العَذراء، وكذلك عِبادة الشَّمس (50).
تَعود هذه الطُّقوس إلى المُجتمعات الزّراعية القديمة القَريبة مِن الشَّرق، وكانت سَتستمر بمُعتقدات وآلهة القَبائل لبَعض شُعوب شُبه الجَزيرة العَربية، ولاسيما اليَمن. من هنا يُمكن للفرد أن يَتتبع التُّراث والطّقوس المُوثّقة، وحتى المُعجميّة، والتي سَتظهر عَناصرها الأساسيّة في السِّياق الجَديد: المَحبوب المِثالي في الشّعر الجاهلي. هنا نَجد الوَصف الشّاعري الغَني بِجماليّات الجِسم المُمتلئ (البَدانة) التي بِحركاتهِ سَتجذب أعيُن الرّجال وسَتكون رَمزاً مِن رُموز الخُصوبة، إلى جانب مُقارنتها بالنّوق وأشجار النَّخيل والبَيض ..الخ، وَصِفات مَكانة المَرأة في قَومها واستبدال ميزاتها الفَردية بصفاتٍ مُجردة والجَمالية المِثالية القابلة للتَّبدل – مِثل تلك المَوجودة في أشكال الآلهة فينوس والتي تَعود إلى عُصور ما قَبل التّأريخ – التي مِن شأنها أنْ تَجسد رُؤية لخُصوصية المَجموعة وبَقائها. علاوة على ذلك، غالباً ما تَكون “فينوسات” ما قَبل الإسلام مَصحوبة بِحيواناتٍ مثل الخُيول والجِمال، في المُجتمع القَبَلي العَربي، كانت مُرتبطة بالطّقوس الشَّمسية وتُؤدّي وَظائف تَتعلق بالخُصوبة وتَجديد الطّبيعة. وَتضع العَديد مِن الأوصاف الشّعرية النِّساء في ظروف طَقسية (طُقوس) شَديدة ويقدمهُنَّ وكأنّهُنَّ حَشد غَني ومَحمول على مِحفّات وتَحت مَظلاّت مُزيّنة وبفخامةٍ وجَميعهُنَّ بَيضاوات، ومُشرِقات مثل التَّماثيل الرُّخامية، وباختصار، يَتذكرون إناث النُّذور (للتَّضحية بِهنَّ) أو صُورٌ مُعينة مِن التَّماثيل اليونانية- الرُّومانية لأفرودَيت وفينوس والتي رُبما كانت شُعوب ما قَبل الإسلام قد رَأتها (51).
أعتقدُ أنَّ الشّاعر الجاهلي أخذ إلهامهُ، بِوعيٍ أو بِغير وَعي، مِن هذه المادّة الثَّقافية وحَوَّلها إلى الأهداف المُحدّدة لشِعرهِ: لقد مَثَّل جَمال الأنثى، وكرّسهُ بِعناصرٍ مَعروفةٍ مِن الثَّقافة الجاهلية الغَنية، وضَمَّها مَع الصِّفات الجَديدة. وهذهِ تَميل إلى إعادة تأكيد النِّظام الاجتماعي الجَديد الذي قام فيه الشّاعر البَطل، بِمفرده أو باسمِ قَبيلته – أو حتى كحاكمٍ لمدينةٍ أو دَولةٍ صَغيرةٍ في العَصر الجاهلي – بِمواصلة الكِفاح وبِناء التأريخ في وقتِ التَّغيرات العَميقة في الوَلاءات القَبليّة والمُعتقدات القَديمة. نرى هذه الفِكرة بوضوحٍ خاص في خِطاب الشّاعر الجاهلي نَحو أطلال المُخيَّم وفَقْد مَنزل حَبيبته. وَسيتكرَّر بناءُها لاحقاً، حتى مَع وُجود الكثير مِن المُفردات نفسها، في شِعر المَديح العَربي. وهناك يَتم تَقديم العَمارة كمَكانٍ للراحة ورَمزٍ لقُوة الحاكِم وبداخلهِ الحَبيبة التي تَحوّلت إلى عَروس مُضيئة على مَنصّتها مُرتديةً الثَّوب الغالي والمُجوهرات، واصِفاً بُعداً واحداً تقريباً مِن حَيث الضَّوء والتَّباين، الكَهنوتيّة والعُذريّة، وبانتظارِ سَيّدِها (52).
مِن العَدل الاعتراف بأنَّ المَرأة في العَصر الجاهلي لم تَكن مُجرد كائن مُقدّس أو مَثلاً أعلى للجَمال الذي لا يُقهر، وفي بَعض الحالات احتلَّت مَرتبة اجتماعيّة كبيرة، وحتى أنَّها امتلكَت صَوتاً شعرياً يَستحق تَناقلهُ بواسطةِ جامِعي الأبيات الشّعرية. هناك أمثلة على الأحكام الجَمالية التي أصدَرَتْها النّساء بخصوصِ كِبار المُبدعين في الشّعر العربي. في مِثالٍ شَهير طَلبت أمُّ جُندُبْ مِن زَوجها امرئ القَيس ومِن عَلقَمة قَصيدةً عَن الخَيل والصَّيد حيثُ فَضَّلت قَصيدة الأخير على قَصيدةِ زَوجها، مِما أثارَ غَضَبَ زَوجها وتَسبّب في طَلاقِها. وَتَزوَّجت أمُّ جُندُب مِن عَلقمة لذلك تَفتَتح هذهِ القِصة العِلاقة بَين الأذواق الشّعرية والعاطِفة التي نَجدها عِبر تأريخ الأدب العَربي: مِثالٌ آخر شَهير عَنْ عِلاقة حُب ابنِ زَيدون ووَلاّدة في قُرطُبة الأمويّة. المَرأة تَتحدث عَن الشَّخص الأوّل وتُعبر عَن رَغباتها الخاصة. في بَعض الأحيان تكون لَهجتُها السّاخرة قاسيةً، لكنَّ شِعر المَرأة الذي ما زالَ على قَيد الحَياة في فَترة ما قَبل الإسلام مُشبعٌ بِقَبولِ المَصير واستسلامها للحُزن بِفُقدان أحبّائها. المُعجم الجَمالي للمَرأة هو، في جَوهرهِ، مثلُ غَيره مِن شُعراء الجاهلية، على الرغم مِن أنَّ قَصائدهُن تَفتقر إلى أوصاف جِسم الحَبيب على عَكس النِّساء الشّاعرات اللواتي كَتبن قَليلاً في الغَزل، بِقدرِ ما نَستطيع أنْ نُخبِر عَنه مِن خلال ما تَبقّى منه. وَنظراً لأنهُنَّ لم يعَملْنَ كشُعراء مُحكّمين، لَم يُؤلفْنَ في المَدح، ولكنهُنَّ تَخصَّصْنَ في النَّوع الأنيق مِن الشّعر، مِثل الشّاعرة الأكثر شُهرةً قبلَ الإسلام، الخَنساء، ونادراً ما كانت قَصائدهُنَّ طويلةً مثل قَصائد الشّعراء الذُّكور (53).
مثالٌ واحدٌ سَيَفي بالغَرض للطَّرفين على حدٍّ سواء لتُظهر كيف تَشاركَ هؤلاء الشّعراء والشّاعرات النِّساء في المُفردات الجَمالية الطَبيعيّة في الجاهليّة وللتَّأكيد على أنَّ القيم الجَمالية للشِّعر الجاهلي تَجاوزت أي تَفسيرات أسطوريّة لها. والدةُ بُسطام بِن قيس، في قَصيدةِ رَثاء لابنِها المَيت نَظرت إلى نَسَبِهِ، وراحةِ يَده، وكَرمِهِ، وأشادَت أيضاً بجمالهِ بِعباراتٍ مَألوفةٍ لنا حَيث الآن: ابنُها هو القَمرُ الذي يَتألّق بنورهِ على الآخرين، على الرُّغم مِن أنَّ الآخرين هم “نُجومٌ في السَّماء” (54).
الفُنون والعَمارة في الشّعر الجاهلي
لقد شَهدنا للتو عَدد المرات التي يَستحضرُ فيها الشّعر الجاهلي فَنَّ النَّحت، تِلك الصُّور الغامِضة للنِّساء المَنحوتات في الرُّخام والتي توضح المِثالية الأنثويّة للجَمال. وبالتالي فإنَّ الشّعر لا يُؤكد وُجود مثل هذهِ المَنحوتات في شُبه الجَزيرة العَربية في عَصر ما قبلِ الإسلام، بل يَنسبُ إليها صِفات جَمالية مُعينة تَختصُّ بالنُّورِ وتناسب الصُّورة، وتَحويلها إلى نَماذجَ مِن الكَمال الجَمالي البَصَري، على الرغم مِن قلة التَّفاصيل. وَتُشير هذه المَراجع إلى أنَّ الشّاعر الجاهلي يَتصوّرُ ويُقيّم، على الأقل ضِمنيّاً، وُجود الجَمال المِثالي الذي تُنتجهُ الأيدي البَشريّة، خارجِ الأشكال المَوجودة في العالَم الطَّبيعي وبَين البَشر. وهناك تَلميحات مُتكررة في الشّعر الجاهلي إلى فُنونٍ أخرى مِثل الدّيباج والنِّجارة وما إلى ذلك، على الرّغم مِن أنَّها عامة وغَير دَقيقة، إلّا أنَّها توجدُ دائماً كخلفيّة وَصفية في إحدى القَصائد، دَعماً لاستعاراتٍ أخرى مَلموسة. هذا هو حالُ النّابغة عندما يُقارن عَلامات هُبوب الرّياح بالأنقاض على الجُلود التي زَيَّنها الحِرَفيّون (55).
شُعراء الجاهليّة دائماً ما يُشيرونَ إلى المُجوهرات والزَّخارف مِن المَواد الثَّمينة، وخاصة الذَّهب والفِضّة، حَيث تُزيّن السَّيدات الجَميلات المُضيئات أجسادهُنَّ بِها (56)، كما رَأينا في قَصيدة النّابغة المُقتبسة أعلاه. نجدُ أيضاً بالفِعل في هذه الفترة استعارة الأحجار الكَريمة المُطبّقة في اللّغة، والتي سَوف تَتمتّع بتقاليدٍ طويلةٍ في الشّعر العَربي القَديم. ويُقيّم عَنترة كَمال وقيمة كَلماته الخاصة حينما قال:
وَخُذي كَلاماً صَنَعتُهُ مِنْ عَسْجَدٍ وَمَعانِياً رَصَّعتُها بالجَوهَرِ
خذي هذه الكلمات والتي أبدعتها مِن الذَّهب وهذه الأفكار التي نَظمتُها مِن الأحجار الكريمة (57).
في هذا المَفهوم الشّاعري، يُقدم الشّاعر نَفسه حِرَفيّاً يَصوغ خِطابه كقِطعةٍ مِن المُجوهرات، ويوضح كيف يَسعى إلى الوحدة والكَمال والرَّصانةَ في شِعره مِن حَيث الصُّورةِ والمُحتوى. إنَّ هذا الوَعي الجَمالي للذات، أو بالأحرى رَغبة الشّاعر – المُشتركة في كل الكلاسيكيّة – لصياغةِ عملٍ نِهائي ومِثالي، أيّدهُ عَنترة أيضاً في شَطر البَيت الشَّهير “هَلْ غادَرَ الشُّعراءُ مِنْ مُترَدِّمِ“. ومَعناهُ هل تَرك الشّعراء أي مَكان في حاجة إلى التَّرقيع (مَوضع الثَّوب المُرقّع)؟ (58).
لقد ذكرنا وُجود العَمارة في الشّعر الجاهلي بالنِّسبة إلى الأبيات التي كَتبها النّابغة، والتي أشارَ فيها إلى الأصل الخارق للمَبنى الكَبير ولشخصيّة النَّبي سُليمان عَليه السلام. على الرُّغم مِن أنَّ هذه الإشارات إلى الهَندسة المِعماريّة ليست كثيرة، إلا أنَّها ذاتُ أهمية خاصّة، لأنَّها تُخبرنا كيف تَشكلت الأساطير العَربية الغَنية بالهَندسة المِعماريّة: التي تَم تَدوينُها في وَقتٍ مُبكّرٍ مِن القَرن العاشر. وَهناك قَصيدة جاهلية تُشير إلى القِلاع العَظيمة مِثل الحَضَر، أو إلى القُصور المُحصّنة الشَّهيرة في السَّدير والخَوَرْنَق، والتي بناها المَلكُ النُّعمان على ضِفاف نَهر الفُرات والذي فَرض فيهِ جِزيةً ثَقيلةً على النّاس. وهناك أيضاً ذِكرٌ لكِسرى والحُكام الرُّومان، وغالباً ما يُستشهد بهم كدليلٍ على السُّلطان. وَتَستشهد قَصيدة لعَدِي بِن زَيد (المتوفى سنة 604) بكلِّ هذهِ الصُّروح الأسطوريّة مِن أجل التَّأكيد على طَبيعتها غير المُجدية والسَّريعة الزَّوال. وفي مثالٍ قَديم لمَوضوع(59) (ubi sunt) والتي تعَني باللاتينية “أينَ هؤلاء الذين كانوا قَبلنا؟” والذي يُصوِّرُ العَمارة كتَحدي البُناة للرَّب وتَقادُم الزَّمن وخُضوعها في نِهاية المَطاف إلى قَوانين القَدَر. وكما أعربَ عَلقَمة عَن ذلك بِعباراتٍ والتي استخدمها المُتديّنين الفُضلاء لاحقاً:
وِكُلُّ حِصْنٍ وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ عَلى دَعائمِهِ لا بُدَّ مَهدُومُ (60).
وما هو مُهم، وفقاً لأوليغ غرابار، أنْ نلاحظ وُجود “أسطورة العَمارة العلمانية الفَخمة” التي يُقال إنَّ العَرب هم مَن بَناها وليس الأجانب (61) .وَستصبحُ هذه الأساطير المَعمارية نَموذجاً أدبيّاً وجَمالياً دائماً للمُؤرّخين والكُتّاب العُظماء مثل الطَّبري والحَمَداني وياقوتُ كما هو الحال في الشّعر العَباسي والأدب الشَّعبي ، حيث يَسمح النَّثر بالمَزيد مِن الأوصاف الوافرة للمَباني (62). وَمن الافعال البَسيطة لمَيادين حُكام ذلك الوقت ، مثل تلك التي نَجدها عند النّابغة وطًرفة وعَدِي فإنَّهم تَرعرَعوا في وقتٍ كان فيه الخِطاب غَنياً بِما يتعلق بالهَندسة المِعمارية المِثالية والرائعة: العالية، المُشرقة، المُتنقّلة، الفِردَوسيّة، والمُحتوية على حَدائق عَجيبة مَع المياه والأشياء الثَّمينة – ولكنها سَتظل عُرضةً لتَهديد القَدَر.
يَصفُ الشّاعر اليَهودي الجاهلي السَّمَوْألْ (المُتوفى حوالي سنة 560) قلعة الأبلَقْ بتفصيلٍ كبير، حَيث يَعرضُها كقلعةٍ بمصادرٍ وفيرة مِن المياه، والمَرفوعة على قِمةٍ يَتعذر الوُصول إليها ومُرتفعة لدرجةِ أنَّ بَصر المَرء يَتعب مِن النَّظر إليها، لأنَّها وَصلت إلى النُّجوم، حُفِرَت أسُسُها في الصُّخور الصُّلبة في وَسط الحُقول الخِصبة (63). كانَ قَصر الأبلَق فَريداً مِن نوعه، وقد أشار اسمهُ، وُفقاً للمٌفسّرين، إلى مُخطّطٍ مُنقّطٍ بالأسودِ والأبيضِ. والأعشى الأكبَر يعطي الفَضل في بِناء هذه القَلعة الأسطوريّة إلى النَّبي سُليمان (ع) والجِنَّ المُسخّرِ لهُ، مُشدّداً على طَبيعته الرائعة والفَخمة، والتي قَد تَجاوزت قُدرة البَشر العاديّين (64).
نَحن نَعلم أنَّ الإسلام سَوف يَعترض لاحقاً على كل هذه العَمارة بأساطيرها المُحيطة بها ، مُعتبراً أنه أحد أفضل مُمثّلي عَصر الجَهل ، وَفي السّياق نَفسه ، قامَ النَّبي (ﷺ) أيضاً بِتوجيه اللّوم إلى الفُنون الأخرى المُرتبطة بالطّبقات العُليا لمكّة المُكرّمة وزُعماء القَبائل (65) وَمع ذلك، سَيجد الحُكام المُسلمون قَريباً صيغة للحِفاظ على المُثُل العُليا لهذه العَمارة العَظيمة مِن الماضي مِن خلال استحضار قِصّة النَّبي سُليمان (ع) الباني في القُرآن الكريم، ومِن بَعده تَوقفت هذهِ الإنشاءات العَظيمة عَن تَحدّي الألوهية وأصبحت رَمزاً مَلحوظاً لانتصار الإيمان الجَديد (66).
هوامش وإشارات:
1- يجب أن يكون الإنتاج الأدبي قبل الإسلام وفيراً، لكننا نعرف أنه لا يمتلك سوى شظايا تم تأليفها في أواخر القرن الخامس إلى النصف الأول من القرن السادس، أي قبل قرن ونصف من ظهور الإسلام. انظر الفاخوري في التأريخ 52، (فريدريكو كورينتي كوردوبا) في (المُعلّقات) 20، (آربيري) في (القصائد السّبع)، (جونز) في (الشّعر العربي المُبكّر).
2- اعتمد كل من النقد العربي والغربي موقفاً وسيطاً حول وجود وطبيعة الشّعر الجاهلي التي تتكون من قبول أصالته العامة مع إخضاعه لتحليل دقيق حتى يتم تحديد العديد من الإضافات والمتغيرات اللاحقة. هذا هو موقف (غابرييلي وفيرنيت وكورينتي) وغيرهم من المستعربين، ويشاركهم الرأي معظم النقاد العرب (انظر مُروّة في النزعات ج1، 259-275). من بين أشهر العلماء الذين لا يقبلون الشّعر الجاهلي ليكون أصلي وجدير بالتصديق هم المستشرق الانكليزي (صامويل مارجوليوت) وطه حسين.
3- المرعي يدافع أيضاً عن وجود وعي جمالي إسلامي بحت، ويرفض الفكرة الشائعة والواسعة النطاق بأن العبارات الجمالية للشعر الجاهلي هي نتاج عفوي عن حياة بدائية بسيطة. يتسم المجتمع البدوي والحضري قبل الإسلام بالتعقيد، فيما يتعلق بالثقافات الأخرى، وبمبادئ جمالية بعيدة عن كونها اعتباطية، لأنها ناتجة عن انقسام عميق بين الإنسان والطبيعة، ومن العلاقات الجديدة بين الاثنين التي أدت إلى بزوغ فجر نظام اجتماعي جديد. بالنسبة إلى المرعي، قواعد الأفكار وعلم الجمال الجاهلي هي مفهومي “البطولي” و”الجميل”: الواعي 11-25.
4- أتذكر الكلمات الشهيرة للحكيم قس بن ساعدة الإيادي (المتوفي سنة 600 قبل الميلاد) “في الحقيقة إنهُ مَنْ عاشَ ماتْ ومَنْ ماتَ فاتْ وكلُّ ما هُوَ آتٍ- آتْ مَطرٌ ونباتْ وأَرزاقٌ وأَقواتْ وآباءٌ وأُمّهاتْ وأَحياءٌ وأَمواتْ والأَحياءُ والأَمواتْ، جَمعٌ وأَشْتاتْ، عَلامة تِلوَ الأُخرى.. حقاً، في السماءِ هُناكْ علاماتْ وعلى الأرضِ هُناك تَحذيراتْ” الفاخوري، تأريخ 204. ويمكن قول الشيء نفسه عن البيان الوعظي حول أسلوب البناء الذي حدث في الشّعر الجاهلي، والذي سنعود إليه أدناه.
5- نظر النقد العربي الكلاسيكي إلى دور الشّاعر بهذه الطريقة. وصفَ الحسن بن رشيق القيرواني (القرنين العاشر والحادي عشر) النموذج المثالي للشاعر الجاهلي على هذا النحو: عندما يظهر شاعر في قبيلة، تُقدم [القبائل الأخرى] تهنئتها. ويتم إعداد مَأدبة وتقوم مجموعات من النساء بالعزف على الآلات الوترية، كما في حفل الزفاف. حيثُ الرجال والأطفال سُعداء: فالشّاعر دافع عن سُمعة القبيلة، وحَفِظ شرفها، وأدام أفعالها، وزادَ من شُهرتها “العمدة في محاسن الشّعر. ج 1، 149، وتمت استعارتها من كتاب المغربي عبدالفتاح كيليطو (الجَلَسات)75 –6.
6- مُروّة “النزعات” 279- 284.
7- مروّة” النزعات” 288. جنّي تعني كائناً مُتخَيلًا، نصف إنسان ونصف روح، مخفياً في الطبيعة، وترتبط بالكلمة العربية (الجَنّة) “لإخفائها عن الأنظار” ابن منظور (القرن الثالث عشر – القرن الرابع عشر)، لسان العرب تحت عنوان جذر الكلمة (ج.ن). مثل كلمة (genius) باللاتينية، اللاهوتية المرتبطة بالفعل “لتوليد” حيث يمثل الجنّي القوى الطبيعية أو الغيبية التي أثرت في الحياة البشرية وتتدخل في الإبداع الفني، ولكن المفاهيم سيكون لها مصائر مختلفة في ثقافاتها. قد تعني (Genius)، في الغرب، مجموع قدرة الفنان الإبداعية، ليصبح نموذجاً للإنسان الحر المتفوق: لقد تم نقل هذا المعنى باللغة العربية إلى مصطلح “عبقري” (من وادي عبقر المكان الأسطوري الذي يسكنُه الجن) بناء على مفهوم العبقري في الغرب. انظر ماري في (اللامحسوس).
8- يجادل (أرجولول) بأن هذا الشكل النسبي للوعي بالصفات السحرية الجمالية من شأنه أن يمهد الطريق، في المراحل اللاحقة من الثقافة، إلى الارتباط الوثيق بين الجمال مع الرب: (ثلاث نظرات) 31.
9- كيليطو (الجَلَسات) 76.
10- (كريس وكيرتز) في (الأسطورة) 13 وما يليها. النموذج العربي للبطل المحارب والحبيب والشّاعر هو عنترة، وهو شاعر جاهلي أثارت شهرته العديد من الأساطير عن حياته، وتم جمعها في القرن العاشر باسم سيرة عنترة، المعروف أيضًا باسم “صاحب العرب”. أعلن فرديته وفخره في قبيلته، في حين أن شعراء الجاهلية الآخرين عرّفوا عن أنفسهم برتب أدنى، مثل عروة بن الورد، الذي انتقد الثروة والأثرياء. فالبطل الجاهلي يواجه مهمات كبيرة: القتال والانتقام لشرفه وشرف عائلته في المواجهات بين القبائل التي لا تنتهي. هنا يلعب الموت دوراً مركزياً مختلفاً عن مكانته في الملحمة اليونانية: إذا مات البطل الشاب في ذروة قوته، فإنه لا يقبلهُ على أنه مصير أعدته الآلهة ولكن كنتيجة طبيعية للنضال من أجل الوجود. صفات البطل الأخرى هي الشجاعة والكرم وحماية المرأة والأصدقاء والفقراء والولاء وأحياناً الفقر والعدالة. يبدو إنسانياً، حتى أنه ضعيف بسبب صلابة حياته، مع الصفات المشرقة التي سنتحدث عنها أدناه: المرعي في الوَعي 40.
11- (كريس وكيرتز) المرجع السابق 4.
12- إابن شُهَيد، رسالة، مترجمة. (مونريو) في (الرسالة).
13- ياقوت، معجم البلدان 448، واستشهد بها (واضح الصمد) في الصناعات 15. وأضاف: أن النبي ﷺ في وقتٍ لاحقٍ أثنى على العمل وليس الحرفة بعينها.
14- (كريس وكيرتز) المرجع السابق. 85-5. في كتاب الديانة اليهودية التلمود مثلاً، مُسِخَ بناؤو بُرج بابل ليكونوا مُهرّجين أو أشباح أو شياطين. وبالنسبة إلى (كريس وكيرتز) العقوبة التي زارت المهندس المعماري تعود إلى القيمة الرمزية للنار كعلامة على القوة الإبداعية وأحد أهم إنجازات البشرية الأولى. على عكس الفنان البطل نجد الآن الفنان المُعاقَب (المكان والاقتباس): الشّاعر البطل الجاهلي في مواجهة المهندس المعماري الذي يتم إسكاته أو قتله في الخيال العربي.
15- واضح الصمد في كتاب الصناعات 264. تتطلب أعمال المعماريين العظيمة في وقتها التعاون بين مختلف “المبدعين” – الحرفيين والعمال – الذين يعملون في ظل سلطة اقتصادية وأيديولوجية وتنفيذية مركزية قوية، ولا يمكن ذلك إلا لعدد قليل من القادة والملوك لتولي هذه المشروعات. وحول هذه القضايا انظر أيضاً (كوستوف) (المهندس المعماري).
16- شلق. العقل 278. العالِم الأندلسي بالشّعر الجاهلي ابن أيوب البطليوسي (القرن الحادي عشر) الذي يعرض تنوع كلمة خَيَّسَ (كبح، أَذلَّ) والذي سيكون مربكاً هنا، بدلاً عن (خَبِّر): شرح الأشعار ج1، 343.
17- انظر (روبيرا ماتا)، (الوصف) 213-5.
18- انظر (أدونيس)، مقدمة 25.
19- (كورينتي) (المُعلّقات) 19.
20- اقتباس في المكان المذكور.
21- الفاخوري، التأريخ 63-4.
22- عباس، تأريخ النقد، 22-4. شلبي في الأصول 151-3.
23- وجهة نظر (بينا مارتن) في (العمل) 167-8. قام المؤلف نفسه بتوسيع الجزء المركزي من هذه الدراسة في المعرّي، (سيغون البطليوسي) ثم عرض بعد ذلك أجزاء أخرى منها في (القرآن الكلمة والحقيقة).
24- المعرّي ينتقد عادة تحديد جماليات ما قبل الإسلام إلى الصورة الجسدية للمرأة، في حين تشتمل جمالياتها أيضاً على المذكّر والطبيعة والحيوانات، وحتى بعض الفنون، وكما سنرى: الواعي 77.
25- قهوجي، “علم الجمال”، ط3 ج3 1134. (كارسيا كوميز) يتابع هذا الخط من التفكير كثيراً، فهو يختصر “جميع” جماليات العرب إلى هذا الميل المفترض نحو الجمال الجسدي، والذي يكتشفه في أعمال مثل القرآن وطوق الحمامة وديوان الصبابة. وبالنسبة إليه فإنها تنمو في النهاية من تطور الروح البدوية في حياة الصحراء “ويا لها من مدرسة رائعة الجمال كانت تلك السهول الهائلة، حيث يجب أن تحرس الحياة أشكالها بغيرة وتحتفظ فقط بالأجمل والأكمل!”: (الانفعال) 87.
26- (كورينتي)، (المُعلّقات) 60 و73-4 ، كل ترجمات (ستاتكيفيتش) لأمرؤ القيس في كتاب (البُكمْ الخالدون) 294-57. انظر أيضاً شلبي، الأصول 161-3 (الابيات 27-37) واسماعيل في “الأُسُس” 131-2.
27- نفس التعبير، “غير مُفاضَ” ظهر عند الذبياني: اسماعيل، المرجع السابق 133. كما أنه يطبق نفس المصطلح (ريّا. مؤنث ريّان) على (الرَّوادف). ويبدو أن النابغة يلمّح إلى الحُسن في الكثير من الأحيان، ربما لأنه عاش في بلاطِ قصرٍ، على الرغم من أنه يحتفظ بمستوى مماثل من الدلالة.
28- وهنا أنا أقبل إحدى التحقيقات المحتملة التي يقدمها المفسرون: البعض يقرأها “اللؤلؤ” بدلاً من “بيضة النعامة”، إلخ. انظر إبن أيوب، شرح ج1 ،93-4. ويعترف عالِم أندلُسي من القرن الحادي عشر، أن الأبيات تسعى لنقل شيئين: أن الحبيبة تم تغذيتها بالطعام جيداً وأنها “حَسناء اللون”. وسنضع تعليقات ابن أيوب في الاعتبار فيما يلي، كمثال على النطاق الواسع من الاهتمام بدراسة الشّعر الجاهلي في الأندلس في القرن الحادي عشر.
29- أدبياً “ليست بقبيحة حينما ترفعها” ويقول ابن أيوب بأن هذه المرأة ليست بالقبيحة وشكراً لطولها الفارع وطريقة استعراضها ونحافة رقبتها بهذه الايماءة، شرح 87.
30- كتاب (المُعلّقات) 74.
31- العمدةج1 ،300، وتم اقتباسها في كتاب عُصفور “الصورة” 183.
32- ابن أيوب، شرح319. استعارات ما يمكن أن نسميه “جماليات النور” لا حصر لها في الشّعر الجاهلي، وسوف تنتشر لاحقاً في كل الشّعر العربي كمرادف للجمال وكاستعارة شعرية ذات هيبة عظيمة من العصور القديمة – انظر تيمور، الحب 62-6،67-8،82-4. تشكل شريحة الجمال والنور جزءاً من الصور الأكثر تعقيداً، والتي من شأنها توسيع المفردات الجمالية للشعر العربي في مراحل مختلفة، وسيتم إثراء تلك الاستعارات بالإشارات إلى الفراسة والتمعُّن وإلى عبارات جمالية مثل (جمال أو حُسن).
33- النابغة الذُبياني، شاعر الملوك الذي كان ماهرًا في المدح وفي تقديم تعريفات متعددة الاستخدامات لجميع استعاراته، ونسب الصفات المضيئة إلى الشخصيات الرمزية للملك الذين أشاد به، فيما سيصبح أحد أكثر الأنماط الشّعرية العربية شيوعاً: فإنكَ شمسٌ والملوكُ كواكبُ إذا طَلعت لم يُبدِ منهُنَّ كوكبُ ابن أيوب، شرح 440. انظر (بويرتا فلشز) (الشخصية الشمسية) في (البنية الطوباوية)112-7. هذا الموضوع، مع ذلك، وُجد إنه أبعد من الثقافة العربية نفسها.
34- عن أسطورة الجمل في الثقافة العربية من عصور ما قبل الإسلام وما بعده انظر الربيع، العُنف 51-69.
35- ترجمة (ستاتكيفيتش) العمل المُقتبس سابقا.13.
36- ابن أيوب، الشرح 234.
37- نفس المصدر، 165-6.
38- رأي الطيب، في المُرشد ج3 ، 1162.
39- حول معنى “الواشي”، وتعني الحرير المرسوم عليه أشكال ملونة، في الجاهلية وفي القران الكريم انظر واضح الصمد، الصناعات 60. في قاموس الفيروز ابادي (القرنين الرابع عشر- الخامس عشر) وكما في لسان العرب لابن منظور فان مصطلح الواشي يُعرَّف على أنه ” نقش الثوب” وكذلك “مزج اللون مع لون آخر”. وكيليطو يشير إلى الإسلام القديم، من ناحية أخرى، استخدم هذا المصطلح للخطاب الذي كان مزيناً جداً ولكنه مزيف: الغايب 76. سنرى لاحقاً كيف ستفترض المفاهيم المتعلقة بالزخرفة الفنية دلالات الزيف والإفراط في النصوص المقدسة، وكيف استنكرها بعض الأخلاقيين من الفنون من خلال استغلال فكرة أن الفنانين تلاعبوا بالواقع.
40- (بينا مارتن) في (العمل) 229.
41- ابن أيوب، شرح 161-2.
42- جميع الاقتباسات القرآنية باللغة الانكليزية من المستشرق الإنكليزي (أربيري)، (القُرآن المُفسّر).
43- ابن أيوب، نفس الاقتباس السابق.161-2. في البيت الشّعري الاول نحن نترجم (the outline of a statue) كخطوط التمثال ولكن يشير التعبير أيضاً إلى فكرة الكمال الرسمي للصورة.
44- استشهد بها شلق، العقل 48. راجع ابن أيوب، المرجع السابق، 474، حيث يفسر بيت شعري متطابق تقريباً للشاعر نفسه.
45- انظر الفيروز أبادي، القاموس 934، جذر رَوع، الخوف “الفزع” مع مسحة من الجمال. الراغب الأصفهاني (المتوفي في القرن الثاني عشر) يعرض تعريفاً مشابهاً في قاموسه الشهير: الأروع ” يُروّع” مع الحُسن والذي يمكن ان يسبب الخوف (يُضفي): مفردات 212-3.
46- شلق، الاقتباس السابق. 48-53.
47- لاحظ ابن أيوب أفكاراً عن النقاء والإشراق والعذرية الموجودة في هذه الاستعارة: إنها تلمع مثل لؤلؤة البحر “التي لم يمسها أحد” الاقتباس السابق. 472-5.
48- ابن أيوب نفس المصدر.475.
49- كان هذا هو موقف ابن أيوب، على الرغم من أنه كان مهتماً بشكل أساسي بمعجم ومحتوى المفردات الجاهلية. ومن بين النقاد المعاصرين، يقول شلبي، للحظة، أن مجرد أبيات من امرئ القيس التي تصف الحبيب من حيث جمالها المضيء تعبر عن مشاعر الشّاعر من خلال الصور التي التقطت من العالم المادي: الأصول169-75. إسماعيل يُصر على أن المثل الأعلى للجمال الأنثوي مبني على الشعور النقي: الأُسس 132.
50- اقترح البعض أن الجنس الأنثوي لكلمة “شمس” باللغة العربية، ينبع من الوقت الذي تبنت فيه قبائل اليمن الشمس إلهاً، بعد أن هاجروا إلى الصحراء عقب انهيار سد مأرب. ثم نقلوا عبادة آلهة الإناث القديمة، وبدأوا بعبادة الشمس باعتبارها إلهة الأمومة والحياة.
51- حتى الثقافة العربية القديمة، على الأقل منذ الجاحظ، طلبت تفسيرات خجولة لبعض الابيات الشّعرية الجاهلية في المعتقدات القديمة. في العصر الحديث، يمكن اتباع هذا الخط من البحث في أعمال مثل الطيب، المرشد، وناصيف، قراءة ثانية. وفي دراسة نقدية لهذه التفسيرات، دون إنكارها تماماً، تؤكد على افتقارها إلى البيانات القوية وفجواتها المنهجية المتكررة وهي دراسة أحمد، المنهاج.
52- (بويرتا فلشز) في كتابه (البنية الطوباوية) 14-54.
53- انظر الفاخوري، التأريخ 188-92. وشلبي، الأصول 241-68.
54- انظر شلبي، المرجع السابق 256.
55- معلقنا الأندلُسي ابن أيوب يغتنم تلميحات كهذه ليتذكر باستفاضة العملية الحرفية المعنية وبكل الشروط الفنية: شرح 321.
56- راجع الصمد، الصناعات 187-230.
57- المرجع السابق .193.
58- تم استعارتها في كتاب الفاخوري، تأريخ 169، ترجمة (سيلز)، (آثار الصحراء) 48.
59- انظر (غابرييلي) في (Storia) 66-9.
60- الصمد، الصناعات ترجمة (سيلز) الاقتباس السابق 18.
61- (غرابار) في (التشكيل) 76.
62- انظر (ريبيرا ماتا) في (العمارة) 28-44، وضمّنت عبارات من القزويني (القرن الثالث عشر) وألف ليلة وليلة.
63- السموأل، ديوان، اقتبسها الصمد في الصناعات 291-2.