الحداثة والقرآن مرحبا أيها العقل
هكذا تساءلت سنة 2009 وفي القلب مرارة وبعض يأس، في أول كتاب أصدرته باللغة العربية “فصل الكلام في مواجهة أهل الظلام”، ونشر بالتعاون بين دار الساقي ورابطة العقلانيين العرب. أمام هذا التراوح في نفس المكان الذي ينهك عقولنا دون فائدة منذ قرون. ولم تمض سوى ستّ سنوات حتى جاءني الخبر السعيد من سعيد ناشيد، المفكر المغربي الشاب، عبر كتاب مميز تحت عنوان مثير “الحداثة والقرآن”. جاء كتاب سعيد الصادر عن دار التنوير البيروتية مغايرا في المنهج والرؤيا والمضمون لسائر الكتب السابقة التي خاضت في موضوع “الإسلام والعصر” بصفة عامة والدراسات القرآنية بصفة أخص. وأقصد المؤلفات الاجتهادية بالمعنى القديم والتكييفية بالمعنى الجديد. في “الحداثة والقرآن”، جذب سعيد ناشيد البساط من تحت أرجل فئتين من منتجي النصوص والخطب: أولئك الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على الدين الإسلامي واحتكار تأويل كتابه المقدس واختطاف وعي الجماهير المسلمة ودفعها إلى التقوقع ومعاداة العصر، وأولئك الذين يمسكون العصا من الوسط ويتقاسمون وهم التوفيق/التلفيق مع نفس تلك الجماهير مدعين العثور على كل شيء في التراث ولا يتطلب الأمر حسبهم سوى تأويله، حتى بتنا لا نعرف لهم هوية فكرية واضحة، فلا هم بالإسلاميين ولا هم بالحداثيين.
في “الحداثة والقرآن”، نحن أمام فكر شفاف مرح، لا يطرح أسئلة لا تقتضيها حاجات الزمن الحاضر ولا ينهل من القاموس اللغوي المتوارث المتهالك. نحن في حضرة تفكير يعجن ما يمكن إنقاذه من الموروث في طينة العصر فيغدو مؤتلفا مع الفكر التنويري ويؤهّل المسلم المعاصر ليتصالح مع ذاته وقيم عصره، ويعلن موت الباقي فلا شيء صالح لكل زمان ومكان. لا لف في “الحداثة والقرآن” ولا دوران كما اعتدنا مع أهل “نعم ولكن…” و” الخصوصياتية المعتلة”، و”وجوب إرضاء العوام”.. بل هناك دعوة صريحة واثقة من طرحها ولا تخفي نفسها، كما لا تكتفي بحسن النوايا وإنما تنير لنا الطريق عبر الدرس والحفر ومساءلة النص المؤسس وتخليصه ممّا علق به من تصورات الفقهاء إلى حد جعله يتماهى مع ما سمّي “شريعة”. وإذا كان أغلب الخائضين في موضوع التخلف يعرفون ما لا يريدون ولا يحددون ما يريدون فسعيد يعرف ما لا يريد ويحدد ما يريد بدقة: لا شريعة ولا دولة دينية بل حداثة وعلمانية. أترك للقارئ العودة إلى النص بنفسه ليتعرف على أطروحة الكتاب وتعقل فرضياتها والوقوف على ما جاءت به من جديد أصيل قد يخفف في رأيي من حدة الصراع الدائر منذ قرون بين الميتوس واللوغوس على أرض المسلمين.
هل وصل غودو
لا شيء ينهض من فراغ أو يسقط من السماء بل يبنى الفكر لبنة لبنة ولا يوجد تفكير شخصي خالص وإنما تأتي النقلة النوعية الفردية من حوار الذات المفكرة مع الأخريات وفي صمودها أمام الذات الجمعية اللاعقلانية في مجملها. فسعيد ليس غودو وصل دون سابق إنذار وإنما هو وليد تجربة غنية ومختلفة معرفيا وزمنيا وفلسفيا ومستفيدة من تراكم الأخطاء السابقة، علاوة على ارتباط تجربة سعيد بمدرسة فكرية مغربية ذات أهمية كبرى في الفكر العربي المعاصر ( عبدالله العروي، عبدالعزيز الحبابي، عبدالكبير الخطيبي، فاطمة المرنيسي..) كل هذا أثمر اليوم فكرا جديدا بعيدا عن تفسير اليومي المشخّص بكليات مجردة ولم يضع اليد على أسباب التخلف العربي فحسب بل قدّم في كتابه وصفة عقلانية قمينة بإبراء الفكر العربي من مرضه العضال: الخضوع للاهوت.