الحداثي‭ ‬المديني

الثلاثاء 2018/05/01
لوحة: ناصر بخيت

‬في مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬قبل‭ ‬20‭ ‬سنة‭ ‬غاب‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬عن‭ ‬عالمنا،‭ ‬بعدما‭ ‬قضى‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬سنوات‭ ‬حياته‭ ‬العشرين‭ ‬الأخيرة‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬أندلسه‭ ‬الدمشقي،‭ ‬الذي‭ ‬بنى‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬أسطورة‭ ‬من‭ ‬أطواق‭ ‬الفل‭ ‬والياسمين،‭ ‬وأقمار‭ ‬الحب‭ ‬الساهر‭ ‬في‭ ‬الشرفات،‭ ‬وفراشاته‭ ‬المتخطفات‭ ‬في‭ ‬شمس‭ ‬الضحى‭ ‬وراء‭ ‬حبال‭ ‬الغسيل‭.‬

في‭ ‬منفانا‭ ‬اللندني‭ ‬بغيومه‭ ‬الكالحة،‭ ‬كان‭ ‬نزار‭ ‬علامة‭ ‬فارقة‭ ‬بيننا‭ ‬نحن‭ ‬الشعراء‭ ‬الجدد‭ ‬الغاضبين،‭ ‬اختلفنا‭ ‬معه،‭ ‬وهجانا‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬بصفتنا‭ ‬‮«‬حداثيين‭ ‬منخلعين‭ ‬من‭ ‬الجذور‮»‬‭. ‬وما‭ ‬كنا‭ ‬نرفضه‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬شاعر‭ ‬من‭ ‬هجوم‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬الجديدة‭ ‬كنا‭ ‬نقبله‭ ‬من‭ ‬نزار،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬مكانة‭ ‬خاصة‭ ‬لدينا‭.‬

وكنت‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬نزارا‭ ‬مهما‭ ‬ابتعد‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬تبقى‭ ‬دمشق‭ ‬المدينة‭ ‬الأكثر‭ ‬حضورا‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬ويبقى‭ ‬اسمه‭ ‬كشاعر‭ ‬يستحضر‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬العظيمة‭ ‬إلى‭ ‬الأذهان‭.‬

‭-‬I‭-‬

كنت‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬بأشهر‭ ‬كتبتُ‭ -‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬حداثيا‮»‬‭- ‬كلمة‭ ‬في‭ ‬الشاعر‭ ‬عاتبتني‭ ‬عليها‭ ‬جمهرة‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬ممن‭ ‬يوصفون‭ ‬بأنهم‭ ‬حداثيون،‭ ‬رأوا‭ ‬أنني‭ ‬مبالغ،‭ ‬وأشعروني‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬سقطاتي‭. ‬ومما‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬‮«‬إن‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬أشهر‭ ‬شاعر‭ ‬عربي‭ ‬حيّ،‭ ‬وإنما‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬وجوه‭ ‬الحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬دأب‭ ‬نزار‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬هجائها،‭ ‬وهذه‭ ‬مفارقة‭ ‬طريفة‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬للاستعمال‭ ‬الصحافي‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬تصلح‭ ‬للتأمل‭ ‬النقدي‭ ‬العميق‮»‬‭.‬

يمكن‭ ‬فهم‭ ‬أن‭ ‬نزار‭ ‬شخصية‭ ‬شعرية‭ ‬حادة‭ ‬المزاج،‭ ‬وخطابه‭ ‬النقدي‭ ‬الموازي‭ ‬لشعره‭ ‬أولا‭ -‬والمندمج‭ ‬به‭ ‬لاحقا‭- ‬برقي،‭ ‬انفعالي،‭ ‬انقلابي،‭ ‬من‭ ‬سماته‭ ‬عنف‭ ‬اللهجة. ‬وهو‭ ‬بالتالي‭ ‬خطاب‭ ‬فعّال‭ ‬في‭ ‬قراء‭ ‬غاضبين،‭ ‬وقراء‭ ‬يرغبون‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يغضبوا،‭ ‬وعلى‭ ‬الأرجح‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬العصب‭ ‬الشعري‭ ‬المشدود‭ ‬وإهابه‭ ‬الانقلابي،‭ ‬والتدفق‭ ‬شبه‭ ‬العفوي‭ ‬لما‭ ‬انتقاه‭ ‬نزار‭ ‬من‭ ‬مفردات‭ ‬يومية‭ ‬سريعة‭ ‬الاشتعال،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬ظلّ‭ ‬يحبب‭ ‬إليه‭ ‬الفئات‭ ‬الأوسع‭ ‬من‭ ‬القراء،‭ ‬على‭ ‬رغم‭ ‬خفوت‭ ‬وهج‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬قصائده‭ ‬الأخيرة‭.‬

فهل‭ ‬يجوز‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أشبهه‭ ‬بضوء‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬قصيّ،‭ ‬وهو‭ ‬ضوء‭ ‬نجم‭ ‬خمد‭ ‬منذ‭ ‬زمن؟! ‬ربّما‮…‬‭ ‬لكن‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬اختلفت‭ ‬نخبهم‭ ‬المثقفة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬ودوره‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬تعاليه‭ ‬المتوارث،‭ ‬وإضفاء‭ ‬طابع‭ ‬شعبي‭ ‬على‭ ‬القصيدة‭ ‬الحديثة‭ ‬سوف‭ ‬يعتزّون‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬بشاعرية‭ ‬نزار،‭ ‬وسيعيد‭ ‬النقد‭ -‬مستقبلا‭- ‬النظر‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬والبحث‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬قصيدته‭ ‬بالحداثة‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬قصيدة‭ ‬نزار‭ ‬هي‭ ‬القصيدة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الفئات‭ ‬الأعرض‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬العرب،‭ ‬فإن‭ ‬لغته‭ ‬شكلت‭ ‬منهلا‭ ‬لا‭ ‬واعيا‭ ‬لشعراء‭ ‬كثيرين‭ ‬لاحقين‭ ‬عليه،‭ ‬ففي‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬هي‭ ‬الأخطر‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬تشكل‭ ‬الحواس‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬جمالية‭ ‬عبر‭ ‬اللغة‭ ‬لدى‭ ‬الشعراء‭ ‬الناشئة،‭ ‬بدا‭ ‬عسيرا‭ ‬على‭ ‬الشعراء‭ ‬الجدد،‭ ‬تجنب‭ ‬إغراء‭ ‬شعر‭ ‬نزار. ‬ولربّما‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬الأبناء‭ ‬الذين‭ ‬أسهم‭ ‬نزار‭ ‬في‭ ‬تربيتهم‭ ‬الشعرية،‭ ‬هو‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬الذي‭ ‬اعترف‭ ‬بذلك‭ ‬غير‭ ‬مرة،‭ ‬وهناك‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬‮«‬الأبناء‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يفضلون‭ ‬إنكار‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الأبوة‮»‬‭ ‬على‭ ‬نزار،‭ ‬أو‭ ‬أقله‭ ‬الصمت‭ ‬عليها‭.‬

ولو‭ ‬كان‭ ‬موضوع‭ ‬البحث‭ ‬هو‭ ‬حداثية‭ ‬شعر‭ ‬نزار،‭ ‬فلعل‭ ‬أبرز‭ ‬سماتها‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬لهجة‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬ونبرته،‭ ‬ولغته‭ ‬التي‭ ‬تتوسط‭ ‬‮«‬اللغات‮»‬‭ ‬الشعرية‭ ‬الحديثة‭ ‬كلها،‭ ‬وتتوسط‭ ‬بعلاقاتها‭ ‬السلسة‭ ‬وتشكيلاتها‭ ‬الرشيقة‭ ‬وجمالياتها‭ ‬الخاصة‭ ‬المنجز‭ ‬الشعري‭ ‬الحديث‭ ‬برمته‭.‬

وهذا‭ ‬لم‭ ‬يتمّ‭ ‬للشاعر‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة،‭ ‬فقد‭ ‬حققه‭ ‬على‭ ‬مراحل،‭ ‬ربّما‭ ‬كانت‭ ‬أزهاها‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬عقد‭ ‬الستينات‭ ‬حيث‭ ‬قدّم‭ ‬نزار‭ ‬أرفع‭ ‬نصوصه‭ ‬الشعرية‭ ‬وأكثرها‭ ‬شهرة‭ ‬أيضا‭. ‬ولربّما‭ ‬كان‭ ‬يكفي‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يحفل‭ ‬القول‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬بالتناقض،‭ ‬بينما‭ ‬تتماسك‭ ‬صياغاته‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬انسجام‭ ‬لا‭ ‬سابق‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث،‭ ‬إنه‭ ‬الشاعر‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬أسس‭ ‬عمارة‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية،‭ ‬أي‭ ‬باختصار،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يخالف‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬الشعري‭ ‬لديه،‭ ‬أسس‭ ‬تمثلا‭ ‬رجاليا‭ ‬جديدا‭ ‬لصورة‭ ‬المرأة‭ ‬وصوتها؛‭ ‬هو‭ ‬درجة‭ ‬وسطى‭ ‬بين‭ ‬صوت‭ ‬الرجل‭ ‬وصوت‭ ‬المرأة‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬هذين‭ ‬الصوتين،‭ ‬وأقام‭ ‬لها‭ ‬هيئة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬وحررت‭ ‬قصيدته‭ ‬القول‭ ‬حول‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬غموض،‭ ‬ظل‭ ‬الشعر‭ ‬يفتعله‭ ‬بطريقة‭ ‬دغمائية‭ ‬بائسة‭ ‬وبنبرة‭ ‬عاطفية‭ ‬متهاوية،‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬المرأة‭ ‬إبليسا‭ ‬تارة،‭ ‬وقديسة‭ ‬تارات‭ ‬أخرى‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬شعر‭ ‬نزار‭ ‬لم‭ ‬يقطع‭ ‬برؤيته‭ ‬الخاصة‭ ‬للمرأة‭ ‬حبل‭ ‬السرة‭ ‬كله‭ ‬مع‭ ‬الرؤى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬السائدة،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬ملأ‭ ‬المكان‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬بأشياء‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬دبابيس‭ ‬شعرها،‭ ‬ومن‭ ‬أوراق‭ ‬رسائلها،‭ ‬ودفتر‭ ‬مواعيدها‭ ‬المتخيل‭. ‬وقيمة‭ ‬ذلك،‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬صدقه‭ ‬الفني‭ ‬دائما،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬حيويته‭ ‬الكبيرة‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الإيهام،‭ ‬أعني‭ ‬أن‭ ‬قيمته‭ ‬تحديدا‭ ‬في‭ ‬صدوره‭ ‬عن‭ ‬لاعب‭ ‬بالكلمات‭ ‬وبنّاء‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬ومجرب‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬العاطفي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬لديه‭ ‬انشغال‭ ‬آخر‭ ‬سوى‭ ‬المرأة‭. ‬وفي‭ ‬موازاة‭ ‬تمثله‭ ‬لها‭ ‬هناك‭ ‬ثراء‭ ‬تناقضه‭ ‬بإزائها،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬النفس‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬الملأى‭ ‬بالغوامض،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬نبشه‭ ‬نزار‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬نفسه‭ ‬وقدّمه‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬المرأة‭ ‬أقلّ‭ ‬كثيرا‭ ‬مما‭ ‬نبشه‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬أبناء‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬العرب‭ ‬حول‭ ‬المرأة،‭ ‬ومدّ‭ ‬به‭ ‬أرواح‭ ‬نصوصه‭ ‬الشعرية‭. ‬فكان‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ -‬كحال‭ ‬شعره‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭- ‬درجة‭ ‬وسطى‭ ‬بين‭ ‬نفسه‭ ‬وبين‭ ‬الأنفس‭ ‬التي‭ ‬عاصرها. ‬وهو‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬شاعر‭ ‬حديث‭ ‬التطلع،‭ ‬فهو‭ ‬ممثل‭ ‬للفحولة‭ ‬وناقد‭ ‬لها‭ ‬معا،‭ ‬محرر‭ ‬للمرأة‭ ‬وحارس‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬غرفتها،‭ ‬فهو‭ ‬صورة‭ ‬للعاشق‭ ‬الذي‭ ‬يتهاوى‭ ‬سلطان‭ ‬حبه‭ ‬المتوارث‭ ‬أمام‭ ‬الصياغات‭ ‬المختلفة،‭ ‬التي‭ ‬راحت‭ ‬الحياة‭ ‬الجديدة‭ ‬تقترحها‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬المتطلعة‭ ‬إلى‭ ‬شريك‭ ‬معاصر‭ ‬ومختلف،‭ ‬هو‭ ‬الرجل‭ ‬العصري‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬نزار‭ ‬هو‭ ‬‮«‬شاعر‭ ‬الرجل‮»‬‭ ‬في‭ ‬تمثلات‭ ‬أنثوية‭ ‬مفترضة،‭ ‬لغة‭ ‬وتعبيرا،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬التمثلات‭ ‬تبدو‭ ‬أحيانا‭ ‬مبدعة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬قصيدته‭ ‬أعطت‭ -‬في‭ ‬حالات‭ ‬معينة‭ ‬ونادرة‭ ‬لكنها‭ ‬عظيمة‭- ‬صوتا‭ ‬للمرأة‭ ‬وعينين‭ ‬جديدتين،‭ ‬أيضا،‭ ‬لترى‭ ‬بهما‭ ‬العالم‭.‬

والآن‭ ‬يخيل‭ ‬إليّ،‭ ‬أننا‭ ‬نحن‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬نصف‭ ‬أنفسنا‭ ‬بالحديثين‭ ‬والحداثيين،‭ ‬قرأنا‭ ‬نزار‭ ‬بغرور‭ ‬المراهقين‭ ‬وبانحياز‭ ‬باهظ‭ ‬إلى‭ ‬أنفسنا،‭ ‬فضربت‭ ‬قراءتنا‭ ‬آفة‭ ‬التعالي‭ ‬على‭ ‬قصيدته،‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬كانت،‭ ‬حتى‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الطبعة‭ ‬الشعبية‭ ‬للحداثة،‭ ‬والجسر‭ ‬الكبير‭ ‬بين‭ ‬القراء‭ ‬العرب‭ ‬والشعر‭ ‬كفكرة‭ ‬متوهجة،‭ ‬دائما،‭ ‬وصالحة‭ ‬للاستمرار‭.‬

‭-‬II‭-‬

إذا‭ ‬كانت‭ ‬دمشق‭ ‬قد‭ ‬اشتهرت‭ ‬بالياسمين‭ ‬فإن‭ ‬قصائد‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬حملته‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬شبر‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬العربية،‭ ‬من‭ ‬دمشق‭ ‬إلى‭ ‬نواكشوط‭ ‬ومن‭ ‬القاهرة‭ ‬إلى‭ ‬زنجبار‭. ‬ومن‭ ‬لم‭ ‬يقرأ‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬سمعه‭ ‬في‭ ‬شريط‭ ‬تسجيل،‭ ‬أو‭ ‬ردده‭ ‬مع‭ ‬المغني‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ‭ ‬الذي‭ ‬غنى‭ ‬لنزار،‭ ‬فأشجى‭ ‬العشاق‭ ‬المتألمين،‭ ‬وأضاف‭ ‬ملمحا‭ ‬جديدا‭ ‬إلى‭ ‬صورته‭ ‬مغنيا‭.‬

ونزار‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬الوحيد‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬الذي‭ ‬ينسخ‭ ‬العشاق‭ ‬قصائده‭ ‬في‭ ‬رسائلهم‭ ‬العاطفية،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬مراهقة‭ ‬عربية‭ ‬لم‭ ‬تعتقد‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬نزار‭ ‬وجها‭ ‬أو‭ ‬يدا‭ ‬أو‭ ‬ضفيرة،‭ ‬وأن‭ ‬بين‭ ‬قصائده‭ ‬واحدة‭ ‬لها،‭ ‬تنطق‭ ‬باسمها،‭ ‬فهي‭ ‬رسالتها‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬تحب،‭ ‬وما‭ ‬استحقت‭ ‬من‭ ‬مديح‭ ‬نفسها‭ ‬عند‭ ‬نفسها‭ ‬أمام‭ ‬المرآة‭.‬

وبين‭ ‬العاشقات‭ ‬الصغيرات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬أساطير‭ ‬متداولة‭ ‬همسا،‭ ‬فواحدة‭ ‬تظن‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭ ‬قيلت‭ ‬فيها‭ ‬لكونها‭ ‬تخيّلت‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬كتب‭ ‬قصيدته‭ ‬بعدما‭ ‬لمحها‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬لمحا‭ ‬في‭ ‬أمسية‭ ‬وكانت‭ ‬هي‭ ‬بين‭ ‬الحضور،‭ ‬وأخرى‭ ‬تظن‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬نفسها‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عنها‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬نزار‭ ‬قد‭ ‬رآها‭ ‬بذاتها،‭ ‬إذ‭ ‬ذاك‭ ‬أما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القصيدة‭ ‬أحلى؟

ولو‭ ‬استوقفت‭ ‬عابرا‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬وسألته‭ ‬هل‭ ‬تقرأ‭ ‬الشعر؟‭ ‬لأجابك‭:‬

‭- ‬أقرأ‭ ‬نزارا

‭- ‬ومن‭ ‬أيضا؟

‭- ‬المتنبي

نزار،‭ ‬إذن،‭ ‬هو‭ ‬الاسم‭ ‬الحركي‭ ‬للشعر،‭ ‬والشاعر‭ ‬لدى‭ ‬الناس‭ ‬المعاصرين‭ ‬هو‭ ‬نزار‭.‬

لم‭ ‬يختلف‭ ‬العرب‭ ‬كما‭ ‬اختلفوا‭ ‬واتفقوا‭ ‬على‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬وشعره‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬البساطة‭ ‬والعذوبة،‭ ‬وجرأة‭ ‬التعبير،‭ ‬والطرافة‭ ‬والجدة؛‭ ‬فهو‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬أنزل‭ ‬القصيدة‭ ‬عن‭ ‬حصان‭ ‬المتنبي‭ ‬وجعلها‭ ‬تمشي‭ ‬على‭ ‬قدمين‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬عربي‭ ‬معاصر‭ ‬مزدحم‭ ‬بالسابلة‭ ‬والعربات‭.‬

‭-‬III‭-‬

أيديولوجيتان‭ ‬حاربتا‭ ‬نزار‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬أصدر‭ ‬ديوانه‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬قالت‭ ‬لي‭ ‬السمراء‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1944،‭ ‬وتصدتا‭ ‬لخطابه‭ ‬الشعري‭ ‬الراديكالي‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬الغزل،‭ ‬ولاحقا‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬السياسي‭ -‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬كارثة‭ ‬5‭ ‬يونيو- ‬لمّا‭ ‬تحوّل‭ ‬نزار‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬‮«‬القصيدة‭ ‬السياسية‮»‬‭ ‬العنيفة‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الهجائي‭ ‬المقذع‭ ‬أحيانا‭:‬

الأيديولوجيا‭ ‬الأولى‭ ‬تمثلها‭ ‬التقليدية‭ ‬المحافظة‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬نزار‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬وأفكار‭ ‬ورؤى‭ ‬وقول‭ ‬يدعو‭ ‬المرأة‭ ‬إلى‭ ‬التحرر،‭ ‬والمجتمع‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬الماضي‭ ‬والثورة‭ ‬على‭ ‬الحاضر،‭ ‬ضربا‭ ‬من‭ ‬التهديد‭ ‬المباشر‭ ‬للقيم‭ ‬التي‭ ‬تحرسها. ‬والأيديولوجيا‭ ‬الثانية‭ ‬تمثلها‭ ‬‮«‬الحداثة‭ ‬البدوية‮»‬‭ ‬أحادية‭ ‬الجانب‭ ‬ذات‭ ‬الخطاب‭ ‬الاستعلائي‭ ‬المرضي،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬استيعاب‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الشعر‭ ‬شعبيا‭ ‬وحديثا‭ ‬معا،‭ ‬ولكونها‭ ‬أيضا‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬حل‭ ‬معضلة‭ ‬أن‭ ‬تنطوي،‭ ‬وتقوم،‭ ‬تجربة‭ ‬شعرية‭ ‬كبيرة‭ ‬كتجربة‭ ‬نزار‭ ‬على‭ ‬عناصر‭ ‬ورؤى‭ ‬متضادة‭ ‬ومتناقضة‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬حدود‭ ‬التضاد‭ ‬والتناقض،‭ ‬بما‭ ‬يشكله‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تحدّ‭ ‬مربك‭ ‬لشخصيتها‭ ‬البسيطة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬مانوية‭ ‬تبسط‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬ثنائيات‭ ‬متضادة‭ ‬ومتصارعة‭ ‬حتى‭ ‬الموت‭.‬

من‭ ‬جدل‭ ‬العلاقات‭ ‬الخاصة‭ ‬بتجربته،‭ ‬وجدل‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬العدوة‭ ‬‮«‬التقليدية‭- ‬الحداثة‮»‬‭ ‬أقام‭ ‬نزار‭ ‬لنفسه‭ ‬مكانة‭ ‬مستقلة‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أيّ‭ ‬تجربة‭ ‬شعرية‭ ‬عربية‭ ‬أخرى‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬إقامتها،‭ ‬وتنازعت‭ ‬تجربته‭ ‬المبدعة‭ ‬وخيمت‭ ‬عليها،‭ ‬دائما،‭ ‬تلك‭ ‬المتناقضات‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬سمة‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬خطابه‭ ‬الشعري،‭ ‬الذي‭ ‬تدرج‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬تقلبه‭ ‬وانقلابيته‭ ‬من‭ ‬الطبقات‭ ‬الأعمق‭ ‬في‭ ‬نصه،‭ ‬حتى‭ ‬سطوحه‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬عناوين‭ ‬كتبه‭ ‬التي‭ ‬تميزت‭ ‬بالإثارة،‭ ‬وعبّرت‭ ‬عن‭ ‬قدرة‭ ‬لافتة‭ ‬للشاعر‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬علاقة‭ ‬متينة‭ ‬ومتميزة‭ ‬وحارة‭ ‬مع‭ ‬القارئ،‭ ‬تسمح‭ ‬لنرجسيته،‭ ‬باستمرار،‭ ‬أن‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة،‭ ‬ولصورته‭ ‬أن‭ ‬تتيه‭ ‬بملامحها‭ ‬في‭ ‬خيلاء‭. ‬ولعل‭ ‬انتشار‭ ‬شعره‭ ‬بصورة‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬لشاعر‭ ‬قبله‭ -‬وزع‭ ‬أحد‭ ‬دواوينه‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬ألف‭ ‬نسخة،‭ ‬وطبع‭ ‬ديوان‭ ‬واحد‭ ‬له‭ ‬‮«‬قصائد‮»‬‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثين‭ ‬طبعة‭- ‬لعب‭ ‬دورا‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬البعد‭ ‬النرجسي‭ ‬في‭ ‬خطابه،‭ ‬فباتت‭ ‬أناه‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬واجهة‭ ‬قصيدته،‭ ‬وتحول‭ ‬الحوار‭ ‬الشعري‭ ‬لنزار‭ ‬مع‭ ‬المرأة‭ ‬إلى‭ ‬حوار‭ ‬بين‭ ‬شاعر‭ ‬ونساء‭ ‬أمته،‭ ‬فصار‭ ‬‮«‬أسطورة‭ ‬حب‮»‬‭ ‬و»أسطورة‭ ‬شعر‮»‬،‭ ‬وسوف‭ ‬لن‭ ‬ينفع‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬المحدثين‭ ‬أن‭ ‬يواصلوا‭ ‬تجاهلهم‭ ‬لهذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬الشعرية‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة‭. ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬السؤال‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬شاعر‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬هو‭ ‬الجواهري‭ ‬مثلا،‭ ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬بدوي‭ ‬الجبل،‭ ‬ولا‭ ‬عمر‭ ‬أبوريشة،‭ ‬أو‭ ‬سعيد‭ ‬عقل،‭ ‬أو‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الكلاسيكيين‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬مجدهم،‭ ‬وإنما‭ ‬نزار،‭ ‬فهو‭ ‬شاعر‭ ‬القرن‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬بين‭ ‬الناس‭. ‬وهي‭ ‬شهرة‭ ‬استحقها‭ ‬عن‭ ‬قصائده‭ ‬التي‭ ‬بنت‭ ‬لها‭ ‬مكانة‭ ‬بينهم،‭ ‬خاطبتهم‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬شؤونهم‭ ‬الروحية‭ ‬والعاطفية‭ ‬تفجّرا‭. ‬ومهما‭ ‬قيل‭ ‬عن‭ ‬تراجع‭ ‬شعبيته‭ ‬أو‭ ‬تقدمها،‭ ‬فهذا‭ ‬شاعر‭ ‬عاش‭ ‬مجده‭ ‬الشعري‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭. ‬ولا‭ ‬بدّ‭ ‬للنقاد‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬شعره‭ ‬ودراسة‭ ‬شخصيته‭ ‬الشعرية‭ ‬ودراسة‭ ‬علاقة‭ ‬الناس‭ ‬بالشعر‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬تجربته،‭ ‬بموضوعية‭ ‬كبيرة‭ ‬وأمانة،‭ ‬وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬الهوى،‭ ‬فمكتبة‭ ‬البيت‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬قد‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬للمتنبي،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬لنزار‭ ‬قباني‭.‬

‭-‬IV‭-‬

في‭ ‬مطلع‭ ‬الخمسينات‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬يشهد‭ ‬حركات‭ ‬التحرّر‭ ‬الوطني،‭ ‬والجدل‭ ‬الفكري‭ ‬الواسع‭ ‬بين‭ ‬القومية‭ ‬والماركسية،‭ ‬وبينهما‭ ‬وبين‭ ‬الفكر‭ ‬الديني،‭ ‬كتب‭ ‬نزار‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬خبز‭ ‬وحشيش‭ ‬وقمر‮»‬‭ ‬وثارت‭ ‬بفعل‭ ‬القصيدة‭ ‬الجريئة‭ ‬ضجة‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الثقافية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬دمشق‭ ‬وبيروت‭ ‬والقاهرة. ‬وبينما‭ ‬كان‭ ‬الصراع‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬بين‭ ‬الأفكار‭ ‬المختلفة‭ -‬في‭ ‬جانب‭ ‬منه‭- ‬صراعا‭ ‬تجريديا،‭ ‬كان‭ ‬نزار‭ ‬ينحت‭ ‬لنفسه‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬خاصة،‭ ‬ويضع‭ ‬اللبنات‭ ‬المكينة‭ ‬لخطابه‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬شعرية‭ ‬بسيطة،‭ ‬حارة،‭ ‬ونضرة،‭ ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬مبتكرة،‭ ‬فهي‭ ‬لغة‭ ‬ذات‭ ‬إغراء‭ ‬جمالي‭ ‬وتعبيري‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬حركة‭ ‬تجديد‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬قد‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬مع‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬وبدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب،‭ ‬فإن‭ ‬نزار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يكتب‭ ‬القصيدة‭ ‬العمودية،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬التحق‭ ‬بهذه‭ ‬الحركة. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬غريبا‭: ‬فشعره‭ ‬كان‭ ‬ثوريا‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬وتقليديا‭ ‬في‭ ‬شكله‭ ‬الفني،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬حقق‭ ‬انسجامه‭ ‬وتفجرت‭ ‬فنيته‭ ‬مع‭ ‬اعتماده‭ ‬الشكل‭ ‬الجديد‭.‬

ولعل‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬هاجم‭ ‬نزار‭ ‬من‭ ‬إيديولوجيي‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬‭ ‬و»الحديث‮»‬‭ ‬هم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يتمكنوا‭ ‬من‭ ‬تفكيك‭ ‬التناقض‭ ‬الذي‭ ‬ينهض‭ ‬عليه‭ ‬شعره،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬الصوت‮»‬‭ ‬و»الضمائر‭ ‬المتكلمة‮»‬‭ ‬وأغراهم‭ ‬أن‭ ‬يهملوا‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬وجه‭ ‬الشاعر‭ ‬وأقنعته‭ ‬الفنية‭. ‬فهناك‭ ‬المسقط‭ ‬على‭ ‬صوته‭ ‬من‭ ‬‮«‬أصوات‭ ‬المجتمع‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬‮«‬أصوات‭ ‬التاريخ‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬الخليفة‮»‬‭ ‬وصوت‭ ‬رغباته،‭ ‬و»شهريار‮»‬‭ ‬وأناه‭ ‬السلطوية‭ ‬الكلية‭ ‬المتطلبة‭ ‬للأنثى‭ ‬تطلبها‭ ‬السلطة،‭ ‬وهناك‭ ‬‮«‬صوت‭ ‬الشاعر‮»‬‭ ‬وهناك‭ ‬‮«‬تمثلات‭ ‬أنثوية‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭ ‬و»أنوات‮»‬‭ ‬نساء‭ ‬تندمج‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬الشاعر‭. ‬لقد‭ ‬تخفف‭ ‬نزار‭ ‬من‭ ‬ذكوريته،‭ ‬عبر‭ ‬لعبة‭ ‬التمثل‭ ‬في‭ ‬التعبير،‭ ‬والإيهام‭ ‬الجمالي‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬نيابة‭ ‬عنهن،‭ ‬ففي‭ ‬شعره‭ ‬هناك‭ ‬جدل‭ ‬أصوات‭ ‬هو‭ ‬جدل‭ ‬‮«‬أنوات‮»‬‭ ‬تدخل‭ ‬فيه‭ ‬عناصر‭ ‬متعددة‭ ‬ومتناقضة‭ ‬ومتباينة‭ ‬المصادر . ‬وأحيانا‭ ‬ما‭ ‬ينهض‭ ‬العمل‭ ‬الشعري‭ ‬لدى‭ ‬نزار‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الفنان‭/ ‬الرجل،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬أحايين‭ ‬كثيرة‭ ‬ما‭ ‬ينهض‭ ‬العمل‭ ‬ويتحقق‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬ثالثة،‭ ‬أرض‭ ‬مبتكرة‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬لتكون‭ ‬أرض‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬المرأة‭ ‬والرجل،‭ ‬مساحة‭ ‬حرة،‭ ‬يتحرر‭ ‬فيها‭ ‬الفنان‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬المجتمع‭ ‬والماضي،‭ ‬ويكون‭ ‬خفيفا‭ ‬ورشيقا،‭ ‬وأكثر‭ ‬استعدادا،‭ ‬بالتالي،‭ ‬للتنازل‭ ‬أمام‭ ‬المرأة‭ ‬عما‭ ‬خصه‭ ‬به‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬تمييز‭ ‬ومن‭ ‬سلطة‭ ‬شبه‭ ‬مطلقة‭ ‬مجيرة‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬لإخضاع‭ ‬المرأة‭ ‬بصفتها‭ ‬‮«‬آخر‮»‬‭ ‬مختلفا،‭ ‬فنزار‭ ‬في‭ ‬ناحية‭ ‬من‭ ‬عمارته‭ ‬الشعرية‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬المرأة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أكثر‭ ‬قوّة‭ ‬من‭ ‬الرجل،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لكونها‭ ‬تلد‭ ‬وتنجب‭ ‬وتمنح‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬ذاتها‭ ‬بصورة‭ ‬ملموسة‭ ‬أكثر‭ ‬كثيرا‭ ‬مما‭ ‬يفعل‭ ‬الرجل،‭ ‬وإنما‭ ‬لكونها‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬ذاتها‭ ‬المدعوة‭ ‬إلى‭ ‬التحرر‭ ‬أسرار‭ ‬الجمال‭ ‬والقوة‭ ‬معا‭.‬

‭-‬V‭-‬

من‭ ‬ذلك‭ ‬الفضاء‭ ‬الثالث،‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬الأرض‭ ‬الثالثة‭ ‬بنى‭ ‬نزار‭ ‬موقعه‭ ‬الفريد‭ ‬في‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬فهم‭ ‬عدم‭ ‬استجابة‭ ‬تجربة‭ ‬نزار‭ ‬للنقد‭ ‬بصورته‭ ‬المانوية‭ ‬السائدة‭ ‬التي‭ ‬تقسم‭ ‬العالم‭ ‬وفق‭ ‬أيديولوجيتين‭ ‬تقليدية‭ ‬متزمتة‭ ‬و»حداثية‭ ‬استعلائية‮»‬‭. ‬نزار‭ ‬ذهب‭ ‬نحو‭ ‬منطقة‭ ‬ثالثة،‭ ‬لذلك‭ ‬وقفت‭ ‬له‭ ‬متاريس‭ ‬النقد‭ ‬وهوجم‭ ‬من‭ ‬الجبهتين،‭ ‬ولم‭ ‬يقصر،‭ ‬هو‭ ‬نفسه،‭ ‬عن‭ ‬مهاجمة‭ ‬كلا‭ ‬الجبهتين،‭ ‬بلا‭ ‬كلل،‭ ‬وكان‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬شرسا‭ ‬في‭ ‬مقاومته،‭ ‬ومتطرفا‭ ‬وطريفاً‭ ‬معً‭ ‬في‭ ‬سخريته‭. ‬وفي‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬قصتي‭ ‬مع‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬لعب‭ ‬نزار‭ ‬بنفسه‭ ‬دور‭ ‬الناقد،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬‮«‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬قصتي‭ ‬مع‭ ‬الشعر،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكتبها‭ ‬أحد‭ ‬غيري‮»‬‭ ‬ولسان‭ ‬حاله‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أرسم‭ ‬وجهي‭ ‬بيدي،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬وجهي‭ ‬أحسن‭ ‬مني‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬جملة‭ ‬مضادة‭ ‬مباشرة‭ ‬موجهة‭ ‬نحو‭ ‬النقاد‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬‮«‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أكشف‭ ‬الستائر‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬بنفسي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقصني‭ ‬النقاد‭ ‬ويفصلوني‭ ‬على‭ ‬هواهم،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يخترعوني‭ ‬من‭ ‬جديد‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬الجملة‭ ‬الأخيرة‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬حذر‭ ‬بشخصية‭ ‬الناقد‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬فهو‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يلغيه،‭ ‬ولكنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقدّم‭ ‬صورته‭ ‬هو‭ ‬كما‭ ‬عرفها‭ ‬هو،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يريدها،‭ ‬وحيث‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعرفها‭ ‬كما‭ ‬عرفها،‭ ‬أو‭ ‬يريدها‭ ‬كما‭ ‬يريد‮…‬‭ ‬لقد‭ ‬قدّم‭ ‬نزار‭ ‬خطابا‭ ‬موازيا‭ ‬لشعره‭ ‬هو‭ ‬بمثابة‭ ‬الشهادة‭ ‬على‭ ‬تجربته‭ ‬وأيا‭ ‬يكن‭ ‬موقفنا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬فإن‭ ‬نزار‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬ينصفه‭ ‬النقد،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬ينصف‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬بأسرها،‭ ‬ولم‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬قدرته‭ ‬المتواصلة‭ ‬على‭ ‬توليد‭ ‬خطاب‭ ‬ثوري‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمرأة،‭ ‬وعلى‭ ‬الإدهاش‭ ‬الفني،‭ ‬كما‭ ‬تعامل‭ ‬مع‭ ‬دهشته‭ ‬من‭ ‬جرأته‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬الشعري‭ ‬عن‭ ‬موقفه‭ ‬الثابت‭ ‬من‭ ‬الاستبداد‭ ‬ومن‭ ‬احتلال‭ ‬فلسطين. ‬نزار‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬صاحب‭ ‬مشروع‭ ‬سياسي‭ ‬أبدا،‭ ‬لأن‭ ‬المرأة‭ ‬هي‭ ‬سياسته،‭ ‬ولأن‭ ‬خطابه‭ ‬يتمحور‭ ‬حولها،‭ ‬أساسا،‭ ‬فهي‭ ‬صانعة‭ ‬لحضارة‭ ‬يدمرّها‭ ‬الرجال،‭ ‬ولأنه‭ ‬شاعر‭ ‬بنى‭ ‬أسطورته‭ ‬بأجزاء‭ ‬من‭ ‬صورتها‭ ‬فأحبها‭ ‬وأحب‭ ‬نفسه‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬الهجاء‭ ‬السياسي‭ ‬فنزار‭ ‬لاعب‭ ‬بأعصاب‭ ‬باردة‭.‬

ولو‭ ‬كان‭ ‬السؤال‭: ‬كم‭ ‬يبقى‭ ‬من‭ ‬نزار‭ ‬وشعره‭ ‬في‭ ‬المستقبل؟‭ ‬فهذا‭ ‬متروك‭ ‬للمستقبل،‭ ‬لكن‭ ‬نزار‭ ‬بكل‭ ‬نرجسيته‭ ‬وتناقضاته‭ ‬وجمالات‭ ‬شعره،‭ ‬وحتى‭ ‬إخفاقات‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬شاعر‭ ‬عصره‭ ‬بلا‭ ‬منازع‭.

لندن‭ ‬في‭ ‬مايو‭/‬ايار‬2018

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.