الحقيبة
ما أروع السفر عند الفجر. تسير اللّحظات في هدوء وصمت، وتتوشّى الطبيعة بحلّة من نور قدسي جليل، يسقي الفؤاد من كؤوس الدّعة ومن عسل الوقت ما يحمل على التحليق بعيدا حيث اللاّمكان واللاّزمان.
للرحيل نحو مراتع الطفولة طعم لذيذ مستطاب. ولإيقاع السّفر نغمات تنشدها عجلات السّيارة وأزيزها مع صوت المذياع الذي ينفخ في روح السائق المتمسك بمقوده، مثل تمثال من البرونز. ومع كل رحيل، تستيقظ الذاكرة، فترحل عبر محطّات العمر، وتمسح الغبار عن صور… صور باهتة، وأخرى ناصعة، صور قاتمة وأخرى زاهية، صور صامتة وأخرى صاخبة، صور مبهجة وأخرى محزنة، صور بسيطة وأخرى مركبة، كلها من فسيفساء العمر وفتافيت الزمان.
وتبقى صورة أمي أجمل وأروع من كلّ الصور. رسمت بمداد الحب ونسجت من إبريز الحنان، وطرزت بحرير المعاني من كل اللّغات. تسكنني صورة أمّي مؤنسة وحدتي في رحيلي وعلى إيقاع سرعة السيارة تهدهدني بصوتها الملائكي فتوقظ فيّ انتشاءة الحالم فأناجيها:
“أمّاه يا وردتي الحمرة.
كنت لي في صقيع العمر بُردة
وفي سعير الدهر نسمة عذبة
دثّريني دثّريني لأرى وجهك في لياليّ نجمة
أمّاه! يا ريحانة البساتين! ويا من كنت في حياتي أعذب نغمة”.
****
لم أكن أعلم لهديتي هذه نبضا يحرك نبضي، ولم أتخيل أن رغبة الكتابة تولد وتنبع من هذه الشاشة الصغيرة الشهية المطلة على العالم الشفاف الأزرق. هدية غالية لأنها من ابني الذي قسا الدهر علينا فنبت الصبار والعوسج على عتبات الوقت.
هذا الصندوق الصغير، جنائن ورد وفل وياسمين، وحدائق الروح ثملى بالمحبة الوارفة.
ها أنا أكتب على صفحات الصندوق ذاكرتي وأشد على تلابيب الكلمات والمعاني والصور بكل الخلايا وحروفي تتسابق مع أشجار الزيتون على جنبات الطريق، في مشهد تشكيلي سريالي عجيب، أوراق شجر الزيتون العابقة برحيق الزيت والشيح تنسج رداء القصة خيطا خيطا، وتحكي رحلتي إلى ربوع الطفولة مع رحلة الحقيبة السوداء.
****
تثاءب صباح يوم الأحد ثقيلا نفخ فيّ خمولا لم أعهده، فكرت في نزهة لكن الطقس بارد والسماء ملبّدة بسحب كثيفة، لذت ببعض الأعمال في حديقتي لكنّي لم أشعر بلذة العمل المعتادة. تركت بعض النباتات على الطاولة على أمل غرسها لاحقا.
وقصدت مكتبتي بحثا عن فسحة بين صفحات كتاب. وما إن غصت في القراءة حتى رنّ هاتفي المحمول، إحدى قريباتي على الخط:
– ألو، ريما، صباح الخير.
– صباح النور سعاد.
– الله يفرحك ريما، بنتي سلمى رجعت من الجزائر عبر الحافلة وها هي ستكلمك.
– الحمد الله على سلامتها، كم شهرا بقي لها لتناقش رسالة الدكتوراه؟
– ها هي معك ستحدثّك.
– ألو، تاتا ريما.. لا باس؟ كيف حالك؟ صحتك بخير؟ أولادك بخير؟ إن شاء الله صحتك جيدة.
– أهلا سلمى. الحمد الله على سلامتك، رجعتِ عبر الحافلة، لا بدّ أنك تعبت. كيف حال ظروف جامعة بومدين، والجوّ الجامعي فيها، والحياة بالجزائر “باهية”؟
– لا باس والحمد لله. يعيّش تاتا، راني نسيت حقيبتي بمحطة الحافلات بالجزائر، لأني غيرت الركوب في الحافلة التي انطلقت مبكرا، وتركت حقيبتي في الحافلة الأولى، ومراقب الحقائب وعدني كي يرسلها إليّ لاحقا مع السائق.
– جيد، الحمد الله، توفقت لإرسالها إلى تونس. بارك الله فيهم.
– يعيش تاتا الله يفرحك، السائق الجزائري هاتفني وهو يقترب من الوصول إلى محطة باب عليوة، وقال لي لن يسلم الحقيبة إلا إليّ شخصيا، لكنّي أعطيته هاتفك واسمك، كي تتسلميها منه، وهو مستعجل لأنه سيعود إلى الجزائر.
– باهي. إن شاء الله أجد تاكسي، لأن سيارتي معطّبة، أرسلي إلى رقم هاتفه وسأذهب إلى محطة باب عليوة حالا.
رتبت هندامي على عجل. هاتفني السائق فطمأنته “مسافة الطريق” وأنا في انتظار التاكسي. انتظرت نصف ساعة والسائق لا يكفّ عن مهاتفتي وهو يتذمّر من بطئي، وأنا محتارة بين أوامر السائق وأوامر سلمى التي هي الأخرى متخوّفة على ضياع حقيبتها مرة ثانية. وقفت تاكسي تحمل امرأتين ورضيعة، سألني سائقها عن عنوان، فدللته عليه ورجوته أن يوصلني إلى المحطة بعد إيصال المرأتين، وقصصت عليه حكاية الحقيبة بإيجاز. قبل طلبي عن طيب خاطر، متعاطفا معي معلقا على هذه المفاجآت بقوله “يجيك البلاء يا غافل”، كم ينقصنا النظام نحن العرب نعيش الفوضى طولا وعرضا.
واصلنا السير نحو محطة باب عليوة والسائق يطوي الأرض طيّا. وقد طمأن السائق الجزائري أننا سنصل بعد ربع ساعة، ووصف له نوع سيارته ورقمها. بلغنا المحطة وبقي سائق التاكسي في انتظاري للعودة بالأمانة.
دخلت مرآب الحافلات، هاتفت السائق الجزائري، لم يظهر، رحت أسأل عن حافلة قسنطينة فلا دليل ولا جواب. كررت مهاتفة السائق فرد قائلا “تعالي نحو الحافلة ذات اللون الأخضر”. فرددت عليه “يا خويا الحافلات الخضراء كثيرة. حدد مكانك بدقة. أو اخرج لأراك. تقدمت قليلا نحو الجهة اليسرى فإذا بشاب بدين يتدحرج في مشيته يجرّ حقيبة سوداء فعرفته وأعطيته بعض المعلومات عن صاحبة الحقيبة! اطمئن إليّ وسلمني الحقيبة.
تنفست الصعداء وعدت بالحقيبة قابضة عليها كمن يقبض على كنز ثمين، ساعدني سائق التاكسي على وضعها في الخلف معلقا: “الحمد لله على وصول الأمانة”.
وصلت إلى بيتي منهكة من السرعة واللهاث، وهاتفت سلمى. طمأنتها على وصول حقيبتها ووعدتها أن أوصلها لها بعد يومين، وأودعت الأمانة في غرفة الأثاث الزائد ودسستها بين الثلاجة والغاز وأغلقت الباب بالمفتاح.
لذت بالفراش علّي أجد في القيلولة ملاذا مريحا، وبقي خيالي ينسج لي قصصا غريبة. ما محتوى هذه الحقيبة؟ هل صحيح أنها، كما وصفت لي سلمى، تحوي مذكرات دروس الجامعة وصورا من شهاداتها؟ وتعاظمت هواجسي واسترجعت الكثير من قصص التهريب. ألا تكون هذه الحقيبة مشحونة بالمخدرات؟ أو بالأسلحة؟ أو أيّ ممنوعات خصوصا أن حمولتها ثقيلة؟ لعنت الشيطان وحاولت النوم طاردة هواجسي ومخاوفي، وهونت الأمر خاصة أنني سأسافر بعد يومين وأتخلص منها وكم صعب عليّ فتحها! وتمنيت لو كانت لي تلك الآلة الفاحصة التي يراقب بها الأمن حقائب المسافرين.
****
السيارة تسابق خيوط الشمس والسائق يترنم على أنغام أغنية شعبية جزائرية عن الغربة ومآسي المغتربين، والركاب صامتون بعد أن هدتهم نقاشات طويلة عن تحركات الإرهابيين.
المعارض س ع يفضح الإرهاب، وينشر فيديو لأول مرة من المنطقة العسكرية المغلقة من جبل سمامة، يثبت فيه كذبة وجود الإرهابيين بجبل الشعانبي وسمامة في 2019. الإرهاب هو إرهاب الخونة وبعض الأحزاب والنظام الفاسد للبقاء في الحكم واستغلاله لأجندات سياسية. وفتح السائق تسجيل الفيديو (ما ثماش إرهاب لا في سمامة لا في جبل الشعانبي ولا في جبل السلوم، ثمة إرهاب الدولة. الإرهاب عملتو الدولة والإخوانجية والأحزاب الفاسدة).
تراكمت عليّ المخاوف، وكدت أسمع الحقيبة في صندوق الحقائب تنفجر، وتراءت لي علب في شكل قنابل تخرج في سلسلة عجيبة تشبه ذيل عفريت عملاق، وتتابعت صور أغرب، قراطيس مختلفة الألوان محشوة بمساحيق بيضاء وكستنائية، وسرعان ما تحولت تلك الأكياس إلى صور عقارب كبيرة صفراء وداكنة تتلوى في انفعال ويكبر حجمها وتهجم علينا نحن المسافرين الحالمين بالوصول إلى أقصى الجنوب، عقارب سامة تهاجمنا، تخدش وجوهنا، تتخبأ بين طيات ثيابنا، تتبختر على أصابعنا، تهدّدنا باللسع ترهبنا ترعبنا ولا تلسعنا، بلغت إحدى العقارب جبيني وبدأت تنحدر نحو عيني، دبيبها في طعم الموت، سمها سيف في حالة تأهب قصوى، بسملت، تعوذت بالله وشهّدت، مرتخية مستسلمة لقضاء الحقيبة السوداء. قويت حركات العقرب على صدغي، صرخت مذعورة صرخة عالية انتفض لها السائق والمسافرون، أفاقوني من هذا الكابوس، وعاتبوني عتابا باردا.
عدت إلى حقيقتي، حقيقة السفر، تاركة هواجسي مشنوقة على سطح السيارة التي تسابق الريح والأشجار، ولعنت الشيطان وغصت في ترديد بعض آيات التحصين، لأتخطى سرداب الخوف.