الخيال والكارثة والإنسان
يمكن الحديث عن حضور الكوارث في مختلف المناحي الحياتية، فأينما تلفّتّ من حولك يمكن التعثّر بكوارث محدقة بك، تسعى لمحاصرتك، وهي تختلف بحسب الشخص، فلكلّ امرِئ كوارثه الخاصة أيضاً ضمن المشهد العام، لكن يبدو لي أنّ من أخطر أنواع الكوارث تلك التي تقعد الإنسان عن المحاولة، وتعدم في روحه رغبة البحث عن سبل لتلافيها، وتبقيه رهين التحجّر والانغلاق، وهو ما يمكن تسميته بالموات، أو بحياة مجمّدة معلّقة لا وجود فعلياً فيها للمقاومة أو المغامرة.
حين يصل المرء إلى تخوم اليأس أو يغرق في طياته يفقد أيّ إحساس بالمعاني التي كان يؤمن بها، أو تلك التي كانت تحتلّ حيزاً في تفكيره وكيانه، ينحدر ليبقي نفسه في مستنقع يتغوّل من حوله ويحكم قبضته الكابوسية عليه، بحيث يفقد خيوط أو خطوط التواصل مع واقعه وما يثرى به من جماليات، يحيط نفسه بالكارثة، يقع فريستها، ويعمل على تعميمها ليجعلها كارثة تحلّ على غيره أيضاً.
في عالم اليوم يمكن اعتبار الكثير من الأمور كوارث إذا ما تعاطينا معها بمنطق الاستعداء والسلبية، ولكن يمكن من جهة أخرى العثور على نقاط تنزع عنها صفة الكارثية وتحيلها إلى جوانب يمكن أن يستفيد منها الإنسان، ولا يبقي نفسه محصوراً بأحكام مسبقة أو استعداء لا محيد عنه، وكأنّه قدر يتحكّم به.
قد يعتبر بعضنا العالم الافتراضي كارثياً من حيث تبديده للخصوصية وإغراقه يومياتنا بالتفاصيل الكثيرة التي تخرجنا من طور إلى آخر، وتضعنا في مواجهة حروب سيبرانية لا تقلّ فتكاً وإيذاء عن الحروب الواقعية، وهي حقيقة لم يعد بالإمكان تجاهلها، لكن من جانب آخر لا يمكن أن نغفل عن حقيقة أن العالم الافتراضي جمّل حياة الملايين بما يضخّه من معلومات وما يوفّره من فرص للتواصل والحياة، وما يثيره من حركية في عالمنا المعاصر الذي تغيّر وجهه إلى الأبد.
كيف يمكن ترويض ما يمكن وصفه بالكارثة..؟ هل يمكن اعتبار الكوارث نسبية ومتغيرة من شخص إلى آخر أم أنّ المفاهيم والمصطلحات زئبقية بشكل تبدو فيه متناسبة مع “الحياة السائلة” التي نعيش وجوهها المختلفة اليوم؟ هل يمكن للأدب والكتابة تجنيب الناس الوقوع في الهاوية؟ كيف يمكن تجنّب الكارثة التي نعاني من وطأتها في واقعنا؟ أين موضع الداء؟ ألسنا نبالغ بالحديث عن الرزوح في معمعة الكوارث والفجائع المتشعّبة في الواقع؟ على ماذا نراهن للخروج من أزماتنا؟
أمام المحن التي تبدو أنها تحاصر الكاتب وتقيّده في عالمه وتعمل على حصره في زوايا بعينها، بحيث تقصيه إلى الهامش، وتدفعه لتخوم اليأس من أيّ تغيير إيجابيّ محتمل أو مأمول، يبدو الأدب بمختلف أجناسه من أبرز العوامل المساعدة على النهوض بالمجتمعات، وتمهيد السبل أمامها للانتقال إلى غدها متسلّحة بأسلحة وجدانية من شأنها أن ترمّم أيّ هشاشة تتخلّل الدواخل أو تشوّهها.
تتيح الكتابة للأدباء والقرّاء إنتاج عالم أفضل في الواقع، أو البحث عن السبل للانتقال إلى عالم أفضل، تبقي جذوة الأمل متّقدة في الأرواح، وتحتفظ بقوّة محرّضة على عدم الارتكان إلى اليأس، وإن كان ذلك عبر مواجهة المخاوف والهواجس التي تبدو متضخّمة باعثة على القنوط من شدّة تأثيرها وحضورها وقوّتها واتّساعها.
يمكن للكتابة أن تطهّر الإنسان من داخله، تبحر عميقاً في عتمات نفسه لتثير لديه نزعات الأمل وبواعثه، كي لا يفقد إيمانه بالإنسان، ولا يقع صريع الكوارث التي يمكن أن تودي به، لأنّ أعظم الكوارث التي يمكن أن تلحق بالإنسانية هي خلوّها ممّا يسمها من قيم وأخلاقيات، ومن المسؤوليات والواجبات والالتزامات، فيكون التطهّر الداخليّ سبيلاً للسلام الداخليّ والسلام والتصالح مع الآخر أيضاً.
لا يخلو زمن من كوارثه، من تفاهاته وقذاراته والتلوّثات التي توحي لأبنائه أنهم يعيشون أو يمرّون بأسوأ فترة من تاريخ البشرية، لكن على النقيض من ذلك لا تخلو فترة زمنية من اكتشافات وعلوم ومعارف تجمّل الحياة وتواجه القباحات وترسّخ الإيمان بقيمة الإنسان وتقزّم ممّا يصم الواقع من منغّصات ومآسٍ.
في كتابه “الرياح تطهّر الأرض” يؤكّد جنكيز إيتماتوف على ما يصفه بمسؤولية الإنسان عن المستقبل، ويقول إنّ الإنسان يتحدّث عن الإنسان من سالف الزمان. ولعل هذا الحديث المتجسّد في أغنية أو حكاية أو كتاب أو لحن أو مسرحية يحكي للعالم من قديم الزمان لمختلف اللغات واللهجات عن شيء واحد بعينه: عن مصير الإنسان، عن الناس وأعمالهم وأحلامهم، عن الفضائل والرذائل، عن الصراع والحروب، عن الواجب والضمير، عن جمال النساء والرجال، عن الحبّ والفراق، عن الولادة والموت، عن كل مقومات الحياة. والإنسان طوال كلّ تاريخه يصغي إلى هذا الحديث بتعطّش لا يرتوي.
ولا يخفى على أحد أنّ يمكن للمرء أن يكون مسكوناً بالكوارث بمعنى ما، يحملها معه أو يسير إليها، وهنا مثلاً يمكن استحضار مثال روائي للروائية الأميركية من أصل كوري مين جين لي في روايتها “باتشينكو” التي صوّرت فيها صوراً من كوارث تاريخية ومعاصرة، ومارست نوعاً من الإسقاط، بحيث تدفع القارئ للتماهي مع شخصياتها ومعايشتها والبحث معها عن سبل لتجنيبها كوارثها.
تفتتح الكورية مين جين لي روايتها بمقولة لتشارلز ديكنز يقول فيها “الوطن كلمة ذات معنى، وقعها في النفس أشد من سحر الساحر، وتأثيرها في الروح أعظم من شعوذة أمهر المشعوذين”، وتحدد تاريخ 1910 – 1933 كفترة زمنية تدور فيها الأحداث. وكأنها حين تختار عنوان لعبة مشهورة لروايتها تشير إلى أن الحياة عبارة عن مغامرة، أو مقامرة بمعنى ما، وأن السعي والجد والاجتهاد والإحساس بالمسؤولية وغير ذلك من الأمور الإيجابية قد لا تكفي حين لا يصادف الحظ صاحبه، أو حين يستغني عنه أو يبتعد عنه، فيكون وجهاً لوجه أمام مشقات لا تخطر له على بال.
تؤكّد جين لي على خذلان التاريخ للكوريين، تصرح الراوية بداية بنوع من الجزم بأن التاريخ خذلهم، ثم تستدرك بالإشارة إلى أن ذلك لا يهم، وكأن عدم الأهمية ينبع من الرغبة في تناسي مآسي التاريخ والالتفات إلى ما يحمله المستقبل من مفاجآت أو ما يفترضه من عمل وجهد لتلافي خيبات الماضي. وترمز إلى تخييم الحزن على الشخصيات في النهاية، وكيف أن الواقع البائس يتجلى بصور قاسية ومؤلمة، يكون المشهد الختامي تجسيداً لحال بعض الشخصيات التي حاولت التشبث بما لديها أملاً بالاحتفاظ بما يتيسر لها من سعادة مسروقة من دوامة الزمن.
تنقل الخيبة التي تلاحق الشخصيات، فأحد أبطالها واسمه نوا يضطر لترك عمله وهو الأكاديمي المتخرج في أحدث الجامعات ليبدأ بالعمل في الباتشينكو، وهي لعبة قمار، وكأن القمار يكون مخلصه من الإحباط الاجتماعي الذي يغرقه ويغرق المحيطين به في وحول اليأس والهزيمة. ولا تجدي محاولات أمّه ومحبّيه بالتأكيد له بأنه يستحق أكثر من ذلك، وأن عليه ألا يذعن للانكسارات، وعليه مواجهة الواقع والتغلب على الصعاب، لكن ذلك يظل كلاماً عابراً بالنسبة إليه، ولاسيما أنه يدرك مدى فداحة الخسارة في الواقع، وكيف أن الناس فقدوا كثيراً من حس المسؤولية لديهم، وانقلبت الموازين بشكل مثير للاستغراب وباعث على التفكر والمراجعة.
لعلّ الخيال البشريّ هو أعظم ثروة بشريّة يمكن التعويل عليها – إلى جانب العقل – في تجنيب الكارثة، سواء كان هذا الخيال أدبيّاً أم علمياً، سواء كان خيال شاعر أو روائيّ أو سينمائيّ أو عالم، لأنّ الخيال يواصل البحث عن عوالم بكر تثري الواقع وتنير الطريق إلى المستقبل، وما نشهده من إنجازات علمية وتكنولوجية تكاد توصف بالمعجزات التاريخية ما هي إلّا نتاج المخيّلة البشرية السحرية التي تستحقّ أن يكون الرهان عليها والإيمان المطلق بها.